صفحات سوريةعمر كوش

صفحات من الذاكرة السورية: سعد الله الجابري


عمر كوش

في احدى جلسات محاكمة الزعيم إبراهيم هنانو، سأل رئيس المحكمة الزعيم هنانو: تزعم بأنك تقاتل فرنسا باسم الشعب السوري، فهل يمكنك أن تأتيني بشخص سوري واحد كلفك هذه المهمة؟

سيطر السكون على جو المحكمة، لكن صوتاً انطلق من وسط الحضور ومزق ذلك السكون، حيث وقف شاب أنيق مهذب ليقول باللغة الفرنسية: «أنا أدعى سعد الله الجابري، من أبناء هذا البلد ومثقفيه. أنا والألوف معي كلفنا إبراهيم هنانو مقاتلة فرنسا التي دخلت بلادنا من دون حق، ومن حقنا أن نقاوم الاحتلال الأجنبي بقوتنا المسلحة، وإن المجرم ياسيدي الرئيس هو ذلك الذي يعتدي على سلامة الناس وحرية الشعوب، لا ذلك الذي يدافع عن استقلال بلاده، ويجابه حراب السنغاليين في سبيل تحرير أراضي آبائه وأجداده».

ما أن فرغ الشاب من كلامه حتى دوّت قاعة المحكمة بالتصفيق، فغضب رئيس المحكمة ونادى بالحراس: أوقفوا كل من صفق، ثم التفت إلى سعد الله الجابري قائلاً: تلك هي نظريتك، ولكن إبراهيم هنانو قتل وفتك ودمّر فماذا ترى في ذلك؟ فأجاب سعد الله: لقد أعلن إبراهيم هنانو الحرب عليكم باسم الشعب السوري العربي، والقتل والفتك والتدمير نتيجة طبيعية للحرب التي خضتم غمارها. فقاطعه رئيس المحكمة قائلاً: شكراً لمعلوماتك التي نحن في غنى عنها.

انتهت المحكمة بعد صراع مرير إلى براءة إبراهيم هنانو، فمضى هذا المناضل في طريق النضال السياسي والمطلبي، ومضى معه سعد الله الجابري في الطريق نفسه، تجمعهما مهمة أسمى، هي تحرير سورية من الاحتلال الفرنسي.

إنه سعد الله الجابري، الذي دخل ذاكرة مدينة حلب، ومعها الذاكرة السورية، كأحد الشخصيات التاريخية، الذين كانت لهم مواقفهم المشهودة، دفاعاً عن الوطن وناسه بوجه الطغاة، ولم تخشَ سطوة قوى الاحتلال الفرنسي، وشكلوا نموذجاً لشباب الثورة السورية، الذين أعلنوا عن عزمهم الخلاص من الاحتلال الأسدي لمدنهم وبلداتهم، وتحرير فضائهم العام من أبشع قوة احتلال داخلي عرفها التاريخ البشري.

ولعل من المفيد العودة إلى ذاكرة مدينة حلب، والذاكرة السورية، كي نقتفي أثر الوطن في أحواله المهددة، من خلال رصد ما استعصى على النسيان من الأسماء، ونستقي ما أمكن من الوقائع السورية، وبالرغم من أن الذاكرة توحي بكل ما فارق الحاضر وارتحل، لكنها تبدو في الحالة السورية رحماً دافئاً وجليلاً، أو بيتاً قديماً من بيوتات حلب القديمة، التي تقاوم اليوم – قصف طائرات ودبابات النظام السوري، وتعلن عن تحديها صور العدوان الأسدي المتواصل.

كان سعد الله الجابري، أحد الشخصيات السياسية السورية البارزة، التي لعبت دوراً هاماً في التاريخ السياسي الحديث لسورية، وتحديداً خلال فترة الانتداب الفرنسي وبداية عهد الاستقلال، وأثرت سيرته ومواقفه في العديد من الأجيال، وفي رسم مسار العمل الوطني السياسي والمطلبي ضد المستعمر الفرنسي. ونظراً لمواقفه وجرأته اعتقل وسجن مرات عدة ، ونفي عن بلده مدة من الزمن.

ولد سعد الله عبد القادر لطفي الجابري في حي «السويقة» بمدينة حلب عام 1894، ونشأ في كنف أسرة حلبية عريقة، لها كلمتها ومواقفها، تنتمي إلى أغنى العائلات الحلبية المالكة للأراضي وأكثرها شهرة. وكان والده الحاج «عبد القادر» مفتياً لمدينة حلب، أنجب تسعة أبناء من بينهم سعد الله. وكان رجلاً عصامياً، يعمل بشكل متواصل كي يستطيع العيش بشكل جيد، ويؤمن حياة عائلته. أما والدته «حسنى ملك» شركسية الأصل، فقد غمرته بحبها وحنانها، وأكسبته أرهف الأحاسيس والمشاعر.

كان سعد الله مثالاً في النزاهة، إذ يذكر من عايشوه أنه أعاد إلى الخزينة السورية مبلغ 6 آلاف ليرة سورية زادت عن مصروف الوفد السوري الذي ترأسه إلى الإسكندرية، لحضور الاجتماع التأسيسي للجامعة العربية، مع أنه في الوقت ذاته كان مريضاً، ودخل مشفى المواساة في الإسكندرية، فخرج مديوناً بنحو 12 ألف ليرة سورية، ولم تمتد يده إلى ذلك المبلغ الفائض. وهناك روايات عديدة تتحدث عن مساعدته لمعارفه وأصدقائه المحتاجين أو الذين وقعوا في ضائقة ما.

وكما هو الحال، فإن سعد الله ولد في أحضان القلق الاجتماعي والاضطراب السياسي والنفسي، ووسط آلام ومعاناة شعبه، وشبّ على اجتماعات واتصالات كانت تقوم بها عائلته مع شخصيات حلبية وسورية، لاسيما أخوه الأكبر «فاخر الجابري»، إذ كان يجتمع مع رجالات حلب في داره بالأنصاري أو في «قناق» الشيخ «عبد الحميد الجابري» في السويقة، حيث كان «الليوان» يضم العديد من الشخصيات الوطنية، كذلك فإن سفر وتنقلات أخيه الكبير «إحسان الجابري» مع بعض رجالات السياسة من أجل قضية تحرير الوطن، نمّت وأغنت مشاعره الوطنية.

تلقى سعد الله تعليمه في مدرسة الرشدية الثانوية، وكرّس جهوده في دراسته حتى استطاع أن يكون من بين البارزين والمتفوقين، وحين أنهى سعد الله دراسته الثانوية في حلب، استقدمه أخوه إحسان الجابري إلى اسطنبول لمتابعة دراسة الحقوق في الكلية الملكية السلطانية.

وتمكن سعد الله الجابري، وهو يدرس في اسطنبول، من أن يراقب بعين بصيرة وعن كثب، ما يدور في أجواء السياسة التركية، واتصل بشباب عرب فيها، وأسس معهم جمعية «الفتاة»، حيث أقسموا اليمين للعمل على استقلال البلاد العربية. وفي عام 1913 كان أخوه إحسان يحضر مؤتمر باريس.

عندما انتهت الحرب العالمية الأولى عاد سعد الله إلى حلب، ودخل في حركة حقوق الإنسان، وانتخب مندوباً إلى المؤتمر السوري عن مدينته، وحين قامت الثورات عام 1919 على أثر نية الحلفاء تقسيم البلاد العربية ودخول الفرنسيين سوريا؛ كان سعد الله الجابري على اتصال بزعيم الثورة في الشمال، يؤيد ثورته ويدعمه، لكنه هرب إلى مصر إثر الاحتلال الفرنسي لسورية، ثم عاد إليها في أوائل سنة 1921 ليدعم ثورة هنانو، وقام بدور كبير لتهيئة جو التلاحم في المدن والبلدات السورية مع ثورة إبراهيم هنانو. كما جدد اتصاله بمن كان معه في الكلية السلطانية مثل شكري القوتلي وغيره من الرموز الوطنية.

كان الجو السياسي العام، الذي نشأ فيه سعد الله الجابري، يشهد تشكيل جمعيات عربية، في اسطنبول وباريس والقاهرة وبغداد وبيروت ودمشق وحلب، تدعو جميعها إلى نهضة العرب، وتطالب الأتراك بالاعتراف بالقومية العربية، الأمر الذي جعل الأتراك يلجأون إلى استعمال القمع والاستبداد لمواجهة تلك الدعوات.

أما المناخ الفكري الذي رافق نشأة الجابري، فقد شهد صدور عدة كتب تظهر الناحية السياسية للحركة العربية، وترد على استبداد السلاطين الأتراك، فصدر في هذا الخصوص كتاب «أم القرى» لعبد الرحمن الكواكبي الذي تكنى بالفراتي، خوفاً من بطش السلاطين، وطبعه في مصر، وكذلك طبع كتابه الهام «طبائع الاستبداد»، وكتاب «يقظة الأمة العربية» لصاحبه بجيب عازوري الذي صدر في باريس عام 1905.

كان سعد الله من أشد المدافعين عن وحدة سوريا، أرضاً شعباً، ووقف بحزم ضد سياسة المستعمر الرامية إلى تجزئة سوريا إلى عدة دويلات صغيرة على أساس طائفي ومناطقي. وعندما اضطرت فرنسا إلى منح بعض الحرية النسبية في سوريا، سمحت بدءاً من عام 1925 بتشكيل جمعية تأسيسية، وكذلك دستور أساسي، فإن الشخصيات السياسية الوطنية استغلت هذه الفرصة، وبدأت بالفعل العمل على تشكيل حزبين رئيسيين كان عمادهما البورجوازيين والارستقراطيين الدمشقيين والحلبيين، هما حزب الشعب والكتلة الوطنية.

وفي إثر ذلك تشكلت حكومة برئاسة الشيخ تاج الدين الحسيني، جعلت من أولى مهامها القيام بإجراء انتخابات مجلس تأسيسي يقوم هو الآخر بإعداد وإصدار الدستور الذي يجب على أساسه أن تحكم البلاد. وبالفعل جرت انتخابات في يومي 10 و 24 نيسان 1928، فاز بها مرشحو الكتلة الوطنية ومرشحو الفئات الوطنية الأخرى في أكثر المناطق والمدن.

بالمقابل فقد كان سعد الله الجابري وجماعته يوالون الاجتماعات والاحتجاجات ورفع المذكرات لجمعية الأمم يشكون فيها الفرنسيين، وحين أعلنت السلطة الفرنسية استعدادها لإقامة حكم دستوري في البلاد، كان الوطنيون قد قرروا في مؤتمرهم الدخول في الانتخابات، ولما أُنتخب إبراهيم هنانو وسعد الله الجابري لأول مجلس تأسيسي، رأى الفرنسيون أن هذا المجلس لا يمكن أن يخدم مصالحهم، لذا عمدوا إلى إلغائه.

وعندما رفضت الكتلة الوطنية معاهدة عام 1933، قامت التظاهرات في جميع أنحاء سوريا، وجرت اعتقالات للوطنيين، وكان من بينهم سعد الله الجابري، حيث صدر عليه حكم بالسجن ثمانية أشهر.

وفي 19 حزيران 1934 أشتد مرض الزعيم إبراهيم هنانو، وأصبح طريح الفراش نتيجة هزال جسمه الذي نخره مرض السل، فدعاه صديقه المخلص سعد الله الجابري، ليقيم في داره الكائنة في جبل الأنصاري بحلب، فذهب وأقام عنده. وفي 21 تشرين الأول 1938 توفي الزعيم هنانو في قرية الحامضة في قضاء حارم. ونقل جثمانه إلى حلب، حيث شيّع بعد ثلاثة أيام.

لم يحضر الجابري التشييع، حيث كان في السجن، إنما حضر حفل التأبين، حيث أبّن صديقه قائلاً: «لعلكم تريدون من رفيقه الذي عاشره سنوات طوالاً، أن يحدثكم عن المزايا والخصائص التي قامت بنفس إبراهيم، فمكنته من القيام بالعمل الكبير الذي قام به. كانت من أبرز مزاياه الشجاعة المقترنة بالصبر، أما الحوادث فتمرّ به ولا تهوّله. أما الأخطار فتحدق به ولا تقلقه. أما المسؤولية فيتحملها خفيفة عليه، وإن ثقل حملها».

ألقي القبض مجدداً على الجابري، ونفي إلى جزيرة «عيد ديوار»، بعد الإضراب الخمسيني، الذي جاء على اشتداد الطغيان الفرنسي في سوريا، وتجسد في إغلاق مكاتب الكتلة الوطنية، وفي اعتقالات شملت العديد من رجال حلب ودمشق وباقي المدن السورية.

عرفت سوريا أول حكومة وطنية في سوريا عام 1936 بعد انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، وتشكلت وزارة برئاسة جميل مردم، وتولى سعد الله الجابري وزارتي الداخلية والخارجية.

وبتسلمه وزارتي الداخلية والخارجية، يكون سعد الله الجابري قد عمل في كل شيء، من السياسة إلى الوزارة والحكومة، وأراد أن يقبض على كل الأمور، أملاً في تسريع الوصول إلى الاستقلال المنشود. وقد نال النجاح المطلوب في مقارعته لقوى المستعمر، وفي العمل من رفاق دربه من الوطنيين على طريق تحرير البلاد ونيل الاستقلال، كما نجح بامتياز في وضع المعاهدة، وفي الفوز بانتخابات 1928 وانتخابات 1936.

أما في وزارة الخارجية فعمل على تمثيل سوريا في الدول الأخرى، حيث أرسل بعض الأشخاص للتمرين والتهيئة، وألحقهم بسفارات فرنسا في مصر والعراق وباريس. وتسلّم صلاحيات الخارجية من الفرنسيين، وعقد اتفاقية حسن الجوار مع العراق، وهي اتفاقية كانت تعقدها فرنسا من قبل. إلى جانب ذلك تسلّم سعد الله رئاسة الوزراء بالوكالة عن جميل مردم، وترأس كذلك الكتلة الوطنية، وجميعها تحتاج إلى عمل مضن في ذلك الوقت.

عندما انتُخب القوتلي رئيساً للجمهورية السورية، كلف سعد الله الجابري بتشكيل الوزارة، وكان للبرلمان ولحكومته ولحكومة فارس الخوري التي أتت بعدها مواقف مشرقة، أهمها رفض توقيع معاهدة مع فرنسا التي تتمتع فيها بامتيازات داخل سورية، حيث قامت السلطات الفرنسية في 29/5/1945 بقصف دمشق للضغط على القوتلي، لكن الاستمرار والصمود، إضافة إلى الضغوط الخارجية من بريطانيا وهيئة الأمم المتحدة، جعلت فرنسا تدفع ثمناً باهظاً، ما دفعها إلى الموافقة على الجلاء عن سورية في آذار 1946 وتنفيذ هذا التعهد في 17/4/1946.

وفي يوم 14 تشرين الثاني عام 1943 استقالت الوزارة التي كان يرأسها سعد الله الجابري، فشكلت وزارة جديدة بدلا عنها ترأسها السيد فارس الخوري رئيس مجلس النواب، وبعد شغور منصبه في المجلس انتخب بدلاً منه سعد الله الجابري كرئيس للمجلس.

وقد بقي سعد الله في هذا المجلس يقوم بالأعمال المنوطة به حتى جاءت الدورة العادية الرابعة، وتحديدا الجلسة الثامنة عشرة، حيث كان المجلس وحاميته كانا على موعد مع أحداث لم تشهدها سوريا من قبل، إذ في التاسع والعشرين من أيار عام 1945 وجه الجنرال «أوليغار روجيه« إنذاراً إلى رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري، يطلب منه أن تقوم حامية البرلمان بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار الأركان الفرنسية المواجهة للمجلس النيابي. رفض سعد الله الجابري الإنذار، وعلى إثر ذلك اعتدت القوات الفرنسية على البرلمان وقامت بارتكاب مجزرة بحق حامية البرلمان المؤلفة من قوات الدرك الشرطة.

لقد كان سعد الله الجابري يعمل جاهداً طوال حياته من أجل تحرر ووحدة البلاد العربية، فقد رئس الوفد السوري في توقيع بروتوكول الإسكندرية عام 1944، ورئس وفدها في اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام، كما حضر إعلان أنشاء لتأسيس الجامعة العربية.

في عام 1946 بدأ المرض يهاجم جسم سعدالله الجابري، واشتدّ عليه أثناء آخر زيارة له إلى مصر، حيث كان هناك لحضور اجتماع مجلس الجامعة العربية، فبقي في الإسكندرية للعلاج والتداوي من مرض في الكبد، قيل أنه تشمع الكبد، وهو من الأمراض النادرة الصعبة الشفاء، يقول توفيق السويدي: «إن مرض التشمع الذي أودى بحياته، كان قد بدأ فيه من المنفى ومن حالة الحرمان التي لم يألفها، وهو الذي تربى وترعرع وعاش في أوساط مرفهة». وخلال فترة مرضه استقال العديد من وزراء حكومته، وطلب منه رئيس الجمهورية شكري القوتلي الاستقالة من رئاسة الوزارة، فبعث فوراً برقية استقالته من الإسكندرية.

عاد سعد الله الجابري إلى مسقط رأسه في حلب، وقضى فيها بضعة أشهر، مصارعاً المرض بين أهله وأصحابه، وانسحب من الحياة العامة، قاصداً قرية «تريدم» للراحة والهدوء في وقت كانت البلاد في أمس الحاجة إليه، إذ كانت على موعد مع الانتخابات العامة، ولكن المرض أقعده عن الحركة، وخطفه الموت في 20 حزيران 1947.

إن سيرة سعد الله الجابري تقدم مثالاً على حياة رجل ظلّ على الدوام مشغولاً في العمل السلمي والعلني، والاندماج بشكل عضوي في العمل في الشأن العام، فتفانى في خدمة وطنه، وتحمل أقسى اللحظات، ولم يدخر فيها وسعاً لرفع شأن وطنه، وبات من الرجال الذين احتضنتهم الذاكرة إلى جانب أسماء عديدة، مع علمنا أن الأسماء تتفارق في احتضانها للذاكرة، أو في احتضان الذاكرة الوطنية لها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى