صفحات الرأي

ضجر اليساري/ أحمد جابر

ضاقت الحال بصف واسع من اليساريين اللبنانيين، فذهب أفراده مذاهب شتّى، فمنهم من ارتضى الالتحاق مذهباً، ومنهم من اختار تناسل البرامج طائفة، ومنهم من اعتنق الضجر ديناً، فأباح لضيقه وتبرّمه، مساحة حرية تحفل بالمتناقضات.

من مظاهر الضجر اليساري، تخبط الأسئلة، وعشوائية الأجوبة. في الأوضاع السياسية الصعبة، ما يغذي الأمرين، وفي السيرة اللبنانية وتعرجاتها، أسباب إضافية للضجر. لقد عصفت الحرب الأهلية بالتطور العادي السلس، للمشوار اللبناني، فأقصت خيارات وقرَّبت أخرى، وغلبت برامج على برامج، واختصرت مراحل إرادوياً، ووضعت نصب أعين الثوريين أهدافاً، رأوها قريبة المنال. هذا العصف المفاجئ، كان له أهله الفجائيون، وقياداته المستنبتة على عجل، مما استلزمته الأحداث التي واجهت الحركة اليسارية. من ضحايا تبدل مسار الحياة العادية لليسار، فكرة المراجعة النقدية، وضرورات الوقفات التأملية، التي تسمح بمعاينة الخطأ والصواب، في مجمل أوضاع البنية الحزبية. ومن أوصاب تلك الرحلة وأعطابها، احتلال مسؤولين غير مناسبين، لمواقع حساسة، وهم على فقر في الخلفية النظرية، لكنهم باتوا من أصحاب الاختصاص في الحركة العملية. شيئاً فشيئاً طغت أحكام “العسكرة الأهلية” على الحياة السياسية، وبتدرج لافت، تراجع أهل “اللسان” إلى ما وراء أهل الميدان. كخلاصة أولى أصيبت القاعدة الفكرية، التي تشكل اللحمة الأساس في أي بناء حزبي، إصابة بالغة، وكثيراً ما احتقرت الثقافة باسم العمل، وسفَّهت النظرية باسم الاستجابة لضرورات اليوميات.

 لكن موسم النهوض العسكري – السياسي لم يدم، والانهيار الذي أصاب مشروع اليسار وحلفائه، ترك ارتدادات بالغة السلبية على مجمل البنيان، مما سيجد ترجمته لاحقاً في انزياح فكري عجول، وفي انحياز سياسي خاطئ، وفي تمسك غير مبرر، بمشهدية البقاء على المنبر، بعد أن انفضَّ المحتفلون، وصارت القاعة خاوية، إلاّ من صمت جدرانها!!

 لقد تداعت الخطط اليسارية، وابتلعت التطورات المتلاحقة قواها، وتقدم الصفوف الأهلية الطائفي الأصيل، بعد أن أزاح اليساري الذي حاول أن يكون وكيلاً، أو بديلاً، في المضمار الوطني العام، وفي الميدان الاجتماعي الخاص.

 استعادة الطوائف لزمام الأمور، بعد أن وضعت الحرب الأهلية حداً لطموحات الخصوم الاجتماعيين والسياسيين، شكلت افتتاحاً لمسار آخر، لم يفلح في إعاقته تأسيس المقاومة الوطنية، ومقارعة الاحتلال، كبرنامج بديل لما كان لليسار من برامج قبل الحرب الأهلية، وإبَّان اندلاعها. لم تتأخر البنية في انتداب من يقوم بهذه المهمة، ودائماً من ضمن شروط اللعبة الداخلية المعروفة، وإن لم يصل الأمر إلى درجة الانضباط والالتزام بكل قواعد اللعبة.

 في إزاء الطوفان الطائفي والمذهبي، لم يتراجع اليساريون إلى قاعدة انطلاقهم الأصلية، بل بذلوا جهوداً لكي يكونوا جزءاً من المشهد الجديد، بتوازناته الأهلية المعروفة، وبسماته الطائفية التي لا تخطئها بصيرة. من أجل هذا الهدف الجديد، لدى اليسار، خاصة الشيوعي منه، دُقَّ عنق التحليل، وكسر ظهر “التنظيم”، وأُتقن الانتقال الخفيف، بين مهرجان ومهرجان، وقفز بين صيغة تنظيمية استدراكية وأخرى… لكنه لم يصب نجاحاً في كل ذلك، لسبب بسيط، هو أن الاستدراك السياسي، النظري والعملي، كان في مكان آخر، وتحديداً، في مسقط الرأس الاجتماعي الأصلي لليسار.

 مهمة إعادة التأسيس التغييري، ذي الطابع اليساري، لم تكن لتستهوي أحداً، فهذه المهمة يلزمها التراجع من واجهة الإعلام والإعلان، إلى موقع المراجعة الدؤوبة الشفافة، وإلى استنباط وسائل العمل الجديدة، لغة وممارسة، وإلى سياسة إعادة بناء بيئة اجتماعية، تكون طويلة النفس، وواضحة الغايات. سمة ما تقدم، الصعوبة في كل المجالات، وهذه مشقة لم تكن مرغوبة لدى من قفز سريعاً إلى سدة المسؤولية، وصار أسير التسرع بعد تقلده ما لا قِبَلَ له به، ومكبلاً بقصوره في مضمار الخلفية النظرية، التي تشكل عند المنعطفات الحاسمة، ضمانة لعدم الانسحاب العشوائي، إثر هذه الهزيمة السياسية أو تلك. الشعور بفداحة خسارة الواجهة، وعدم القدرة على الحد من خسائر السياسة، دفعا به إلى اعتماد سياسة الهذر السياسي اليساري، وإلى الدوران في حلقة الحركة المضجرة.

 من يراجع سيرة ما بعد الطائف، أي ما بعد المحطة التي وضعت حداً للحرب الأهلية، يقع على خط بياني انحداري لكل مسيرة اليسار. يتجلى ذلك في خسارة المواقع الاجتماعية والنقابية والثقافية، ويظهر في الانشقاقات المتوالية ضمن البنية الحزبية والانفضاض عنها، ويبدو من كثرة مبادرات “الإنقاذ” واقتراحات الحلول، وتعدد الصيغ الجبهوية وغير الجبهوية… وفي الحصيلة، “جعجعة أكثر وطحن أقل”. لم يكن كل ذلك الضجيج بلا ادعاءات، أو بلا التواءات، بل لعل عدم النزاهة في المراجعة الخاصة للتجربة، وعدم الدقة في معالجة المفاهيم، وعدم المسؤولية التاريخية والمستقبلية عن التدقيق في الاقتراحات، كل ذلك كان من لزوميات اللحاق بالمشهد الجديد، في ظل ادعاء العمل على التأثير فيه، أو التأسيس لإبطاله.

وبعد، يحق لليساري أن يضجر، فهذا شأنه، ويحق لنا أن ننعت حركاته بالبهلوانية، عندما يدعونا إلى مشاهدة حركات خفته اللطيفة، ربما، وهو يظن أننا بصدد تقديم مساهمتنا في نقاش آخر ابتكاراته… النظرية!!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى