صفحات سورية

صفقة فاوستية


صالح الحاج صالح

قبل عدة سنوات  , وبرفقة رئيس سابق لإحدى المنظمات الشعبية , دخلت مكتب مدير عام لإحدى مؤسسات الدولة من أجل معرفة أسباب حجب حق لزوجتي التي كانت تعمل في تلك المؤسسة .

مكتب السيد المدير العام مؤلف من غرفة واسعة , يبدو أنها كانت غرفتين أزيل الجدار الفاصل بينهما , وبعد عرض المشكلة وشرحها , وجه السيد المدير العام المعروض المقدم له , لجهة أدني ومهرها بتوقيعه مع عبارة ” لإجراء اللازم أصولا% ” , وهي عبارة يعرفها السوريين  , لا تعني شيئاً …رغم أنها درة الكليشات المكتبية في الإدارات السورية وأكثرها تكراراً , فهي لا تقر المراد ولا ترفضه , وإنما الإقرار أو الرفض يأتي حسب الهاتف الذي يلحق بالمعروض من قبل المدير العام إلى مرؤوسيه .

الدقائق القليلة التي بقيتها في غرفة المدير العام , وانشغال مرافقي مع المدير في حديث لا يعنيني , جعلتني أتملى بموجودات الغرفة والبالغ مساحتها 60 متر مربع تقريباً ,  ورحت أتسلى بعد صور وتماثيل الرئيس وعائلته , 18 صورة ومجّسم وتمثال للعائلة الحاكمة لسورية في غرفة المدير العام , وبعيداً عن ذوق المدير العام – وأعتقد أنه ذوق عام , لجميع المدراء والمدراء العامين في سورية  – في ترتيب الصور وتنافرها من حيث الحجم والألوان والوضعيات والتي تدل على ذوق فقير ومبتذل . فإنّ المدهش في الأمر لم يبق فرد من أفراد العائلة الحاكمة صغيرا أو كبيراً إلا وموجد له صورة في غرفة السيد المدير العام , حتى طفلي الرئيس بشار, آنذاك لم يتجاوز عمر أكبرهما السنتين .

صور فوتوغرافية ملونة , وصور مجسمة باللون الفضي والذهبي وبخلفية من المخمل , صورتان فقط  بالأبيض والأسود الأولى للرئيس حافظ الأسد وهو منحني يقبل يد والدته ومكتوب على الهامش أسف الصورة وبخط عريض , الوفاء , والصورة الأخرى أيضاً للرئيس حافظ الأسد بلباسه العسكري ويبدو فيها أقرب للشباب ومكتوب أسفلها … الفريق الركن حافظ الأسد . الصور معلقة على الجدران الأربعة ,  وبارتفاع متفاوت حسب حجم الصور والإطار الذي يحويها . ودائماً هناك عبارة أسفل كل صورة , تعرفها وتمجّدها … نقرأ , عبارات “” قائدنا إلى الأبد .. الرئيس حافظ الأسد و الرئيس حافظ الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية و القائد البطل … بطل تشرين التحرير وتشرين التصحيح “” تحت الصور المفردة للرئيس حافظ الأسد . وتحت صور الرئيس بشار الأسد نقرأ “” الرئيس بشار حافظ الأسد .. خير خلف لخير سلف , و حافظ الأسد قائدنا وبشار الأسد أملنا , وأنت الأمل “” وتحت  صور باسل نقرأ ” البطل المظلي والفارس الذهبي الرائد الركن الشهيد المهندس باسل الأسد , وشهيد الأمة العربية  البطل باسل الأسد ” وتحت الصور المشتركة للرئيس الأب وأبنائه الثلاث – الرابع مجد الأسد , وبشرى الأسد لا يظهران إلا في صورة واحدة تضم أفراد العائلة جميعاً  –  نقرأ  “” هكذا تنظر الأسود “” وتكتب نفس العبارة تحت صورة مشتركة للرئيس بشار الأسد وأخيه ماهر الأسد  ” هكذا تنظر الأسود “, صورة للرئيس حافظ الأسد وزوجته أنيسة مخلوف وهم يلوحان من على سلم طائرة لجمهور لا يظهر منه أحد , صورة للرئيس بشار الأسد مع ولديه وزوجته أسماء الأخرس والجميع مستغرقين في ضحك هنيء .

ويحتل إحدى الزوايا تمثال نصفي للرئيس الأب على قاعدة حجرية , ومن الوهلة الأولى يكتشف أن هذا التمثال النصفي موجودة منه آلاف النسخ موزعة في جميع الدوائر الحكومية السورية … وزاوية أخر للفارس الذهبي على صهوة جواد رامح مستعدٍ للقفز .

هذه البانورما لغرفة السيد المدير العام تعطي انطباع بأنك في صالة عرض لبيع الصور , وليس في مكتب  عمل  , أو تظن نفسك في قاعة للمرايا . لكن ما دافع المدير العام , أن يحيط نفسه بكل هذه الصور؟. ضمنياً المدير العام وكل موظفي الحكومة يقرون بأن هذه الصور ما هي إلا تميمة تحميهم من منافسيهم الذين هم  , مثله /ومثلهم , محاطين بنفس الصور قد يكون الفرق في أعداد الصور ,  وحماية النفس والمنصب يدركها كل العاملين في الحقل الحكومي , لا تأتي من خلال إخلاصِ في العمل وتطويره , بل من خلال التماهي مع الحاكم , وبما أنّ الصور تظهر جميع أفراد العائلة الحاكمة وهم بأوضاع تظهر العنفوان والصحة والقوة ,  ومذيلة بعبارات التمجيد والولاء تُشْعر واضعها بأنه انتمى إلى العنصر القوي في بلاده , وما عليه إلاّ أن يكون قوياً , قوة لا تنبع من ذاته , فهو لا يحتاجها , أو نجاحٌ في إدارة مؤسسته , فهو لا يحتاجها أيضاً , بل قوة في الولاء وهذا ما جرى العمل عليه منذ وصول الرئيس حافظ الأسد, الذي أسس لمعادلة بسيطة وواضحة , ومع الزمن أصبحت هي المعادلة الوحيدة والطريق الوحيد لاحتلال المناصب الحكومية والوظائف الإدارية , الولاء المطلق مقابل الوظيفة والمنصب , إنها ” صفقة فاوستية ”  , لكن مشكلة هذه الصفقة أنّ الراغبين فيها كثر  , ولا يمكن الحصول عليها بالولاء فقط وإنما بمزيد من الولاء , ومزيد من الولاء مزيد من الصور . هذا الإفراط في أظهار الولاء انداح  إلى  جميع أجزاء حياة المواليين المتسابقين في تسنم  مناصب حكومية , فمن الشعارات التي توضع على الصدر , إلى مقطع خطاب للرئيس كرنة للموبايل , إلى صور ببراويز أنيقة في صالونات وغرف بيوت المسئولين – غير مؤكد أن صور الرئيس وأفراد عائلته تحتل جدران غرف نوم المسئولين –  .

هذه الصور كرّست أحادية السلطة , ونمذجت الولاء للعائلة , وأتاحت لظهور تجارة غير بائرة , مهدت لظهور التكسًب عبر التشبيح – أوائل من روج لصور الرئيس وعائلته  , هم من الأقارب ,الذين يزوّدون بكتب من المحافظين وموجهه إلى الدوائر والمؤسسات والاتحادات والجمعيات الحكومية بضرورة اقتناء ( اقتناء,  وليس شراء , لإضافة القدسية ) صور الرئيس – ومهد أيضاً لفتح باب من أبواب الفساد , حيث لا يجرؤ أياً كان في التدقيق بفواتير صرفت في شراء صور الرئيس وعائلته  , أو في مصروفات الاحتفالات واللافتات التي تمجد الرئيس ( كم تقدر المبالغ التي صرفت في هذا الشأن خللا أربعين عام ؟ )

لم يتمكن أحد من رفض ( اقتناء ) صور الرئيس في أي مكان وصلت إليه طلائع الشبّيحة , حتى في القرى النائية , قد يؤجل رب أسرة أخذ ابنه المريض إلى الطبيب , لكنه لم جرؤ على عدم اقتناء صورة الرئيس , على الأقل في عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي .

هنا لم تجر تعمية الإخضاع الواضح لسلطة ممثله بصورة الرئيس , بل إذعان كامل وصريح للصورة ورمزيتها  ,التي تحولت إلى وطن , التعمية تجيء لاحقاً , في تفسير اقتناء صورة الرئيس وتعليقها على جدار في المنزل أو في المكتب , أنا أقتني صورة الرئيس لأنني وطني , الرئيس هو الوطن , أليس هو ( سيد الوطن , ورمز الوطن )كما يظهر ذلك في  اللافتات التي يرفعها الموالون في مسيراتهم .

الخروج عن صورة الإذعان بهذا الشكل , جرى من خلال تكريس فعالية ( الصفقة الفاوستية ) أنا أضع الصورة وبإمكاني الاستفادة من ذلك , هذا جرى من خلال أشخاص شديدي الشبه بالسلطة . … تقدم شخص من ناحية (سلوك) بمحافظة الرقة للحصول على قرض من المصرف الزراعي , فرفض طلبه , وبعد فترة تقدم بطلب آخر بعد أن وضع على طرف أرضه لوحة حديدية ضخمة , وكتب عليها ( مزرعة الشهيد البطل , باسل حافظ الأسد ) , وحصل على قرض مقداره 60 مليون ليرة سورية , وهي قصة معروفة من أبناء المحافظة – هناك العديد من القصص التي  تشبه هذه الحالة – المعنيون بالأمر ( الأجهزة الأمنية , وعقلها ) يعرفون ذلك , ولكن  كشف الكذب , يطيح بأسس التواطؤ بين الحاكم ومواطنيه المماثلين له .

في هذه الحالة يصعب ظهور منشقين كثر عن النظام من جسده , فلن ينشق أحد عن طرف يشبهه ليلتحق بطرف لا يشبهه .

الإمارات العربية المتحدة

5/1 / 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى