صفحات الرأي

صعود الفاشية ونهايتان للتاريخ/ طارق أبوالعينين

 

 

 

دُشنت الفاشية تاريخياً باعتبارها نمطاً راديكالياً من أنماط الحكم المناقضة للمنظومة الليبرالية بقيمها ومفاهيمها ومؤسساتها. ومن ثم فقد مثَّل صعودها المدوي أخيراً إلى صدارة المشهد في أميركا وأوروبا صدمة للكثيرين تتعلق بالكيفية التي يمكن من خلالها أن تفرز مجتمعات ديموقراطية راسخة كتلك نظم حكم فاشية، وهي التي قضت القرن العشرين في مواجهة نظم الحكم الفاشية والشمولية، إلى أن انتهى الأمر بانتصار الليبرالية، بل واعتبارها نهاية للتاريخ.

اللافت هنا أن اللحظة التاريخية التي شهدت إعلان الليبرالية انتصارها النهائي كنهاية للتاريخ كانت بمثابة نقطة تقاطعت فيها مع الفاشية، على رغم كونها الخصم التاريخي لها. فالليبرالية الغربية مرت بمراحل وأطوار تطورت من خلالها منذ بزوغها في القرن الـ17 حتى استقرارها كفلسفة سياسية أساسية في القرن العشرين. وهي حين ولجت هذا المسار التاريخي الطويل لتصل إلى نهايته، كانت قد فككت قيماً ومفاهيم مثلت بنوداً تأسيسية لها لحظة ميلادها، فأصبحت بذلك الليبرالية المعاصرة بنزعتها الاستهلاكية والتقنية مناقضة لليبرالية الحداثية بنزعتها الثورية العقلانية لتدخل مرحلة من التيه الفكري، بعدما انفصلت عن جذورها المعرفية الحداثية، وأخفقت في الوقت ذاته في بلورة القيم الحقيقية لنموذجها المعاصر.

إن الليبرالية الكلاسيكية التي خرجت من رحم الفلسفة الحديثة في القرنين الـ17 والـ18 كانت معنية بفكرة كيف يمكن أن تتشكل أغلبية شعبية تمنح نظم الحكم الشرعية الدستورية والقانونية لممارسة سلطاتها، عبر المؤسسات الديموقراطية. إلا أن القرن الـ19 حمل تطوراً مهماً في مسار الفكر الليبرالي بفضل الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، الذي ألمح للمرة الأولى إلى حقوق الأقليات السياسية في التعبير عن ذاتها في مواجهة الأغلبية. وهي الأطروحة التي تلقفها فلاسفة الليبرالية المعاصرون عند مطلع القرن العشرين في دعواهم لمواجهة ما أطلقوا عليه طغيان الأغلبية. وامتداداً لهذا التحول تخلت الليبرالية للمرة الأولى عن نزعتها الثورية العقلانية بفعل ما عرف بحركة التفريغ الأيديولوجي التي بزغت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وضمت مجموعة من أبرز علماء الاجتماع الأميركيين مثل دانيال بيل وتالكوت بارسونز وسيمور ليبست، إضافة إلى المؤرخ الليبرالي الأميركي أرثر شليزنغر والفيلسوف الفرنسي ريمون أرون. وتمثلت الأطروحة الأساسية لتلك الحركة في حلول التطور التكنولوجي والنمو الاقتصادي كبديلين للأيديولوجيا، ومن ثم نهاية مفاهيم كالثورة واليوتوبيا من قاموس البشرية باعتبارها راديكالية معوقة للتقدم التقني والاقتصادي. واكتمل الموقف الفكري الليبرالي وقتها بالنقد اللاذع الذي قدمة أرون والفيلسوف البريطاني كارل بوبر لتاريخانية القرن الـ19 التي وفرت من وجهة نظرهما التربة الفكرية الخصبة لظهور الفاشية والنازية والشيوعية.

فرفض الليبرالية المعاصرة الثورة والأيديولوجيا والمطلقات اليوتوبية ونقدها لتاريخانية القرن الـ19 في سياق مواجهتها الفاشية وتأسيسها مقولة نهاية التاريخ تكاد تتطابق مع المضامين الأساسية للمنظومة الفاشية في سرديتها المضادة بشأن نهاية التاريخ. فوفق ما أشار المفكر السياسي البريطاني أندرو هيود في كتابه «مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية»، فإن الفاشية دُشنت تاريخياً متمحورة حول مقولة «لقد ماتت» سنة 1789 التي بلورت عداءها للثورة الفرنسية وما فرزته من قيم تنويرية ديموقراطية كالفردية والمساواة والحرية والعقلانية لتكرس بدلاً منها لأفكار ومفاهيم كالصراع والقيادة والبطولة والقوة. وبذلك حلت فكرة إرادة القوة ونموذج السوبرمان الذي يرفض الديموقراطية والاشتراكية والمسيحية والبراغماتية البورجوازية بوصفها أخلاقاً للعبيد، وفق وصف نيتشه في كتابه «هكذا تحدث زاردشت»، محل الحداثة وقيمها. هذا الرافد النيتشوي راهن على نموذج السوبرمان كمطلق جينالوجي بديل لتاريخانية القرن الـ19 ولأطر الحداثة السياسية والمعرفية والقانونية، وذلك انعكاساً لمفهوم نيتشه بشأن تحلل قيمة الحقيقة الذي يستمر في صيرورته التاريخية ليصل، وفق وصف مارتن هيدغر، إلى مرحلة الخروج من الحداثة بموت عالم الميتافيزيقا والمثُل عموماً. وهو ما يعني أن صعود الفاشية الشعبوية سواء في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية أو في وقتنا الراهن، يُعد من منظوره الفكري والفلسفي محصلة لصراع متصاعد بين نهايتين للتاريخ تنطلقان من المضامين البنيوية ذاتها، ألا وهي تحرير الإنسان من كل قيمة مطلقة إما لمواجهة أوهام الأيديولوجيا كما افترضت نهاية التاريخ الحداثية أو ازدراءً لأخلاق العبيد، كما طرحت نهاية التاريخ النيتشوية ما بعد الحداثية.

إلا أن كلا المنظومتين لم تفلح في حماية حرية الإنسان وصون حقه في تقرير مصيره أو تأمين حقوق محترمة للأقليات، سواء في مواجهة طغيان الأغلبية الشعبوية الصاعدة في ظل النظم السياسية الليبرالية الحداثية أو في مواجهة طغيان حكم السوبرمان المستبد في ظل النظم النازية والفاشية بنزعتها النيتشوية.

* كاتب مصري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى