صفحات الرأي

صناعة وسائل الإعلام للرأي العام


غسان العزي

لقد أضحى الرأي القائل إن وسائل الإعلام هي التي تصنع الرأي العام، بل تفبركه قطعة قطعة، من المسلمات في عصرنا هذا، عصر الفضائيات والإنترنت . فوسائل الإعلام، بناء على هذا الرأي، هي التي تقدم المعلومة إلى الرأي العام الذي لا قدرة له على التأكد من صحتها ومصدرها، وهي التي تقرر أيّاً من المعلومات تقدم وفي أي وقت ولأي هدف . وقد أدى تطور الفضائيات ودخولها إلى كل منزل ومتجر ومقهى وساحة عامة في العالم إلى تزايد قدرتها على تشكيل الرأي العام، ما يعني أن حرية التفكير والديمقراطية أضحتا في خبر كان .

يضيف هذا الرأي أن وسائل الإعلام الشعبية أو الجماهيرية (ماس ميديا بالإنجليزية)، تقوم بتنظيم الاتصال من “الواحد” (الوسيلة الإعلامية) إلى “المتعدد” أي جماهير المشاهدين، وأن الرسالة هنا أحادية أي تسير في اتجاه واحد في غياب قدرة الجمهور على التدخل والمناقشة والاعتراض، والتلفزيون هو الوسيلة الإعلامية التي أمست الأكثر رواجاً وشعبية  .

وكما درسنا في كليات العلوم السياسية والإعلام فإن السلطات السياسية لطالما استخدمت وسائلها الإعلامية لصناعة رأي عام يؤيدها ويتجاوب مع طروحاتها . وكثيراً ما اختلط الإعلام بالبروباغاندا سواء كان ذلك بتخطيط من الحكومات، أو بفعل ما يسمى ب”الرقابة الذاتية”، وهو بالمناسبة من أبشع أشكال الرقابات . لكن في يومنا هذا فإن كثيراً من وسائل الإعلام لم تعد تخضع للحكومات في العديد من الدول . ورغم ذلك ماتزال حرية الإعلام مسألة نسبية رغم امتلاك القطاع الخاص عدداً من أهم الوسائل الإعلامية . فرجال الأعمال لهم مصالح وأجندات قد لا يكون في رأس أولوياتها تقديم المعلومة الصحيحة والمجردة للرأي العام .

مع ذلك ثمة مبالغة في القول إن وسائل الإعلام هي التي تصنع الرأي العام في عصرنا هذا، فحتى في أعتى الديكتاتوريات التي تمارس الرقابة وكمّ الأفواه وفبركة الرأي، بينت التجربة أن الجمهور يعرف أن كل ما يصدر عن وسائل إعلام دولته كذب بكذب . وحتى حين لا تكذب السلطات فإن ما يصدر عنها، سواء كان مكتوباً أو مرئياً أو مسموعاً، يبقى مثيراً لشكوك الجماهير التي يسعى إلى إقناعها . وفي الدول الديمقراطية تخضع وسائل الإعلام لقانون السوق التنافسي، ما يردعها عن الابتعاد كثيراً عما يمكن للجمهور تلقفه وتصديقه خوفاً على سمعتها وموقعها في سوق إعلامي وجمهور لا يرحمان . إن ثمة تفاعلاً وتأثيرًا متبادلاً بين الرأي العام ووسائل الإعلام، ولم يعد الاتصال يذهب في اتجاه واحد بل في اتجاهات متقاطعة وتفاعلية ضمن علاقة معقدة يصعب ضبطها .

لقد وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس كلينتون مادلين أولبرايت “سي .إن .إن” بأنها العضو السادس في مجلس الأمن، نظراً لتأثيرها ونفوذها العالميين . لقد كانت الفضائية الأمريكية في وقت من الأوقات الوسيلة الإعلامية الأقوى عالمياً والأقدر على تغطية الحروب والأحداث الكبرى مباشرة وبطرق حرفية مثيرة . لكن احتكارها للحدث العالمي انتهى بعد ظهور وسائل إعلامية أخرى مثل “الجزيرة” القطرية التي يصفها البعض “سي .إن .إن العرب” أو قناة “العربية” السعودية المتهمتين من قبل الأنظمة العربية التي تعرضت وتتعرض لثورات شعبية، بأنهما وراء هذه الثورات . هذه الأنظمة ماتزال تعيش في العصر الذي كانت وسائل إعلامها الموجهة هي التي تصنع الرأي العام الذي وضعته في سجن كبير .

والأمثلة على محدودية قدرات وسائل الإعلام على صناعة الرأي في عصرنا كثيرة، ففي العام 1995 كانت كل وسائل الإعلام الدنماركية تحرّض الرأي العام على التصويت لمصلحة الانضمام إلى الاتحاد النقدي الأوروبي،لكن نتيجة الاستفتاء جاءت معاكسة وقتها . وفي العام 2005 كانت كل وسائل الإعلام الفرنسية تؤيد الدستور الأوروبي المشترك الذي أخضع للاستفتاء، لكن المفاجأة جاءت بتصويت الشعب الفرنسي ضد هذا الدستور .كذلك فعل الشعب الهولندي بعدها بشهرين رغم الحملة الإعلامية والحكومية المؤيدة للدستور .

عدا ذلك فإن دخول الإنترنت وفيسبوك وتويتر والمدونات والمنتديات الإلكترونية وغيرها على خط الإعلام، جاء لينافس الفضائيات ويحد من قدرتها على صناعة الرأي . ولم يعد الاتصال أحادي الوجهة، ولم يعد من “الواحد” إلى “الكل” بل أضحى من “المتعدد” إلى “المتعدد”، هذا بالطبع، مع ضرورة التنبيه إلى ما يتضمنه ذلك من مخاطر وتسميم للأفكار ومعلومات مدسوسة وهادفة .

إن سيطرة بن علي ومبارك والقذافي وصالح على وسائل الإعلام الوطنية والرقابة وكم الأفواه، لم يمنع سقوطهم على يد جماهير تبين بأنها لم تكن البتة أسيرة معلومات تصلها من مصدر واحد .

وسائل الإعلام لم تعد وسيلة فعالة في أيدي الديكتاتوريات، وهي لم تعد قادرة على الذهاب في غير الاتجاه الذي يرضي الجماهير، على الأقل خوفاً من خسارة مكانها في سوق الإعلام والأفكار . هناك إذاً، علاقة ديالكتيكية ما بين وسائط الإعلام والرأي العام . هذه العلاقة تشرح الكثير من التحولات الدولية ومنها الثورات العربية على سبيل المثال لا الحصر .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى