صفحات العالم

صياغة النظام الإقليمي لـن تتجـاوز الشعـوب


سليمان تقي الدين

يصنع العرب تاريخهم في ظروف جاءت إليهم من الماضي. يندفعون اليوم في نشاط سياسي محموم يتجاوزون الماضي فيغيّرون في تاريخهم أو يضيفون إليه سواء أرادوا ذلك بوعي أم لا. المعطيات الواقعية المتنوعة تتفاعل وتفيض عن إرادة الناس ووعيهم. تتداخل جملة عناصر لتنتج الوضع السياسي. العناصر الدولية في معظمها غير محسوبة وغير قابلة للسيطرة. تقود الإمبريالية معركتها لإنقاذ نظام السيطرة القائم. تتجوّف الآن السيطرة الغربية بفوضى النظام المالي العالمي ونهوض اقتصاديات دول العالم الثالث. تهتز مصادر اليسر الغربي الذي صنع أسطورة تفوّق النظام الرأسمالي. الأزمة الاقتصادية تتفاعل في أميركا وأوروبا. المخرج الوحيد لمنظومة السيطرة هي القرصنة على الاستثمارات والتوظيفات النقدية في السوق العالمية وتوسيع نطاق الحروب الصغيرة والفوضى. تجدّد الرأسمالية نفسها عن طريق الهدم وإعادة البناء. هناك مليارات الدولارات المتراكمة في السلعة العالمية الأكثر رواجاً التي اسمها السلاح.

استهلاك السلاح شرط لإعادة الهيمنة بالقوة حيناً وبالاقتصاد حيناً آخر. فاتورة السلاح الذي تدفق إلى «الشرق الأوسط» خلال بضع سنوات بآلاف مليارات الدولارات. هذا التحدي يخلق بيئة لاستنزاف موارد الشعوب إما باستهلاك السلاح المستورد وإما بتصنيعه. إيران إحدى الدول التي وقعت فريسة هذه المنافسة شأنها شأن الاتحاد السوفياتي سابقاً.

صناعة السلاح في إيران المتوسّعة ليست إلا واحدة من النتائج التي تطلبها الإمبريالية على حساب التنمية الاقتصادية الإنسانية. دخلت روسيا في لعبة الغرب حين ساعدت إيران على بناء المفاعلات النووية. ليس في العالم اليوم دولة واحدة تسعى إلى بناء نموذج إنساني. الصين التي تخوض غمار المنافسة الصناعية بنجاح منقطع النظير هي بلد المليارديرية الأول في العالم. (11 ألف ملياردير).

يشكل التصنيع أساساً لمشروع الاستقلال. لكن التصنيع غير المرتبط بأهداف إنسانية اجتماعية يمثل اليوم أكبر خطر على بيئة الإنسان الطبيعية. يزداد حجم السلع المصنعة ويتضاءل حجم الثروة الغذائية. لا تنتج الرأسمالية فائضاً من السلع الغذائية التي تساهم في معالجة مسألة المجاعة. فضلات الصناعة وترسانتها القديمة لا تصلح لمعالجة مشكلات كالتي تحصل في الصومال أو معظم دول القارة الأفريقية. يقوم الغرب باستهلاك مخزونه من الذخائر والأسلحة بتشجيع الحروب وإدارتها. الحرب بحد ذاتها مسألة اقتصادية. هكذا شجّع الغرب الحرب العراقية الإيرانية ثم الحرب العراقية الكويتية وعاصفة الصحراء التي تلتها، ثم حرب احتلال أفغانستان والعراق والآن اليمن وليبيا وسوريا.

لم تؤد نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي إلى وقف سباق التسلح. انهار حلف وارسو وما زال الغرب يتمسك بدور الحلف الأطلسي والناتو. روسيا الرأسمالية لا يتوقف الغرب عن محاصرتها بالدروع الصاروخية.

لا مكان للحروب العقائدية الآن فيقوم الغرب على إعادة إنتاجها بأشكال مختلفة. من حروب العقائد إلى حروب الثقافات والحضارات يتأكد أن الغرب الإمبريالي لا يسعى إلى إشاعة السلم والاستقرار في العالم. الغرب الذي عمل على شيطنة الإسلام ووصفه كمصدر للإرهاب والعنف والفاشية يتولى الآن دعم حركة الإسلام السياسي تحت ذريعة الحرية والديموقراطية. صعود الإسلام السياسي وسيلة ناجحة لاستثمار الصراعات. لا ينتج الإسلام السياسي نمطاً اقتصادياً مختلفاً. حروب الهويات الثقافية مصدر شغل أساسي للغرب. لا نجد في النموذج التركي أو الإيراني العقائديين ما يفيد عن نظام اجتماعي مختلف. إقحام «الشرق الأوسط» في النزاعات والحروب هو الفارق الجوهري عن تجربة النهضة اليابانية أو حتى الصينية. السياسة والعقائد كلها في خدمة هدف واحد هو السلطة والثروة. أشاع الغرب أن الرأسمالية هي العالم الحر ضد عالم الاستبداد العقائدي.

انتصر العالم الحر ولم تنتصر الحرية. اعتقد بعض العرب أن خروجهم من نزاع المعسكرات يوفر لهم فرصاً أكبر لتحقيق طموحاتهم. حين سيطر القطب الواحد على العالم فقد العرب معظم قدرتهم على المناورة. انخفض الدور العربي من مرتبة اللاعب في السياسات الدولية إلى مرتبة الطرف الذي تتنازعه دول إقليمية.

هكذا صار يُقال إن الأزمة السورية مرهونة لتفاهم إيراني تركي. أو يُقال إن مشكلات الشرق الأوسط كلها، بما فيها دور إيران وتركيا وإسرائيل، مرهونة لصياغة نظام عالمي جديد تحدّد صورته الدول الأقوى اقتصادياً، بعد أن فشلت الموجة العسكرية الأميركية في فرض خيارها عليه. فهل يعني هذا الكلام تنحية حركات الشعوب وتضحياتها عن المشاركة في صياغة مستقبلها؟ من المبكر جداً القول إن الشعوب ضحية صياغة دولية جديدة للنظام الإقليمي. تفكيك المنطقة وإعادة تركيبها ليس معزولاً هذه المرة عن القوى التي حملت شعار «الشعب يريد» وما تزال تقاوم عملية استيعاب طموحاتها ومشروعها إما بالعملية السياسية كما يجري في مصر وتونس أو بالعنف كما يجري في اليمن وليبيا وسوريا.

هناك حقيقة جديدة في هذه المنطقة يصعب تجاوزها في أي بلد عربي مهما كانت نتائج المواجهات. أثبت الشباب العربي الذي خاض غمار الانتفاضات ضد الأنظمة الدكتاتورية أنه يعرف ما يريد والتعبير في بضعة شعارات ومفاهيم. ما يعيبه البعض عليه هو سر تجربته الجديدة. هذه انتفاضات لا إيديولوجية تحكمها ولا زعيم يقودها ولا جهة إقليمية أو دولية تصادر حركتها. الشباب الذي شرّع صدره لأعتى أنواع القمع والقتل والتنكيل هو صاحب قضية وليس أداة لأي فعل خارجي. ومن أبشع حجج أي نظام أن يزعم الاحتكام إلى الشعبية عن طريق توازن القوة العسكري. لا تفعل الأنظمة العربية بهذه الوسيلة إلا التأكيد على أن الاحتكام إلى العنف ليس إلا إعلان إفلاس سياسي قد تتأخر نتائجه. لكن أي نظام مهما بلغت قدرته على القمع لا يستطيع تجديد شرعيته بهذه الوسيلة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى