صفحات العالم

صفحات في ملحمة حِمص


مونيكا بريتو

ترجمة: الحدرامي الأميني

“مضت علينا ستة أيام ونحن مطوقون بالدبابات والقناصة، بدون أن نستطيع الخروج من البيوت. الدبابات تتحرك بين منازلنا. “المسلحون” ينهبون البيوت التي بقيت خالية مقابل حي بابا عمرو. اليوم دخلوا إلى هناك رسمياً، ويقومون باعتقال كل الرجال الذين يصادفونهم”.

كان هذا فحوى محادثة استمرت على مدى أسبوع عن طريق إحدى الشبكات الاجتماعية مع مواطن غُفل من حمص، شاهد مُكرَه على الحملة العسكرية التي يسعى نظام الأسـد بواسطتها للقضاء على المعارضة الداخلية بطلقات المدافع. هذا الشاب المهني ذو التكوين الأكاديمي، الذي سنشير إليه على أنه “خالد”، يقيم في حي مجاور لحي “باب عمرو” المشار إليه، الذي تحول إلى رمز للمقاومة ضد النظام وهو الأكثر معاناة في حمص، المركز الحضري الذي يحوي أكثر من مليون ساكن، والمدينة الثالثة في الأهمية في هذا البلد العربي.

قبل قليل من اكتمال أسبوع على أكبر حملة عسكرية على هذه المدينة السورية الهامة، مركز الثورة الشعبية ضد الديكتاتورية في هذه الشهور السبعة من الاحتجاجات، سقط حي “باب عمرو” أمس حسب ما رواه شهود عيان لـ “كوارتو بودير” في أيدي الجيش السوري والشبيحة، الميليشيا الموالية للأســد. إنه تطور مفاجىء أضعف من معنويات سكان حمص وبقية السوريين، ولكنه لا يجعلهم يتخلون عن ثورة تهدف إلى التخلص من الديكتاتورية وتتعرض لخطر أن تتحول، بفضل النظام، إلى نزاع أهلي. وخاصة بعد الظهور المفاجىء للجيش السوري الحر، هذا التشكيل من العسكريين المنشقين الذي أخذ يزداد قوة في بعض المدن، والذي يفسر حضوره في حمص، كما يمكن أن يظهر في أشرطة الفيديو، لماذا احتاج حي بابا عمرو إلى سـتة أيام للسقوط في أيدي القوات العسكرية لنظام دمشق.

“نحن ننتمي لكتيبة الفاروق في الجيش السوري الحر”، يوضح الضباط الذين يظهرون بطاقاتهم العسكرية للكاميرا وهم يرتدون بزاتهم الرسمية.” نحن من الجيش السوري الحر وقد جئنا إلى هذا الحي من أجل الدفاع عنه”. يؤكد الملازم قبل أن يفسح المجال لضابط برتبة نقيب. تدريجياً يحيط السكان بهؤلاء العسكريين ويرحبون بهم ويشكرون حضورهم؛ وفي عمق المشهد، تُسمع طلقات الجيش السوري”.

يشرح خالد أنه في يوم الاثنين غادر الجيش السوري الحر بابا عمرو لأنه “كان سيتم محوه من الخريطة” بعد أسبوع من العمليات المتصاعدة، من الكمائن وأسر العسكريين، إلى القصف بالسلاح المحدود الذي يملكونه ضد مواقع عسكرية رسمية.

“يطلبون منا معلومات حول أماكن تموضع القناصة من أجل قتلهم، يعلنون حظر تجول غير رسمي…. من جانب آخر، كثيرون من جنود الأسـد يظهرون تعاطفاً مع الثورة. بالأمس فقط أوقفني أحد الجنود وطلب مني أوراقي: بعد محادثة قصيرة قال لي إنه يأسف كثيراً لما يحدث، خاصة وأنه في العيد (عيد الأضحى)، وقال لي إنه لو استطاع، فسيكون مع الجيش الحر”.

في حي آخر من أحياء حمص يوجد أبو ياسين، الاسم المستعار لأحد السكان، وهو الآخر ذو تأهيل مهني عال، ويتدخل للتعليق على الأحداث في محادثة هاتفية مع “كواترو بودير” بعد أسابيع من المحاولة. “نحن المتظاهرين ليس لدينا أسلحة، فقط الجنود المنشقون في الجيش السوري الحر يمتلكونها وهدفهم الوحيد هو حماية المدنيين”. هذا الجيش مصمم كقوة عسكرية على غرار النموذج الذي تم إيجاده في ليبيا من أجل الوقوف في وجه القمع ويقوده من منفاه التركي العقيد المنشق رياض الأسعد الذي يؤكد وجود ما بين سبعة آلاف وعشرة آلاف رجل تحت قيادته، – قسم منهم في لبنان والأردن وتركيا، حيث يستطيعون من هناك شن غارات محددة، لكن أكثرهم موجودون داخل سوريا – الأهداف الرئيسية للجيش السوري الحر هي “الجيش، المخابرات والشبيحة” يشـرح خالد: “حدثت الكثير من الانشقاقات مؤخراً في أحياء باب السباع والوعر، وانضموا إلى (العساكر المتمردين) في بابا عمرو”.

الحرب الأهلية تتأكد، ولها تشعبات طائفية مقلقة. على درب الجرائم ضد المهنيين المحترفين – أطباء، مدرسين، رجال دين – من مختلف الطوائف التي سممت مشاعر السكان منذ أكثر من شهر، يضاف الآن “القصف” أو الهجمات على الأحياء العلوية في حمص. المدينة، الواقعة على بعد 140 كيلومتراً إلى الشمال من دمشق، هي بوتقة عرقية تعكس بشكل جيد التنوع الثقافي السوري، وترمز إلى الكارثية التي يمكن أن تنتج عن نزاع في ما بين الأديان في هذا البلد العربي.

“جهة ما تقصف حي الزهرا في حمص”، يتحدث خالـد في إشـارة إلى الحي العلوي الرئيسي، وهي الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسـد وكل زمرته. حي الزهرا، حسب الشهادات المجمعة، محمي بنقاط تفتيش يقوم عليها مدنيون علويون وعسكريون أو رجال مسلحون من الطائفة نفسها، وهم يطلبون التعرف إلى هويات كل من يقترب منهم من أجل منع السنّة من اختراقها: “إنهم محميون من قبل النظام لأنهم ينتفعون منه وهم يدعمونه، وليس لأنهم علويون”، يضيف أبو ياسين.

“أعتقد أنه يمكن أن يكون الجيش الحر، لكنني لا أستطيع تأكيد ذلك”، قال خالد مشيراً إلى المسؤولية عن الهجمات ضد الحي العلوي، التي ستصعِّد، من غير شك، التوتر ما بين الطوائف. “شهود كثيرون شاهدوا القنابل تسقط هناك. يمكن أن يكون شيئاً فعله الجيش الحر بهدف تخفيف الضغط عن بابا عمرو ومن أجل توجيه رسالة بأن قصف حمص سيكون عالي التكلفة على العلويين”، يضيف الشاب. الشعب يقع هكذا في فخ التعميم: كل الطائفة العلوية محكوم عليها بسبب أفعال الديكتاتور الذي يوجه سلاح الجيش ضد الشعب الذي كان من الواجب عليه أن يحميه؛ والعلويون، تحت النيران السنية، لا يتأخرون في الشعور بكونهم مهددين في وجودهم بسبب ثورة كانت، في بداياتها، تطالب فقط بإصلاحات ديموقراطية وبنهاية الفساد”.

“نعلم أن النظام هو من يلعب الورقة الطائفية” يواصل خالد، الذي يتقاسم المخاوف نفسها مع مصادر أخرى تمت استشارتها والتي ترى أن حكومة دمشق هي التي أوعزت بعمليات القتل الطائفية الأولى من أجل أن تشعل بهذه الطريقة الخلافات الطائفية وتقسم المتظاهرين. “لكننا الآن لم نعد نحتمل الاستفزازات التي يقوم بها العلويون، في كل مرة يحتفلون فيها بقصف بابا عمرو أو يطلبون فيها من الجيش أن يبقى في حمص”.

وحسبما يقول خالد، فإن الكثير من جيرانه ينتظرون فقط أن يطلب الجيش الحر المتطوعين من أجل أن يلتحقوا بصفوفه ويناضلوا ضد النظام بحمل السلاح، الأمر الذي سيشكل انعطافة كبيرة في الثورة السورية. يستبعد أبو ياسين أن يصادف سوريا حظ العراق العاثر، لكن كلماته لا تبدو مقنعة: “لا نكره أي مكوّن من مكونات شعبنا. نحن السوريين لسنا طائفيين. إن النظام هو من يريد أن يخلق الفتنة. الكثيرون من المتظاهرين هم علويون، الغالبية من المثقفين الذين يساندوننا هم من العلويين والمسيحيين، ولذلك فهم لا يستطيعون التفريق بيننا”.

من الصعب أن نعرف إن كانوا من المنشقين فقط أو أن بينهم متطرفين إسلاميين أيضاً – وهم من يتهمهم النظام بتأجيج الثورة – أولئك الذين يقومون بالجرائم المدبرة التي تقسم قلب المدينة وتزيد في الكراهية. أحد الأطباء في المشفى الرئيسي بحمص شرح للـ”واشنطن بوست” كيف أن “بعض الجثامين (التي وصلت للمستشفى) كانت ممزقة بالطعنات من الرؤوس حتى الأقدام، والبعض اقتلعت عيونهم وآخرون حرقوا بحيث لا يمكن التعرف إليهم”. “رجال مسـلحون متطرفون يجولون في المدينة على متن السيارات، يخطفون ويقتلون الناس”. يضيف الطبيب مجهول الهوية. يقدم أبو ياسين رواية أخرى عن هذه الأفعال: “النظام هو من يريد تأجيج الحرب الأهلية، ولذلك تقوم عصابات الأسـد بقتل المواطنين من طائفة معينة في أحيائهم وترمي الجثث في حي من أحياء الطائفة المقابلة”.

-“الجهة المسلحة الوحيدة، إضافة إلى النظام، هي الجيش السوري الحر”، يضيف هذا المواطن الحمصي قبل أن يعلل طرحه هذا مستبعداً وجود جماعات إسلامية مسلحة. “لا يمكن الحصول على السلاح في نظام بوليسي مضى عليه أربعون عاماً وهو يسيطر على سوريا. حمص معزولة منذ سبعة شهور ومحاطة بأكثر من خمسة وخمسين نقطة تفتيش وأي شخص يدخلها أو يخرج منها يتم تسجيله. أي شخص معه كمبيوتر محمول يتم احتجازه ومساءلته، وإذا وجدوا تسجيلاً لمظاهرات في هاتف متحرك يتم تعذيب حامله. أضف إلى ذلك، أنه لو كان لدينا أسلحة، فمن أين كنا سنأتي بالذخائر لاستعمالها خلال سبعة شهور؟ الجماعات الوحيدة التي ليـس لديها مشكلة مع الذخائر هم الشـبيحة”.

كما يظهر في الفيديوات المسجلة من قبل الناشطين، لعب الشبيحة دوراً رئيسياً في الهجمة التي عاشتها حمص خلال أسبوع طويل والتي تميزت بحصار كافة السكان، كما يشرح أبو ياسين.

“الحالة مرعبة، القصف متواصل. منذ أسبوعين تمت محاصرة بابا عمرو، بالإضافة إلى مهاجمته بالمدفعية الثقيلة والدبابات. يطلقون النار على المدنيين في بيوتهم، في محالهم التجارية، وفي الصيدليات.. كان هناك مائة شهيد في هذه الأيام السبعة”، يتأسف هذا السوري مؤكداً أرقام المنظمات غير الحكومية التي تبلغ عن سقوط 110 قتلى في هذا الهجوم على الحي.

“أكياس القمامة مضى عليها شـهران بدون أن يتم جمعـها، المستشفيات تعمل بالحـد الأدنى، لا يمكن إخلاء الجرحى خوفـاً من القناصين، وفي الأيام الخمسة الأخيرة لا يوجد كهرباء في بابا عمرو ولا ماء ولا طعام ولا دواء”. شهادة ثالثة يدعمها فيديو محمَّل على يوتيوب، يظهر كيف أن والدة أحد المتظاهرين الجرحى تم قتلها في بابا عمرو من قبل قناص: توّجب دفنها في الحال، بدلاً من أن تعاد إلى عائلتها – التي تقيم في حي آخر – لأن المشرحة لم يعد فيها مكان لحفظ المزيد من الجثث. كما أنه لا يوجد فيها كهرباء أيضا.

“ليلة أمس لم نستطع النوم بسبب القصف”، يشرح لنا خالد وهو بادي التأثر في اتصال هاتفي كان يتقطع بشكل مستمر “كانت البنايات تهتز تحت وطأة عنف الانفجارات، يقذفون القنابل بشكل اعتباطي على حي بابا عمرو. فجأة، أوقفوا القصف هذا الصباح. فُتحت الشوراع، تم احتلال الحي. المركز التجاري هناك تم نهبه بشكل كامل من قبل الشبيحة. هناك سوق معروف للفواكه تم حرقه. يبدو أن الجيش الحر قد تمكن من الابتعاد، لكن كل الرجال في الحي تم إلقاء القبض عليهم أو قتلهم. لقد سـقط حي بابا عمرو، لكن ليس حمص: اليوم يقصفون “تلبيسـة”، في شمال المدينة. إنها ضربة قاسـية لنا، لكننا ما زلنا نفكر أن لا شيء سـيثني إرادتنا: لقد اسـتولوا على “باب عمرو” لكنهم لا يستطيعون الاستيلاء على حمص بكاملها”. حسـب الأمم المتحدة، وصل عدد القتلى في سوريا منذ أن بدأت حملة القمـع إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة. منهـم، كما تؤكـد المنظمات السـورية غير الحكومية، ألف وخمسمائة سقطوا في حمص.

مونيكا بريتو – موقع : كوارتو بودي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى