صفحات الثقافة

ضدّ فينيسيا/ ريجيس دوبريه

 

بافتقارها إلى المساحات الخضراء، والمطارح المنفرجة، وتلك المترامية الأفق، فإن لدى الأمكنة ما تخنق بسببه. إنه العكس تمامًا.

فالغريب العابر يتذوق، في ما يحسه العديد من السكان أشبه بالسجن (تمثل منطقة Mestre ميستر بالنسبة للشباب مهربًا وبابًا للأمل) شعورًا جديدًا كل الجدة بالحرية.

الزائر – الذي قد خرج للتو من قطاره في الصباح الباكر- وقد بدأ يهتز على سطح الباص المائي رقم 1، يدخل في  خرافة احتفائية وراقصة. إنها حياة مخففة، لامبالاة مجيدة، غير منتظرة وإن قُبلت على الفور. نشوة تلامس الطفولة.

ثمة ها هنا سحرٌ وفتنة معروفان تمام المعرفة، (حُرمت منهما مدينة نابولي بالطبع) إلا أنهما لا يقدران على تفسير فخامة المباني، ذات السعة المتواضعة، ولا القوارب الخلابة التي تصدر صوت “فلوك فلوك” بين البيوت.

ولو أن الأمر متعلقٌ باستعمال المراكب في الطرق، والساحات – البرك، فإن مدنًا مثل أمستردام وبانكوك وبروج، تؤدي هذه المهمة بشكل جيد. لكن سرّ الانبهار ليس هنا: هو في تلك البهجة المفاجئة للعب.

فالبندقية تؤدي دور مدينة، ونحن نؤدي دور من يكتشفها. مثل الأطفال والممثلين. الزمن، خلال زمن معلّق، إذ إننا نهجر ما هو جدي من أجل الـ “كما لو” أنه عرض مسرحي للحياة، وهو أمرٌ يشبه الصعود بالمنطاد.

ولو أنها مجرد مدينة – متحف، لكانت البندقية كئيبةً كواجب مدرسي في العطلة. قصور القنال الكبرى، غير الموضوعة في “فيترينات” (واجهات العرض)، ليست تمامًا مجسمات لقرى “بوتمكين” (قرى خداع بصري لغايات البروباغاندا)، ومن دون أن تكون كذلك، أماكن سكن حقيقية. لن تساورنا فكرة السكن فيها، بيد أننا نستطيع لمسها، هذه البيوت المزيفة: هي فعلًا أمامنا من دون أن توجد حقًا.

لكأنها انعكاسات صلبة لانعكاساتها في الماء.

لا نرى أحدًا يطل من شرفة، لا أثرَ لنشاط منزلي أو نشاط تافه، كما في كل مكان عادة أصلًا (مصاريع شبابيك تصفق، بوّابون، أطفال، مدبرات منزل يحملن سلال تسوق): وفي الليل، بالكاد بعض الأروقة المنارة، وبالكاد نلمح ظلًا متسللًا أو ظلين.

ثمة فقط القدر اللازم لنستطيع أن نصدقها، ولتكون المؤامرة قابلة للحدوث، ويكون الديكور تقريبًا حقيقياً.

مدينة المسارح، مدينة الأوبرا والحفلات، هي بحد ذاتها مسرح. ومثلما أن أسبوع كرنفال البندقية لا يؤلف فاصلًا بين قوسين، بل استعارة رمزية في عالم الحفلات التنكرية هذا، فإن مسرح لا فينيس (العنقاء)، مسرحًا على مسرح، يصلح عينًا- مرآة، على طريقة لوحة فلمنكية، لمسرح الظلال والماء هذا.

جالسًا في تيراس “إل تياترو”، في “حقل العنقاء”، محتسيًا شراب الكامباري، متفرجًا – مشاهَدًا، ها أنت في عين السيكلون* عين الإعصار، في ذروة أداء الدور الفينيسي.

المترجم: ديمة الشكر

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى