حسان عباسصفحات مميزة

صناعة التفاؤل: حسان عباس

حسان عباس

 المهم أخيراً.. هل أنت متشائم أم متفائل؟

يكاد لا ينجو نقاش بين سورييَّن يلتقيان بعد غياب من هذا السؤال المفتوح على مزدوجة من حالين قصِيّين متناقضين: التشاؤم أو التفاؤل. ومن نافل القول إن المقصود من الحالين يخص حال البلد بالدرجة الأولى قبل حال أهلها.

يعرّف المصوّر الفرنسي بيكابيا المتشائمين بأنهم أولئك “الذين يرون النهار منحصراً بين ليلين”، أما المتفائلين فهم “الذين يرون الليل منحصراً بين نهارين”. فإن ترجمنا هذه المعادلة بدلالة الوضع السوري نجد أن المتشائم هو من يقول بأن القادم لن يختلف في طبيعته عن الراحل، وأن الاستبداد سيستبدل بآخر، رغم استثنائية اللحظة الثورية التي تعرفها البلاد. أما المتفائل فهو المقتنع بأن البلاد كانت بهيّة وستعود أكثر بهاءً بعد انتهاء هذه اللحظة المأساوية.

يحق للسوريين أن يتشاءموا، فالمصاب عميم، والكارثة لم تترك عائلة بلا أذى. والفرق بين عائلة وأخرى هو في حجم الأذية التي لحقت بها وليس في مدى نجاتها منها. ويحق لهم أن يتشاءموا لأن الأيام تتوالى شحيحة بالأخبار السعيدة، أو حتى بما يدعو إلى ترقّب السعادة. بل تبدو نهاراتهم القادمة حبلى بعذابات قد تكون العذابات المعاشة في ليلهم القاتم اليوم رفاهية مقارنةً بها. وكأن تطور الشأن السوري تظهير لمقولة المسرحي جان راسين: “ربّ ليلٍ أكثر بهاء من بعض النهارات”.

وحدهم تجار الحروب لا يتشاءمون. تشاؤمهم يعني أن القتل ماضٍ إلى انحسار. وإن حصل ذلك فإنهم مستعدون لصب زيتهم على خامد النيران ليعود التهابها، ويعود تفاؤلهم بغنائم موعودة. يُروى عن السياسي والمؤرخ الفرنسي فرانسوا غيزو قوله: ” العالم مِلكٌ للمتفائلين، أما المتشائمين فليسوا أكثر من متفرجين”. ولم يكن المتفائلون في عقيدة غيزو غير الأثرياء العاملين على تكديس الثروات أيا كانت الوسيلة إلى ذلك. أما المتشائمين فكانوا برأيه أهل باريس الذين قاموا بثورة شباط 1848 والذين اقترح على الملك لوي فيليب أن يبيدهم هم ومتاريسهم.

هل ينسجم التشاؤم حقا مع الثورة؟ إن لم يكن التشاؤم حالة مرضية تسحق روح صاحبها فهو لا ينسجم مع الثورة فحسب بل ضروري لها. التشاؤم في هذا المعنى وضع خلاّق يحمي أنصار الثورة والفاعلين فيها من التراخي أمام وردية الأحلام، وينجيهم من الاستسلام إلى حتمية تحقيق المشتهى. هو ناقوس يقرع رأس أهل الثورة لكي لا يتوقفوا عن معاينة حالها ودراسة واقعها المتبدل معاينة صارمة، صادقة، مستديمة تساعدهم على تملّك القدرة على فهم تغيرات الواقع وعلى تفكيك تعقيداته. التشاؤم طاقة ذهنية وروحية تبقي على أهداف الثورة ماثلة في عقول أهلها، وتنبههم إلى انحراف مساراتهم ليقوّموها، وإلى تراخي هممهم ليوقظوها.

في هذا السياق، تصبح صناعة التفاؤل أهم وظيفة للتشاؤم. ليس في الأمر أي تناقض بل هو أمر  تعلمنا إياه الطبيعة، إنه استخراج الترياق من السم، أو استخدام الميكروبات المسببة لمرض ما في صناعة لقاح يحمي من هذا المرض. ولا تبتعد هذه الفكرة عن القاعدة النضالية الغرامشية: “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”. فتشاؤم العقل هنا ليس نقيضا لتفاؤل الإرادة وإنما هو المحفّز المستمر لهذه الإرادة لكي لا تتوقف عن صناعة التفاؤل.

إن من ينظر إلى الواقع السوري اليوم، وإلى الوجهات التي تحولت إليها الثورة، وإلى المآلات التي يقود إليها تطور الأوضاع يحق له أن يتشاءم. لكنه إن بقي في حال التشاؤم ذاك وقع في سوداوية مرضية لا تُخرج من الحمأة التي نحن فيها ولا تنجي من جهنم التي تنتظرنا. ثمة مهمات جسيمة ترخي بأثقالها على أكتافنا، وإن لم نشحن إرادتنا لإزاحتها ستسحق بلدنا وتسحقنا حتى لا يبقى له ولنا وجود.

قد لا يكون غدنا نحن السوريين مشرقا، لكن علينا فعل المستحيل لنثبت الشمس في كبد السماء.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى