صفحات مميزةميشيل كيلو

ضد عسكرة الثورة.. أي ضد الرضوخ لاستبداد جديد


ميشيل كيلو

تدور هذه الأيام تساؤلات يطرحها العقل السياسي السوري على نفسه حول معنى مصطلح «عسكرة الثورة»، بعد أن بلغ التطور حداً أثار نقاشا واسعا حول إمكانية وجدوى استمرار الحراك السلــمي، ومعنى أن يقدم الشعب عنقه للذبح، بينما يعمل النظام سكاكينه فيه دون رحمة. يقول رأي عام سوري واسع: إن سلمية الانتفاضة غدت مستحيلة في ظل القمع المكثف، الذي تمارسه أجهزة رسمية لا تتردد في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين بقصد القتل، ولا تحجم عن تعذيبهم حتى الموت، مع أنها تلقي القبض عليهم بالآلاف أسبوعيا.

لا جدال في أن القمع أودى خلال الأشهر الثمانية المنصرمة بحياة وعطل نشاط معظم أفراد جيل كامل، هو جـيل الذين أطلــقوا الانتفاضة وتولوا قيادة مراحلها الأولى ونظموها. ولا شك في أن الشريحة التالية من الجيل الذي نتحدث عنه قد فقدت الكثير من أفرادها وممثليها، وأن خسارة هؤلاء أدت إلى بروز شريحة ثالثة ورابعة خلال هذه الفترة القصيرة، الأمر الذي أحدث تغييراً جدياً في طابع القيادة، وتدنياً ملموساً نزل بمستوى القادة وأعمارهم في أماكن كثيرة، وأفضى إلى تبدل وعيهم ومكوناته الفكرية والمعرفية، مع ما صحب ذلك من خسائر جسيمة في المجتمع الأهلي، الذي بارح قسم منه الشارع، بينما كان يقع انتقال واسع الدلالات في مكانية الحراك، الذي خفت بعض الشيء في المدن الكبيرة، وانزاح إلى ضواحيها وصولا إلى أريافها البعيدة، حيث يدور اليوم القسم الأكثر حيوية والأكبر حجما من التمرد المجتمعي.

لا عجب ان تراجعت فكرة السلمية، نتيجة ضغوط الحل الأمني على المجتمعين المدني والأهلي، وما مورس ضدهما من عنف منظم وجرائم منكرة، وما ترتب على هذه الضغوط المتصاعدة، التي طاولت كل قرية ومدينة وحي وشارع، من تبدل في الأجيال وأمكنة الحدث المجتمعي. وليس مستغرباً أن يدّعي بعض الأشخاص، الذين ينتمون إلى تيارات سياسية ودينية لم تكن لها أية علاقة ببدء الانتفاضة الشعبية وليس لها اليوم أيضا أي حضور جدي أو تنظيمي على الأرض، أن جماعتهم هي التي أطلقته. أخيراً، لا غرابة أن يختلط الحابل بالنابل في أجواء كهذه لم تتشكل بعد فيها ذاكرة ثورية، ولم تدون وقائعها وهويات من عملوا لها وأطلقوها، وأن يقول شخصان ينتميان إلى تنظيمات إسلامية أحدهما الأستاذ أحمد رمضان الذي زعم يوم الجمعة (18/11/2011) في تلفاز الجزيرة أن جماعته هي التي بدأت هذه الثورة، والثاني من آل الشلبي، الذي قرّع بغضب وانفعال شخصا كان يحاوره في القناة نفسها، ولفت نظره إلى أنه لا يحق لغير جماعته الحديث عن الثورة، لأنها من صنعها!

ما علينا: تراجعت فكرة السلمية مع تراجع وعي الانتفاضة ونوعية حملتها، تحت وطأة وضغط وتفاقم سياسات النظام الأمنية، التي توجهت منذ البداية نحو العنف كي تغلق المجال السياسي وبوابات الحوار، وترغم الحراك الشعبي على تبني عنف مضاد، يغلق من جانبه باب السياسة ويقوض سلمية الشارع، فتتحول الانتفاضة إلى صراع بين جيش منظم وقوي وبين مجموعات مسلحين مبعثرين في أصقاع الأرض السورية، وتخرج كتل الشعب الكبرى من الشارع والحراك، وينقلب نضاله من أجل الحرية إلى اقتتال أهلي أو طائفي أو جهوي أو مذهبي يقضي على حلم المواطنة والعدالة والديموقراطية. بسبب هذا الضغط وما واكبه من قتل وترويع للمواطنين، تصاعدت فكرة اللجوء إلى السلاح، وبدأ الناس يتسلحون وسط تصريحات صدرت عن العقيد رياض الأسعد تعلن إفلاس النزعة السلمية واستحالة إسقاط النظام بغير القوة والعنف، وبداية ما نلاحظه من ازدواجية في مركز القرار بين منظمات المعارضة الراهنة (المجلس الوطني السوري، هيئة التنسيق، المستقلون) والمسلحين من العسكريين، الذين بات واضحا أنه سينضم إليهم بصورة متزايدة عشرات آلاف المدنيين في كل ركن وبقعة من أرض سوريا، خلال فترة قصيرة، إلى أن تنقلب المعركة السلمية من أجل الحرية إلى معركة بالسلاح، ستتصاعد وتخضع أكثر فأكثر للقوى المتطرفة من الجانبين.

أرجو أن تكون هذه الشروح قد بينت أن نهاية سلمية الحراك تعني نهاية الانتفاضة الشعـبية والحراك المجتمـعي ودخـول سوريا في سياق جديد، لا علاقـة حقيــقية أو مفصلـية له برهــاناتها الأولى، وأن استمرارها كانتفاضة مرتبط بطابعها المجتمعي والسلمي دون غيره.

والآن: ماذا تعني العسكرة في نظر من يدعون إليها كما في الواقع العملي الراهن؟ إنها تعني بكل بساطة نهاية النزعة السلمية والشعبية وإخلاءها الساحة للنزعة إلى السلاح والعـنف، وتعني خروج الشعب الأعزل، المسلح بالحرية، من الشارع واحتلاله من قبل عصب يحمل أفرادها البنادق في أيديهم، بينما رؤوسهم مليـئة بالتطرف القاتل لأية حرية. وللعلم، فإن أنصار النزعة السلمية لا ينكرون حق المواطنين في الدفاع عن أنفسهم، وهم يعتبرونه جزءا تكوينيا من هذه النزعة، لكنه لا يلغيها بأي حال، ما دام حقا مشروعا تماما ومعترفا بشرعيته، تمارسه الشعوب والجــماعات، كما يلـجأ إليه الأفراد دفاعا عن أمنهم وسلامهم، وليس نزوعا إلى العدوان والعنف، ولكون هدفه المحافظة على النفس وليس ممارسة القتل الأعمى ضد الآخر لمجرد أنه آخر، وضمان الانضواء في إطار سياسي جامع تتباه في حالتنا السورية أغلبية المواطنين هو الحـرية كمـبدأ أعلى للذات وللغير، يضمر ضروبا متنوعة من المقاومة الفردية والجماعية المشروعة، التي تنبثق من أسسه وأهدافه، على عكس العسكرة، التي تحل مشكلات الصراع السياسي من خلال قتل «الآخر» أو إلغائه لمجرد أنه «آخر»، وتخضع المجال السياسي واعتباراته لما يخدم حساباتها وينبع من ضروراتها ومجرياتها، مع ما تفرضه من تحويل العنف إلى سياسة وحيدة تطيح كل ما عداها من أنشطة، عوض إلغائه هو نفسه بواسطة السياسة (النزعة السلمية والمجتمعية أساسا)، ومن إلزام للشعب الثائر بما تتطلبه العسكرة بدل إخضاعها هي لمصالحه وحساباته وأولياته. وعلى كل حال، فإنه، في حالات العسكرة التي تعقب حراكا شعبيا سلميا وواسعا، تفلت الأمور غالبا من أيدي الفاعلين وتذهب نحو الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي والمذهبي، ولا يبقى لها من هدف غير الرد على عنف العدو بمزيد من العنف، والابتعاد عن أي حراك سلمي، مهما كان نوعه، والتعامل معه باعتباره نشاطا مرفوضا بحجة أنه عاجز عن إسقاط النظام، كما قال العقيد الأسعد.

وصل الحراك السوري إلى لحظة مفصلية سيتقرر فيها مصير البلاد انطلاقا من المقاومة السلمية، التي تتضمن حق الدفاع المشروع عن النفس، أو من العسكرة، التي تضع مصيرنا في يد مسلحين يخضع لهم كل شيء، يجهلون غالبا فنون السياسة وآلياتها، مع ما يقود إليه كل خيار من نتائج متعارضة، هي في حالة المقـاومة السلــمية نجاة سوريا وفي حالة العسكرة هلاكها، للأسباب التي ذكرتها قبل قليل، وستسهم في حرف النضال الشعبي عن أهدافه، وتخلق حقلا للفعل العام يختلف عن الحقل الذي بلورته الانتفاضة وتطورها، يؤدي إلى تشويه واقع المعارضة السياسية، التي يرجح أن تصير هامــشية وتفقد معظم دورها، وأن تعمل بوسائل وأفكار مستقاة من ضرورات عسكرة هي في حقيقتها معركة كل شيء أو لا شيء، سيفقد المجتمع معها دوره أكثر فأكثر إلى أن يتم ركنه جانبا بصورة تامة، في حين ستجد سوريا نفسها أمام خيارات لا تشبه تلك التي راهنت عليها من خلال الانتفاضة.

بعد عشرات السنين من الاستبداد، بلور الشعب بفطرته العبقرية خطاً يقوم على ركائز ثلاث هي: المجتمعية والسلمية والحرية. واليوم، تطرح العسكرة عليه خطاً جديداً، معاكساً أو بديلاً، يحول المجتمعية إلى عصبوية، والسلمية إلى عنف، والحرية إلى اقتتال مجهول النتائج، عواقبه وخيمة على الجسد الوطني عموما، كما على الأطراف المنخرطة فيه جميعها، يقوم على إنكار حق الآخر في الوجود، ناهيك عن الحرية.

هذان الخطان لا يمكن التوفيق بينهما، إن تقاطعا في أي حراك مجتمعي، بل يلغي أحدهما الآخر أو يضعفه إلى درجة الإلغاء، فإن حدث وانتصر خط العسكرة في القادم من أيامنا، مثّل ذلك نهاية الحراك وما يحمله من مضامين وركائز، وانتصارا للحل الأمني السلطوي، الذي يكون قد بدأ يؤتي أكله ويحقق بعض مراميه، وفي مقدمها التخلص من الطابع المجتمعي/السلمي للحراك، ومن هويته كحراك قصده الحرية لا يقصي إمكانية الدفاع الشرعي عن الشعب، ووضع سوريا أمام أحد خيارين: الذهاب إلى المجهول، أو الرضوخ من جديد لنظام الاستبداد!

نحن في بداية هذا الافتراق بين الخطين، في بداية انحدار خط الحراك السلمي لمصلحة خط العسكرة الذي يصعد بسرعة، فماذا تختار سوريا؟ الحرية مع المجتمعية والسلمية أم العسكرة والمجهول والرضوخ المتجدد للاستبداد، وضياع كل شيء!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى