صفحات الرأيمحمد ديبو

صناعة الدين سلطويا/ محمد ديبو

 

 

 

تدفع ظاهرة عمرو خالد وغيره من الدعاة الذين يضعون “علمهم ودينهم” في خدمة المال والسلطة إلى التفكير فيما هو أعمق مما أثاره فيديو الرجل (الإعلان الدعائي لشركة دجاج) من سجالٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، نحو أسئلةٍ من نوع: كيف ينمو هؤلاء؟ ومن يساعدهم؟ من يموّلهم؟ وما الدور الذي يقومون به ولصالح من؟ وهل تتم صناعتهم كليا من سلطة أو رأس مال ما؟ أم ثمّة تلاقي مصالح بين طرفين، أحدهما السلطة؟

عملت السلطات المستبدّة على استغلال كل ما من شأنه أن يديم سيطرتها، بدءا من الهيمنة على الدولة ومؤسساتها إلى تغوّل أجهزة الأمن، وتفريغ الجيوش من مضامينها، إلى الهيمنة على المجتمع ومحاولة هندسته بما يخدم مصالحها. ولإتمام عملية الهندسة هذه، استعانت السلطة بالوجهاء ومشايخ الدين ورجاله وزعماء العشائر والأحزاب، أي كل ما يمكن أن يشكل رأسمالا اجتماعيا للجمهور. وكون الدين أحد أبرز التعبيرات الاجتماعية، وأحد أبرز أشكال النشاط الاجتماعي حضورا في أذهان البشر، اهتمت السلطات، عبر التاريخ كله، بكيفية جعل الديني في قبضة الدنيوي، وبما يخدم استبدادها عبر تخدير العقول، للقبول بما لا يمكن القبول به، لأن الخلاص الأكبر يكون في الآخرة!

ضمن هذا السياق، عملت السلطات على تصفية كل السلطات الاجتماعية (والدين منها) التي تعارضت مع سعيها هذا، وبنت بدلا منها سلطات ومؤسسات أخرى، فما ظاهرة القبيسيات

“هل سيتعامل المؤمنون بعد ألف سنة مع كلام عمرو خالد والبوطي باعتباره مقدّسا أم ماذا؟”

ومدارس تعليم القرآن ومجمع أبي النور في سورية سوى جزء من المؤسسات التي عملت على استخدام الدين لصالح السلطة التي أشرفت أيضا على تعيين خطباء الجوامع وما يقولون، وصولا إلى رعاية رجال دين بعينهم، يتم دعمهم في الخفاء عبر وضع الإعلام والمنابر في خدمتهم، ولعل ظاهرة الراحل محمد سعيد البوطي في سورية خير دليل على ذلك.

لكل سلطة مستبدة فقهاؤها ورجال دينها، تصنعهم وتقدّم لهم المنابر لهدف واضح ومعين، تخدير الجمهور وتربيته على الطاعة، ودفعه نحو ما تريده السلطات، الأمر الذي يضعنا بمواجهة سؤال: أليس هذا الدين في هذه الحالة صناعةً سلطويةً بامتياز؟ ألا يتم تأويل النص وقراءته بناءً على رؤية السلطة؟ ألا يؤدي هذا، مع الزمن الطويل، إلى ولادة دين جديد أو إسلام جديد لا علاقة له بالدين أساسا سوى أنه يحمل اسمه!

وبالعودة إلى التاريخ، ألم يكن لكل خليفة وملك رجال مثل هؤلاء، وألا يحوي “تراثنا” الكثير من المراجع والقراءات الدينية التي نتعامل معها اليوم تحت اسم “المقدّس”، على الرغم من أنها لم تكن أكثر من صناعة سلطوية بامتياز؟ ألا يقول لنا التاريخ الإسلامي الكثير عن “رجال دين” كانوا ينامون في مطبخ الخليفة، وبات لهم اليوم مدارس ومذاهب؟ ألم يكن لمجمع أبي النور نظير في التاريخ القديم، وها نحن اليوم نتعامل معه بشكل مقدس؟ وهل سيتعامل المؤمنون بعد ألف سنة مع كلام عمرو خالد والبوطي باعتباره مقدّسا أم ماذا؟ وهل سيسمح بنقدهم أم لا؟

إذن، يسلط الأمر الضوء على ظاهرة الدين المصنوع سلطويا، هذا الدين الذي يتحول، مع الزمن، إلى مقدس وظاهرة تستمر، لأنّ البيئة والتربة قابلة لاستمرار بضاعة مغشوشة كهذه. وهنا نصل إلى الجانب الاجتماعي الذي يسهّل وعيه الزائف، واغترابه، في تعويم هذه الظواهر التي تستمد قوتها من تلقاء ذاتها مع الزمن، إذ لا تفعل السلطة إلا أن تزرع في بيئةٍ خصبةٍ، لتبقى الشجرة قرونا بعد موت السلطة التي أوجدتها، ونصبح أمام دينٍ مصنوع كليا، بفعل رغبة السلطة أولا، والمجتمع والتحولات التي يمر بها هذا الدين عبر سيرورة تاريخية طويلة ومستمرة.

أبعد من ذلك، أليست ظواهر مثل تنظيمات القاعدة وداعش وجبهة النصرة هي نتاج هذا التزاوج بين السلطات التي تعمل على استخدامها والبيئة (نصا وتراثا ومجتمعا) التي تساعد على استيلاد هذه المسوخ؟ ألم يصبح من المعروف جدا أن أميركا والسعودية لعبتا دورا بارزا في ظاهرة الجهاديين العرب الذي رحلوا إلى أفغانستان لمقاتلة الشيوعية، وتناسل منهم لاحقا عدد كبير من وحوش فرانكشتاين؟ ألا تفعل السلطة الروسية الأمر نفسه اليوم، وبمساعدة حثيثة من سلطة الشيشان التابعة لها؟

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى