صفحات الرأيطيب تيزيني

ضبط الديموقراطية عربياً


د. طيب تيزيني

يمكن الجزم بأن مفهوم “الديموقراطية” واجه ولا يزال يواجه التباسات أسهمت في إنتاج أخطاء فاحشة على صعيد الممارسة العملية. ولعل هذا الحكم ينسحب على كل تجارب الشعوب غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً. لكننا عبْر فعل تصنيفي وضمن سياق تاريخي مركّز، لعلنا نصل إلى خطوط أولية نتعرف بمقتضاها على حيثيات دقيقة في عملية “الضبط” المُعلن عنها في عنوان هذه المداخلة.

فمن المعروف أن الديموقراطية بوصفها منظومة سياسية ثقافية لا تنشأ في كل الحاضنات الاجتماعية الاقتصادية على نحو متماثل أو متقارب. ولا بد من الإضافة أن قواعد الديموقراطية المعنية هنا تمثل أهمية كبيرة في ضبط الحراك المجتمعي عموماً، خصوصاً قاعدة المساواة الحقوقية بين المواطنين. وفي هذا المجتمع تظهر المؤسسات التي تتبع السلطات الثلاث وتضبطها، مع أهمية الإشارة إلى قاعدة التبادل السلمي للسلطة، وغيره.

وثمة ملاحظة مهمة أن هذه الديموقراطية البرلمانية لم تنفصل تماماً عن ما يسمّى ” الديموقراطية الشعبية “، التي ستلح على الحقوق الاقتصادية والمادية عموماً لكل المواطنين، مع تشديد على حقوق الإنسان الكبرى. فالدولة الرأسمالية بمرجعيتها الطبقية، كانت ذات علاقة بالدولة بوصفها “الأم الرؤوم” لجميع الموطنين، كما كانت تلح على مبدأ العمل والتعلّم وغيره.

إن الالتباس الذي يمثّل في إظهار الديموقراطية الشعبية بمثابتها أمَّ حقوق الكادحين اقتصادياً، دون حقوق الإنسان الأخرى؛ وفي الاعتقاد بأن الديموقراطية البرلمانية تتأسس بالدرجة الأولى على التأكيد على حقوق المواطنين تأكيداً لا يمسّ مصالح الطبقة الوسطى والأخرى الدنيا.

إن تلك الإشكالية التي تتلخص في أن الديموقراطية البرلمانية احتيال على الفقراء، وفي أن “الديموقراطية الشعبية لا تأبه بحقوق الإنسان مثل حق التنظيم السياسي والنقابي الحر، وحق التعبير والتظاهر.

في هذه الوضعية برزت التجارب الديموقراطية الحديثة، خصوصاً بعد تحقيق استقلالات بعض البلدان العربية مثل سوريا ولبنان ومصر وتونس، التي لم تكن الديموقراطية البرلمانية (الرأسمالية) وحدها قد حققت حضوراً عالمياً، بل راحت تبرز كذلك تجارب ديموقراطية شعبية مقترنة بنشوء بلدان اشتراكية (كالاتحاد السوفييتي)، أخذت تؤثر بقوة في كثير من البلدان العربية. وهذا ما نلاحظ حضوره حتى الآن في تلك الأخيرة.

والآن وقد حلّ “الربيع العربي” بشعاره في الديموقراطية والحرية والكرامة والعدالة، نلاحظ أن بلدان هذا “الربيع” كانت قد عاشت عقوداً تحت قبضة نُظم ديكتاتورية. هاهنا، نضع يدنا على نقطة ذات أهمية خاصة في التجربة الجديدة التي تواجه شباب الثورة (الانتفاضة) بكل جدّية. وقد راح السؤال التالي يطرح نفسه على أولئك وغيرهم من معظم الأحزاب والتنظيمات السياسية في بلدان “الربيع العربي”: كيف نصوغ ديموقراطيتنا السياسية، التي حُرمنا منها على مدى عقود، يداً بيد مع الكفاح من أجل تعميم مفهوم الديموقراطية على نحو يشمل كل حقول الحياة، من الاقتصاد إلى السياسة والتعليم والثقافة والإعلام والقضاء … الخ؟ إنها رؤية تركيبية إبداعية ترفض الوقوع في التباسات وأخطاء مرّت بها بلدانهم؟

ها هنا نضع أيدينا على ملاحظة بقدْر ما كان إقصاؤها سابقاً أمراً وارداً، فإنها تظهر راهناً مهمة بل حاسمة في الصراع الذي قادته وتقوده الثورات العربية “الربيعية” ضد النُظم الأمنية العربية التي امتطت التاريخ من مواقعه الكبرى الحاسمة. أمّا هذه الأخيرة فهي مواقع السلطة، والثروة، والإعلام، والمرجعية الاجتماعية السياسية، القائلة بأن أحزاب تلك النظم هي التي تقود الدولة والمجتمع، حتى لو ظهر الأمر غير ذلك شكلياً، أي حتى لو جرى القول من قِبل رؤوس تلك الأحزاب- النُّظم بأن هنالك من شاركها ويشاركها في السلطة بإسم “جبهات وطنية تقدمية”، ليست عموماً إلا خدماً يأتمرون بأوامر حزب السلطة –الدولة الأمنية. في هذا السياق، نذكّر بما ألح عليه الشباب ويلحّون عليه في شعاراتهم، وهو إنهم لم ينتفضوا أولاً من أجل الوظائف والمال، بل هم يفعلون ذلك “من أجل كرامتهم”. وقد لخّصوا ذلك، حين أعلنوا: الموت ولا المذلة! ولكنهم بعدئذ، يعلنون أن الكرامة إذا كانت تاجاً للأحرار، فإن هؤلاء سيجدون أنفسهم مدعوّين إلى تأسيس مؤتمر “إعادة إعمار سوريا” بوصفه نقلة تاريخية حضارية بهذا البلد الجريح. وسيكون الجميع في معركة واحدة، تبرز الديموقراطية “البرلمانية الشعبية” فيها رائزاً على مسار الطريق الكبير.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى