صفحات الناسهيفاء بيطار

صيانة الصداقات/ هيفاء بيطار

 

قرأنا الآلاف من المقالات وحضرنا الكثير من البرامج التلفزيونية التي تتحدّث عن المشاكل الزوجية وكيفية تجاوزها وصيانة الحب، لكن قليلا ما قرأنا أو شاهدنا بحوثا جادة في صيانة الصداقة التي هي من أرقى العلاقات الإنسانية وأكثرها دواما، لكن للأسف فإن الكثير من الصداقات تتعرض لانتكاسات كبيرة لدرجة القطيعة التامة، وفي حالات كثيرة تتحوّل مشاعر المحبة والمودة بين الصديقين إلى مشاعر كره ونفور، كما لو أن الصداقة تُصاب بدورها بما يُشبه السكتة القلبية، وفي السنوات الأخيرة وتحديدا منذ بداية الربيع العربي انهارت صداقات عديدة وانقلبت إلى عداوات بسبب المواقف المتباينة للصديقين حول ما يجري على الأرض أي قراءة الأحداث، ولم يجد أيّ من الصديقين مانعا في بتر صداقتهما التي قد يتجاوز عمرها الربع قرن، مُضحيين بأهم ما يجمع الناس مع بعضهم البعض وهي المواقف الإنسانية.

فمهما اختلفت آراؤنا يجب أن تكون الأولوية في العلاقة الإنسانية هي المودة والمشاركة والإحساس بأننا نتشارك الوطن والمصير، وقد شهدت انهيار العديد من الصداقات الرائعة منذ بداية الثورة السورية، حيث تحوّل أعز الأصدقاء إلى ألدّ الأعداء بسبب مواقفهم المتباينة من الثورة السورية! وأتساءل بألم ودهشة كيف أمكن للصديقين أن يُضحيا بذكريات ومشاركة حياتية مديدة بسبب موقف سياسي مهما كان؟

ومع الوقت تتّسع الفجوة بين الصديقين وتمرّ الأيام والأشهر ولا أحد منهما يتخذ موقف المبادرة في القيام بالخطوة الأولى نحو كسر حاجز الصمت والتعنّت تجاه حق الصداقة عليهما، حق سنوات من المحبّة والدعم النفسي والمعنوي وربما المادي أيضا بين الصديقين، ولا أنسى أبدا يوم قصدتني ممرضة -وكنت لا أزال أعمل طبيبة عيون في المشفى الوطني في اللاذقية- وطلبت منّي أن أؤمّن لها عدة إبر من الفاليوم (المخدر القوي) لأن صديقتها فقدت ابنها في الحرب السورية وتحول الشاب ذو العشرين ربيعا إلى ورقة نعي، أمّه انهارت وتحولت إلى إنسانة شلّها الألم وطرحها خائرة القوى في سريرها تئن مطالبة بابنها، ورغم صعوبة تأمين عدة إبر من الفاليوم فقد تعاطفت مع الأم الثكلى واستطعت أن أؤمن لها عدة إبر فاليوم من المشفى، وفي اللحظة ذاتها وبعد أن غادرت، صعقتني ممرضة أخرى -من طائفة مختلفة- وعاتبتني بغضب لم تستطع السيطرة عليه قائلة لي كأنها تُجرّمني وتحاسبني على جريمة قمت بها إذ قالت لي “كيف تؤمنين إبر فاليوم لتلك الإنسانة التي كان ابنها يقتل المتظاهرين؟!”، وأنا لست من النوع حاضر البديهة، صعقتني الدهشة والذهول ووجدتني أتذكر صداقتها مع تلك الأم الثكلى حيث تشاركتا في دراسة التمريض لأكثر من أربع سنوات، تشاركتا غرفة واحدة وأحلاما واحدة وأسرارا واحدة ثم تم فرزهما معا إلى قسم العينية أي كانتا تقضيان في العمل وقتا أكثر ممّا تقضيه كل واحدة منهما مع أسرتها، وكم كنت أحس بسعادة حين أحضر باكرا إلى المشفى الوطني وتدعوانني للفطور وشرب الشاي، كانتا رائعتين بالمحبة الراسخة التي تجمعهما وبمحاولة تغطية كل منهما على الأخرى في حال تأخرت عن الدوام، لكن هذا العمر المديد للصداقة نُسف تماما لأن ابن كل منهما اختار –أو بتعبير أدق– زُج في قدر لا يستطيع رده، وبضربة ساحر شرير تحولت الصداقة بينهما إلى عداوة شرسة! وكنت أتساءل بسذاجة الأطفال: كيف أمكنهما أن يُطوّحا بأكثر من عشرين سنة صداقة رائعة كانت مضربا للمثل، وكيف تعنفني وتعاتبني صديقتها لأنني أمّنت عدة إبر فاليوم لأمّ ثكلى. وقلت لها محاولة امتصاص غضبها “لكنها صديقة عمرك وتشاركتما ذكريات ومواقف رائعة كثيرة ورقصت كل منكما في عرس صديقتها فأين ذهب كل هذا المخزون من الحب والصداقة؟”، ردت بحقد وبرود “لكن ابنها مجرم ويقتل المتظاهرين وهي أمّه”.

أحببت أن أعطي هذا المثال الحي لأنه يُلخّص الآلاف من المواقف المشابهة والتي حصلت للأسف لدى أعلى الناس مرتبة فكرية وثقافية، كل طرف اختلف مع الآخر سياسيا طوّح بصداقة مديدة ورائعة، وأنا أؤمن أن أساس العلاقات بين البشر وأكثرها قوة ورسوخا هي تلك العلاقة الإنسانية والمودّة والتعاطف، الإحساس أننا جميعا أخوة وشركاء في الوطن والمصير، ولم توجد أسرة واحدة في دول العالم العربي التي داهمها الربيع العربي إلا وتأذت خاصة في سوريا وليبيا واليمن، حتى أن الكثير من الإخوة تحولوا إلى أعداء وانقطعت العلاقة بينهما تماما.

الصداقة ثروة حقيقية لا تعادلها ثروة، ويجب أن يعي كلّ منّا أهمية وروعة أن يكون لديه صديق يدعمه ويحس به ويحاوره، لقد خسرنا الكثير من الإحساس بالأمان إلى الخسائر المادية إلى الفقر وانهيار العملة، وداهمتنا مشاعر الإحباط واليأس، وافتقدنا كليّا لأيّ شكل من أشكال الفن والإبداع السينمائي والمسرحي وحفلات الطرب الأصيل، وقهرتنا الكهرباء الشحيحة وأذلتنا وكذلك المياه التي قد تنقطع أياما، لم يبق من عزاء لنا سوى الصداقات الحقيقية، أن أنظر للآخر كأنه مرآتي ومرآة روحي وبأنه يُشاركني مشاعر الألم والخسارة والإحباط.

كيف نسمح بذبول الصداقات المتينة والداعمة والتي لم يعد لنا من عزاء غيرها. يجب أن نصون صداقاتنا الأصيلة كما نعتني بنبتة، وعار علينا أن نبتر تلك الصداقات على أساس خلاف سياسي لأن أساس التعامل بين البشر إنساني. كلنا نتشارك المصير الإنساني نفسه، فلنكن أوفياء لصداقاتنا ونعتني بها وننمّيها لأنه لم يبق لنا غيرها داعما في هذا الوجود الجحيمي والواقع الوحشي.

كاتبة من سوريا

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى