صبحي حديديمراجعات كتب

ضحية لا تشبه ولا تتشابه/ صبحي حديدي

 

 

«حول نهاية العزلة»، رواية الألماني ـ السويسري بينيدكت ولز الرابعة، لقيت نجاحاً باهراً منذ صدورها السنة الماضية، وظلت تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في أسبوعية «دير شبيغل» الألمانية؛ كما حازت «جائزة «الأدب» السنوية التي يمنحها الاتحاد الأوروبي، وتُرجمت إلى 16 لغة، بينها الإنكليزية والفرنسية. سبب أوّل، فنّي، وراء هذا النجاح تمثّل في قدرة الروائي على رسم شخصيات عالية التأثير إنسانياً، لثلاثة أيتام تجمعهم مدرسة داخلية قبل أن تتشرذم مصائرهم ويتشظى وجودهم تحت وطأة أنماط شتى من العزلة والفقد. جدير بالذكر، هنا، أنّ الرواية استغرقت من مؤلفها سبع سنوات من كتابة محمومة، أو شبه مَرَضية وهستيرية في الواقع، لأنه اختزلها في نهاية المطاف من 800 صفحة، إلى 350!

وأمّا السبب الثاني وراء ذيوع صيت الرواية فهو سياسي، أو سوسيولوجي إذا جاز القول، يتصل بخلفية الروائي العائلية: أنّ جدّه كان بالدور فون شيراخ، الذي ترأس منظمة «شباب هتلر» بين 1931 و1940، وكان حاكم فيينا خلال الحرب العالمية الثانية؛ وتولى، بالتالي، ترحيل يهود النمسا إلى معسكرات الإبادة، فحوكم في نورمبرغ بتهمة ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية، وخدم 20 سنة في السجن. وهذه هي المعلومات التي تسوقها صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية، إذْ تفتح ملفّ عمل أدبي يخضع لمحاكمة لا تخصّ أياً من عناصره، في المحتوى أو الشكل؛ بل ترتكز على معطى عائلي محض في سيرة صاحب العمل، ينحصر في مصادفة الولادة لجدّ كان قيادياً نازياً. وبالطبع، لكي يحظى ولز بغفران جمهرة من قرائه اليهود ونقاده، لم يكن كافياً أن يعلن مراراً وتكراراً تبرؤه من أفعال جدّه، وأنه «يشعر بالخجل والأسف والحزن» إزاء «ذلك التاريخ العائلي المشين»، أو أن يغيّر كنيته نهائياً.

والمرء هنا يستذكر حملات الترهيب الفكري التي اعتاد شنّها الأمريكي دانييل جوناه غولدهاغن، مؤلف مجلد شهير يقع في 619 صفحة، عنوانه «جلاّدو هتلر المتطوّعون: الألمان العاديون والهولوكوست»، وآخر لا يقلّ شهرة بعنوان «محاسبة أخلاقية». أطروحته، الوحيدة عملياً، تنهض على هذا الجزم، الرهيب المطلق القاطع: ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست، و«ما يُقال عن الألمان لا يمكن أن يُقال عن جميع الأمم الأخرى مجتمعة. الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست».

بين أبرز ضحاياه نورمان فنكلشتاين (المؤرخ، والأكاديمي الأمريكي المرموق، واليهودي سليل أسرة ناجية من المحرقة)؛ وروث بتينا بيرن (المؤرخة الكندية، والباحثة المسؤولة عن ملفات الجرائم بحقّ الإنسانية في وزارة العدل الكندية). جريمة فنكلشتاين وبيرن كانت تفنيد أطروحة غولدهاغن، على نحو علمي هادئ، وفي دورية فكرية رصينة هي «المجلة التاريخية» التي تصدر عن جامعة كامبريدج؛ التي بادرت إلى إبلاغ غولدهاغن بمحتوى السجال، عارضة عليه أن يردّ، فاختار أن يفعل… عن طريق مكتب محاماة، رافعاً قضية تشهير!

مثال ثانٍ يخصّ ألمانيا، دائماً، يختصره التشكيك الصهيوني في مشروعية أسئلة مثل هذه: ما الذي يضير في اعتزام الأمّة الألمانية تكريم ضحاياها (من المدنيين، العزّل، الأبرياء) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ وأيّ إثم في تأسيس مركز توثيق ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الألمانية، والكونية، الجَمْعية؟ ألا يندرج إنجاز مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من شعوب العالم، بل يتوجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟

ولم يكن عسيراً أن يتكهن المرء بأنّ السبب وراء الغضبة الصهيونية ليس أيّ اعتبار آخر سوى الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والانفراد بها تماماً، وتهميش كلّ وأيّ ضحية أخرى، وتقزيمها، بل الحطّ من عذاباتها إنْ أمكن. قرأنا، على سبيل المثال، ما كتبه المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت (الذي يُحتسب عادة في صفّ المؤرّخين «المعتدلين»): «إنّ هدف الأوساط الألمانية المحافظة هو صياغة ذكرى لإحياء الفترة النازية، ولكنها ذكرى منعتقة من الرأي الاتهامي الذي تحمله الضحية اليهودية. ورغم أنّ الإجراء لا يرقى إلى مصافّ إنكار الهولوكوست، إلا أنه بلا ريب يساوي بين الهولوكوست وعمليات الاضطهاد التي تعرّض لها الألمان».

سجلات التاريخ تقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين ذوي الأصول الألمانية طُردوا، بعد الحرب العالمية الثانية، من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: 2 ــ 3.5 مليون من بولندا، 2.3 من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الاتحاد السوفييتي، 400 ألف من المجر، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلى قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. هذه هي الأعداد في تقديراتها المخفّضة، وأمّا العدد الذي تسوقه رابطة المبعدين فهو 15 مليون ألماني. ألا يستحقّ هؤلاء الذكرى، كي لا نتحدّث عن التعويضات وردّ الاعتبار، كما هي حال اليهود؟

سلسلة القراءات التعسفية، وتأويلات الاتهام والتأثيم، التي يجابهها ولز ليست أحدث الأمثلة حول فرض العقاب الجماعي على الأمّة الألمانية، فحسب؛ بل هي واقعة جديدة في سردية قسر الإنسانية على التسليم بأنّ الضحية اليهودية وحيدة فريدة، لا مثيل لها، ولا يجوز أن تشبه أو تتشابه!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى