صفحات الرأيهيثم وقاف

صورة الجسد الأنثوي في نظامنا البطركي

 

هيثم وقاف

                                                1

تبدو الحدود الدلالية للمتمعن في الألفاظ الثلاث: الجسد، الجسم، البدن، باهتة ومتداخلة عند أهل اللغة، كذلك في الاستعمال القرآني لها. لانجد “للجسد” صفة مخصوصة تميزه بشكل صارم ودقيق، عن الجسم أو البدن. لكننا نجد ما هو مفارق لهذه الالفاظ جميعها : “الروح” مبدأ الحياة ،ذلك الجوهر الذي لا يدرك كنهه. والذي به وحده تقوم حياة الجسد/الجسم/البدن، ويحضر معناه، وعبره فقط يتصل الانسان بالعالم العلوي، ويأمل بالخلاص من “بدنه” الأرضي حيث تسجن الروح التي طردت بالخطيئة من “عالم المثل” وظلت تتلهف شوقاً للعودة إليه.

ما يعنينا هو الجسد الأنثوي المسيج بمنظومة عقدية وأخلاقية، تتضمن كافة التوجيهات، والقواعد السلوكية، والخطابية، والجسدية، التي أعادت إنتاج الجسد الأنثوي على صورة جسد منمّط مكرور.

جسد  المرأة في هذه المنظومة ليس لها، هو للغير: الأب، الزوج، الطفل. هذا هو مبرر وجوده . لذلك تعذر على الأنثى أن تقول أنا”ها” من خلال جسد”ها” أو أن تكون مرئية للآخر كذات عبره. فجسدها ليس وسيلة للتعبير عن شخصيتها، بل هو مفتاح عبوديتها وتبعيتها. وفي المحصلة هو” لعنتها” الأبدية. ويلقنّ المجتمع البطركي الأنثى في كل مراحل حياتها تصوراته وهواماته حول “جسدها”: الغاوي، الملوث، الآثم، الفاني، الخاطئ، نقيض الروح في ماهيتها، العلوية المفارقة. وقد وضع  القواعد التي تقيده، وتحدد شروط اشتغاله، والهدف النهائي من استعماله. إن الأنثى/الوظيفة، غير الحرّة في التعاطي مع جسدها، أو في التعبير عن مكنوناته وأشواقه، هي بامتياز أنثى الأدلوجة البطركية السائدة. ويليق بالجسد الأنثوي في هذه الأدلوجة أن يكون مكبوتاً، منبوذاً، مقصيّاً، محكوماً بالهامش، سالباً تجاه الذكورة. إن أدلوجة المجتمع البطركي تبنّي في الحقيقة ثقافة اللاجسد.

يرى النظام البطركي الإسلامي، في الجسد الأنثوي طاقة إيروسية مخيفة. وبالتالي إمكاناً يبدو مفتوحاً للانحراف عن الناظم الشرعي لاستخدامها. لذلك أبدع خطاباً ذكورياً هادفاً، يسوّر الجسد بأخلاقيات فاعلة تحميه، أو قل تحمي استعماله المجدي /الشرعي، وحدد آليات لذلك تخدم استمرارية المؤسسة البطركية. إن هاجس الخطاب الذكوري في استعمال الجسد الأنثوي على الوجه الشرعيّ يتجلى في متابعة هذا الجسد بضراوة من “البلوغ” إلى اللحد. على قاعدة أن المرأة كائن ناقص، وعاجز، عن الضبط الذاتي لرغبات جسد محموم متشيطن بطبيعته.

وإذا كان العنف يمثل أقصى درجات التسلط ،فإن رهان السلطة البطركية الأقوى يقع عليه، من أجل إخضاع الجسد الأنثوي. ذلك أن الجسد “المثالي” في المنظور البطركي هو الجسد الطيّع، المنتج، المستقيل، المستجيب، الخاضع…. وليس أحب على النظام البطركي، من مكان لغرس فضيلة الطاعة أكثر من المرأة/الجسد. في الحقيقة تلك هي سياسته اليومية، لضبط إيقاع الجسد الأنثوي، وفقاً لتعاليم وأخلاقيات المؤسسة. إن الجسد الحرّ، المتدفق، لا مكان له في هذا النظام. واقعياً هناك نموذجان للجسد يعيشان فيه: الجسد المغلول، من الولادة حتى الموت، الذي رضي بأغلاله فصار حطام جسد. والجسد “المنافق”، الذي يظهر خلاف ما يبطن، ويعيش ثنائية الداخل والخارج، طامساً حقيقته ببرقع الفضيلة خوفاً من العقاب.

في إطار مستلزمات تدبير الجسد الأنثوي، يأتي الحجاب كعلامة إشهار للعفة والفضيلة والطاعة، وكحجب في الوقت ذاته لسحر الأنوثة المؤثم. فالجسد الذي يثير الرغبات المحرّمة لا مناص من حجبه وطمسه. وإذا ما ظهر على الملأ، ظهر على شكل كفن متنقل، أو كتلة من اللحم لا شكل لها، ولا رائحة، ولا لون سوى السواد. هذا الضرب من العنف الرمزي، الذي يوقعه الحجاب على الجسد/الأنا، لا يقل في قسوته عن الهتك لعريه. لا ننسى أن من فذلكة إدارة الجسد الشرعيّة، أن تتجنب المرأة في مشيتها، في قيامها وقعودها، في تصويتها الخ …كل ما يجلب الانتباه، إلى وجودها، بحيث تكون غائبة  في حضورها، متبرئة دوماً من الفتنة المضمرة، والكيد المتربص.

من المريع في الخلقية البطركية، أن ينشد الجسد الأنثوي لذاذاته لذاتها. فالواجب الأخلاقي/الديني يحتم بقاء هذا الجسد رهين وظيفته في إنجاب النسل، عبر علاقة أحادية، تعطي الأولاد شرعيتهم القانونية.

في المقابل للرجل في النظام البطركي الإسلامي، أن يتلذذ بعدد غير محدد “عملياً” من النساء. بوسعه إذن أن يجعل اللّذة الجنسية غاية بذاتها، أو مشروعاً مستقلاً للجسد يمكنه إنجازه. صحيح أن التشريع الذي أجاز تعدد الزوجات حدد سقف ذلك بأربعة فقط. يجمعهن الزوج معاً، في وقت واحد، تحت فخذه. وصحيح أيضاً أن البعض استصوب الاقتصار على واحدة، لتعذر بلوغ “العدل” بينهن. لكن ذلك لم يعنِ تاريخياً وفقهياً، إغلاق الباب، أمام تعدد الزوجات، والتسريّ بغيرهن، استجابة لمتطلبات الفحولة الطبيعية. وهكذا أمكن للرجل إذا رأى حسناً، أن ينصرف إليه قائلاً :”سبحان مصرف القلوب”. نعم يمكنه أن يكون أكثر خفة وينقّل فؤاده حيث شاء له الهوى، ويتقلب بين حال وحال، دونما أن يكون آثماً في ذلك. فحقه غير منقوص أن يكون له شريكات أخريات(عدة زوجات وملك يمين). ليمتع جسده بلذاذات متعددة ومتنوعة. يجوز لنا القول أنه بحكم تعدد إناثه اللواتي يفترعهن ساعة يشاء يحيا بذخاً جنسياً، لا يشاكله وينوف عليه، سوى البذخ الموعود به في السماء. أما الجسد الأنثوي فعليه أن يقتصد في لذاته، بالأحرى على الأنثى أن تمارس نوعاً من  الكفاف الجنسي الدائم ،والتزهد المستمر في الرغاب، وتقنع بما قسمه الله لها من علاقة جنسية مع بعلها الأوحد .هذا ” التقشف” الجسدي هو ضرب من التطهر،لا مندوحة عنه، إذا أرادت الوفاء للعلاقة البطركية.

تصان عفة الجسد الأنثوي من خلال طاعة الأنثى للرجل، وهو الأب أو الأخ عندما تكون بكراً، والزوج عندما تصبح مبعولة له. وإدارة الجسد المثلى تتطلب أن يبقى الجسد عفيفاً قبل الزواج، مخلصاً خلاله. ويتوجب على الرجل المتابعة اللصيقة للجسد الأنثوي، كي يبقى الأخير ضمن دائرة” الحلال”. فشرف العائلة البطركية برمته يتوقف على ذلك. وعلى هذه العائلة أن تكسب رهانات هذا الشرف. وهي رهانات لا تتوقف إلا مع موت الأنثى المعنية.

إن الفعل الجنسي لا يكون أخلاقياً وشرعياً، إلا في إطار سيادة الذكورة وسيطرتها. والجسد الأنثوي المنضبط/الطاهر، ينشد اللّذة لسيده في المقام الأول. مع ذلك مهما بذلت المرأة من الطاعة، فإن جسدها يبقى موضوعاً للشبهة!! لأنه في العرف البطركي يختزن الرغبات المشبوبة، التي لاتعترف بمبدأ الحلال والحرام. لذلك كان الجسد الأنثوي هو امتحان الرجل الدائم، في سعيه لضبطه واستثماره. وبالطبع يلعب الخوف من العنف، المجاز تطبيقه على الجسد الأنثوي بالحدود الشرعية، والرهبة حيال الموت، والعذاب الآخروي، الموصوف في القرآن  ببلاغة مفرطة، دوراً حاسماً في انضباط الجسد الأنثوي، داخل حرم  البطركية

 والمفارقة أن الوفاء للزوج، يتطلب فيما يتطلب، أن تثبت الزوجة على الدوام، جدارة جسدها في إمتاعه، تحت طائلة التأديب الشرعي أو الطلاق. إن قيمومة الزوج على الزوجة، هي في جوهرها، قيمومة الذكورة على الأنوثة. ومن البدهي في هذه العلاقة أن يكون الجسد الأنثوي هو: التحت، الأدنى، المهيمن عليه، المنفعل، المخترق، المهزوم، الموطأ الخ…وأن يكون الجسد الذكوري هو: الفاعل، المسيطر، المُولِج، المتفوق، المُفترِع، الراكب، المُشرف من علٍ الخ… حتى اللغة العربية تسطو بعلاماتها على الجسد الأنثوي، وتكبله وتعرضه مذلولاً ومخترقاً. وهي بذلك تعكس بأمانة في مرآتها القاموسيّة سيطرة العلاقة الذكورية وقيمومتها.

يجدر القول أن هذا النظام الصارم واليقظ، حيال الجسد الأنثوي، ليس اختراعاً اسلامياً محضاً. إنه بالأحرى إعادة انتاج لمفهوم الجسد في الفضاء الاسلامي. والجذور الأقرب لهذا النظام نجدها في التراث اليهودي/المسيحي، كما نجدها في النظام الأبوي المغرق في القدم عند شعوب المنطقة .إن تاريخ الجسد الأنثوي هو بمعنى ما تاريخ قمعه، ومصادرته. وعلى صفحة هذا الجسد انحفرت علامات الدين والسلطة والملكية.

                                               2

كثر الحديث في الآونة الأخيرة، عما تتعرض له اللاجئات السوريات، من المهانة والاذلال في مخيمات اللجوء، وأماكن الإيواء الأخرى. فالهاربات من هتك الأعراض والموت الزؤام في موطنهن، وقعن في غربتهن ضحايا الاغتصاب والزواج القسريّ. وقد ظهر سوق للزواج بالسوريات، اللاتي تقطعت بهن السبل. يرتاده أصحاب المقدرة من الأخوة العرب. وتنطح بعض المشائخ  فأفتوا بوجوب الزواج من اللاجئات، صوناً لأعراضهن، ودفعاً لحاجاتهن. لابل وصل بهم التهافت، حدَّ اعتبار ذلك نصرة للثورة السورية، وواجباً وطنياً ودينياً. لكأن أخشى مايخشاه هؤلاء، على الثورة، هو انفلات الجسد الأنثوي خارج أسوار نظامهم البطركي. وكأنهم لم يجدوا سبيلاً لنصرة الثورة، سوى إعلان الجهاد الجنسي،

 حفاظاً على شرف العائلة البطركية السورية.

هذا الحدث الذكوري، شاهدناه في الثمانينات من القرن الماضي، عقب مجزرة حماه المروعة. إذ تنادى أصحاب “الفضل” من الذكور إلى ستر النساء الحمويات، الأرامل منهن والعازبات. وإلى مصير مشابه، تعرضت النساء العراقيات المنكوبات في الأعوام الممتدة بين 2005-2009 خاصة. فبادر الذكور الخليجيون إلى شرائهن، وإلقاء الستر الشرعي عليهن. وبين الفينة والأخرى، كانت تتعالى أصوات الداعيّن للزواج من الأرامل الفلسطينيات. فيسارع المجاهدون الذكور لحفظ أعراض الشهداء.

في كل مناسبة من هذا النوع يقال: وما المشكلة في هذا الزواج ،طالما أنه يجري على سنة الله ورسوله؟؟ يغفل القائلون بذلك أو يتغافلون أن هذا زواج بالإكراه، يتمّ في ظروف قاهرة تعيشها هؤلاء النسوة، ولا يستقيم بأية حال مع السنن العادلة.

برأييّ المشكلة ليست في الجدل الدائر حول شرعية هذا الزواج أم لا. وبالطبع لن تزول بالتنبّيه والتوعيّة إلى مخاطره. المشكلة هي في النظام البطركي السائد، الذي ينتج ويعيد إنتاج تلك الصورة النمطية للمرأة، التي أشرت إليها، فهو المرجعية الاجتماعية والثقافية والدينية، لهذا التعامل البخس والجائر مع كينونتها، وهو من يجعلها الضحية الأولى  للعنف في مجتمعها.

                                                 3

ستواجه الثورة بعد انتصارها السياسي، استحقاقات المرأة السورية، من حيث الحقوق والحريات. لن يكون ذلك وفاء للمشاركة اللافتة للنساء السوريات في الثورة. بل في الأساس وفاء للمبادئ الديموقراطية ذاتها. إن الثورة على النظام البطركي لاتقل أهمية، عن الثورة على النظام السياسي. ولن تصل الثورة مبتغاها الديموقراطي إن لم تفعل ذلك.

لقد بادر البعض إلى مديح النساء المشاركات في الثورة، مديحاً “ذكورياً” بوصفهن “أخوات الرجال”. أولئك يتصرفون كذكور في مواجهة الإناث. هذا يطرح سؤالاً كبيراً حول مقدرة الثورة، أن تواجه بحزم السيطرة الذكورية. إن إسقاط النظام هو الخطوة الأولى، على طريق الثورة الديموقراطية الطويل. وجدير بالنساء السوريات، أن يخضن نضالهن ضد التمييز الجنسي. وأن لا يتوقعن من الرجال أن يتخلوا عن امتيازاتهم الذكورية، بمحض إرادتهم. تلك الإرادة المصاغة على شكل قوانين وضعية، وأعراف اجتماعية راسخة، ونصوص فقهية شبه مقدسة… لقد تعفن وضع المرأة بما يكفي لكي تتحرر. لكن هذا ليس أمراً حتمياً. فلا شيء يؤكد أن هذه الثورة لديها من الطاقات التحررية، ما يكفي لتحرير المرأة من قيودها. لكن المؤكد أن هذه الثورة تفتح أفقاً تاريخياً خصباً للتغيير الشامل. قد يسمح لاحقاً بمواصلة النضال ضد منظومة القيم الذكورية، من أجل تحرير الجسد الأنثوي والذكوري من صورتيهما النمطية السائدة.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى