صبحي حديديصفحات سورية

صوت ثورة.. صمت عورة!

صبحي حديدي
‘احتفالية الشارع السوري’ بمرور عام على الانتفاضة السورية، والتي بدأت يوم 15 آذار (مارس) وتتواصل حتى 22 منه، تضمنت فعاليات وأنشطة عديدة، متميزة وغنية وذكية، تحتفي بما أبدعه السوريون من فنون شتى، في الموسيقى والغناء والتشكيل والسينما والمسرح، كان قسط كبير منها وليد الحراك الشعبي الساخن، في الساحات والشوارع والبيوت وô المعتقلات! وأجدني أتوقف عند فقرة حملت اسم ‘سبت المساواة’، أرادت تكريم المرأة السورية بسبب ما تولّته، وتتولاه كلّ يوم، من أدوار حاسمة في الإبقاء على جذوة الانتفاضة حيّة وحيوية، عبر المشاركة المباشرة في أداء مهامّ شاقة وصعبة، شاءت تواريخ تقسيم العمل أن تنيطها بالرجل وحده.
ولم يكن المكتب الصحافي للاحتفالية يبالغ حين أشار، في تعريف هذه الفقرة، إلى أنّ ‘المرأة السورية اليوم نسجت قطعة من روح الوطن لن ينساها التاريخ، وقدّمت أنموذجاً للشجاعة والبسالة والعطاء، فكانت قائدة ومتظاهرة وثائرة وكاتبة وفنانة وطبيبة ومتبرعة’؛ كما أنها كانت بمثابة ‘أمّ لكلّ أبنائها الثائرين، وليس فقط مَنْ عاشوا في رحمها تسعة أشهر’. وهذه النبرة العالية في تثمين الموقع والمكانة ليست بنت البلاغة الجوفاء، إذا استعاد المرء تفاصيل ما تعرّضت له المرأة السورية من تغييب وتشويه، طيلة عقود من عمر النظام، سواء في أطوار تشديد القبضة الفاشية على المجتمع، أو في سنوات الاستهلاك والانفتاح والإفساد. وتحت وطأة هذين الأقصَيَيْن، حيث كانت المرأة ضحية ‘حداثة’ زائفة و’تحرّر’ كاذب، من جهة؛ أو ضحية ردّ الفعل والمقاومة السلبية (التي صار ارتداء الحجاب، من باب تحدّي السلطة، عنوانها وعلامتها)، من جهة ثانية.
وعلى سبيل المثال الأشدّ ابتذالاً، ومأساوية أيضاً في الواقع، كان جوهر تحرّر المرأة في ‘فلسفة’ رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وقائد ‘سرايا الدفاع’، التي كانت مزيج الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري في أيامنا هذه، هو التالي: أن تتدرّب الفتيات، بعد نيل الشهادة الثانوية، على القفز بالمظلات، وعلى سلخ جلود الثعابين والتهامها أمام ‘القائد’، ثمّ اجتياح شوارع العاصمة لإجبار المواطنات ـ من سنّ 15، وحتى 90 سنة ـ على نزع غطاء الرأس (البسيط، وليس الحجاب بالضرورة). مثوبة هذا ‘التحرّر’ هي تسجيل الفتاة في كليات الطبّ أو طبّ الأسنان أو الصيدلة، دون التقيّد بشرط حيازة درجات عالية في امتحان الشهادة الثانوية. دارسو تطورات المجتمع السوري يجمعون على أنّ تلك العربدة كانت السبب الأوّل في انتشار الحجاب، الإرادي وليس القسري، بمعدّلات قياسية لدى شرائح عريضة من صبايا ونساء سورية آنذاك.
إلى هذا فإنّ تكريم دور المرأة السورية في الانتفاضة هو صيغة احتفاء بجدّات لامعات رائدات، من أمثال
ماري عجمي (1888ـ1965)، ومريانا مراش (1849ـ1919)، ونازك العابد بيهم (1887ـ1959)، اللواتي لم يلعبن دوراً حيوياً بالغ الأهمية على صعيد النضال من أجل تحرير المرأة السورية، فحسب؛ بل أسهمن في تحرير الرجل، أيضاً! ومن الطريف أن يسترجع المرء ما قاله فارس الخوري في مديح ماري عجمي، بالمقارنة مع ميّ زيادة: ‘يا أهيل العبقرية/ سجّلوا هذي الشهادة/ إنّ ماري العجمية/ هي مَيّ وزيادة’! ليس دون أسباب كافية، في الواقع، لأنّ عجمي أسّست مجلة ‘العروس’ في عام 1910، وواصلت إصدار هذه المطبوعة النسائية الأولى من نوعها رغم ظروف القهر العثماني؛ وارتبط كفاحها من أجل المرأة بالدفاع عن أحرار سورية من الرجال المطالبين بالاستقلال، كما تبنّت قضية السجناء السياسيين على النحو الذي تمارسه اليوم منظمات حقوق الإنسان، فأصرّت على زيارة السجون، ونشرت في مجلتها تحقيقات مفصّلة عن بؤس المعتقلات وسوء معاملة المعتقلين.
في حلب كانت مريانا مراش تتولّى تأسيس واحد من أهمّ المنابر التي ستطلق صوت المرأة، ‘النادي الأدبي’؛ وكانت أوّل شاعرة سورية تطبع مجموعة، بعد أن قامت بنشر عدد من القصائد في الصحف والمجلات. كما افتتحت في حلب ـ متأثرة، على الأرجح، بزيارتها إلى فرنسا حيث أمّت صالونات أدبية شهيرة مثل صالون مدام دي ستال، ومدام دي نوييه، ومدام دي سفينييه ـ صالونها الأدبي الذي ارتاده حشد من الأدباء الرجال (أيّام الحكم العثماني!)، ونشّط الحركة الأدبية على نحو لم تعرف له المدينة سابقة من قبل.
من جانبها لم تكتفِ نازك العابد بيهم بالنضال ضدّ الإستعمارَيْن التركي والفرنسي؛ ولم يقنعها، أيضاً، أنها أسّست جمعية ‘النجمة الحمراء’ التي ستكون النواة المبكّرة لـ’الهلال الأحمر’؛ بل ذهبت إلى حدّ الانخراط المباشر في الجيش السوري، وشاركت في موقعة ميسلون الشهيرة، التي خاضها وزير الدفاع الوطني يوسف العظمة، واستُشهد فيها، وقيل إنه أسلم الروح بين يديّ العابد بيهم. ولم يكن مفاجئاً، وإنْ ظلّ سابقة كبرى، أن يمنحها الملك فيصل الأوّل رتبة نقيب فخرية في الجيش.
ولأبي الطيب المتنبي ذلك البيت الشهير: ‘ولو كان النساء كما عرفنا/ لفُضّلت النساء على الرجال’؛ والقيّمون على احتفالية الشارع السوري، إذْ يتابعون تخاذل بعض الرجال مقابل أفعال النساء المشرّفة، لا يترددون في اقتباس اللافتة القاسية، ولكن الصائبة المحقّة: ‘صوت المرأة ثورة، وصمت الرجل عورة’!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى