صفحات الرأي

ضغينة “الدولة” العربية على المجتمع (الى الصديقين النيرين والكريمين)

 


وضاح شرارة

علل الرئيس السوري، بشار الأسد، إنشاء هيئة الحوار الوطني في الفاتح من حزيران، بين جمعة “حماة الديار” وجمعة “أطفال الحرية” (والعَلَم عليهم القتيل حمزة الخطيب الدرعاوي الحوراني)، تعليلاً لازماً وذاتياً. فقال ان “هذا الحوار”، في إطار هيئة سمّى هو أعضاءها واختارهم وحده من أحزاب أو تيارات تشترك في “إدارة” البلاد تحت لواء الحزب الحاكم وقيادته “الدولة والمجتمع” منذ عقود طويلة، “أصبح ممكناً وقادراً على توفير نتائج أفضل”. وأما السر في نجاعة “الحوار” اليوم وعقمه البارحة أو قبل البارحة، فليس إلا مجيئه “بعد صدور العديد من القرارات والمراسيم التي تسهم في تعزيز الوحدة، وتعزيز المشاركة…”. فـ “الحوار” الرئاسي السوري، وهو ليس بعد إلا هيئة صادرة عن إرادة رئاسية وسلطانية تغرف من ديوان الخاص أو ممتلكات السلطان وحواشيه ودوائره، هذا “الحوار” لا يدين لغير الإرادة نفسها بحصوله في هذا الوقت. وما يسميه بيان رئاسي، أسدي كذلك، “الحالة الراهنة وما اتسمت به من اضطراب سياسي واجتماعي”، إنما هو ذريعة الفرمان المنقضية والمنصرمة، وليس الداعي الى “الحوار” ولا مسوغه الملحّ والسبب فيه.

فالرئاسة الأسدية تريد القول إنها لا تصدر، في حركاتها وسكناتها، إلا عن نفسها. ونفسها هذه هي قراراتها السابقة، ومراسيمها “الجمهورية” الهمايونية. فقبل يوم واحد من لقاء الأسد الثاني هيئة حواره، وهي في رئاسة نائبه ووزير خارجية أبيه منذ 1980 1984 وخارجيته هو الى 2006، مهدت الإرادة السنية لحوارها المزمع بإصدار “عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل 31 أيار”. و “العفو العام” المزعوم وهو شديد التخصيص، ولا يطعن في مسوغات الأحكام التي يعفو عنها، ولا في الهيئات القضائية ومعظمها عرفي وأمني التي تلفظت بالأحكام، ولا في ظروف التوقيف والتحقيق والمقاضاة والإنفاذ ومعظمها حصل خارج الشروط القضائية ومقتضياتها هذا العفو مناورة سياسية وبوليسية ترمي الى استرضاء إسلاميين يظن الجهاز الأسدي أنهم يضطلعون بدور راجح في حركة الاحتجاج العريضة والوطنية التي تهز الجماعات السورية ومجتمعها.

وقبل نحو الشهرين صدرت إرادات همايونية أخرى. فقضت واحدة باسترضاء أكراد سوريا الذين استبعدهم إحصاء سكاني (بعثي) في 1966. وأقرت بنسبتهم وأهليتهم الوطنيتين، وما يترتب على الإقرار من إجراءات وخدمات، من غير التعويض عن خسائر رتبها إغفالهم وإنكارهم المتعسفان عليهم وعلى أولادهم وأحفادهم طوال ثلث القرن المنصرم. وكان قضى إجراء آخر، من الضرب نفسه وفي الوقت نفسه، بإلغاء أحكام الطوارئ الأمنية والبولسية. وسوغت هذه تصريف شؤون السوريين الداخلية والخارجية على طريقة وَلَدَت سنوات 1978 1982 الدامية، وكان شهر آذار 1982 في حماه ذروتها الفظيعة والباقية على الزمن. ولوحت “المستشارة” المثقفة بثينة شعبان ببعث الذروة المروعة الفصل الاول من الوقائع الدرعاوية. والمرسوم الذي ألغى احكام الطوارئ، الصورية والإسمية (فللطوارئ نفسها أحكام ظالمة لم يتقيد الجهاز الحاكم بها وانتهكها على الدوام)، أحيا قوانين سابقة استثنائية سنت غداة الكارثة الفلسطينية أو في سياقة حوادثها.

داخلُ الضرورة

فهذه هي المقدمات المنطقية والشكلية التي يخالها الجهاز الهمايوني “ضرورية”، ويعلق على “إنجازها” إنشاءه هيئته ولجانه ومؤتمراته وبت إجراءاته وقراراته. ويحسب الجهازُ أنه هو وحده مستودع الضرورة، ومصدر الإرادات والفرمانات. ولا يُسلّم لغيره أي جمهور السوريين، وجماعاتهم الأهلية والقومية والدينية، أو لأحزابهم السياسية ونواديهم وجمعياتهم المكبوتة، أو لروابطهم وأواصرهم وميولهم والتزاماتهم الإقليمية والدولية بجواز التأثير والفعل السياسيين أو الاجتماعيين او الثقافيين فيه هو، وفي سياسته وقراراته. وهو يتوهم انه مولود من نفسه، ومن عبقرية منشئه الخارقة والفريدة، وأنه سليل إرادته التي يدين السوريون (وهم في حسبانه “سورية” منذ أوغاريت الى فتح لبنان وبينهما حطين) بوحدتهم “القومية”، و “مجدهم” الدولي والإقليمي، ومهابتهم المفحمة، وإقامتهم على حالهم نصباً لا يحول ولا يزول.

ومثل الداخل المنفصل هذا، والقائم بنفسه والمتحدر منها، لا يلد حوادث “غير ضرورية”. والحوادث المصطنعة وغير الضرورية هي تلك التي لا تولد من قرارات أو مراسيم أو أفكار همايونية. وهذه على الدوام مدروسة، وموقتة التوقيت الصحيح والدقيق، ومستوفية شرائط الاستقرار والاستقلال والكرامة المفتاحية. وهي ليست، قطعاً، بنت تظاهرات مدسوسة، وأعمال قتل وتخريب مأجورة وصبيانية، وإيعازات اميركية وصهيونية. فهذه تريد الحؤول بين “سوريا” وبين قيادة التغيرات العربية التي أسقطت أنظمة مسايرة وممالقة (على خلاف الممانعة) وكان يقدر لها ان تنصب سوريا (- الأسد) قطباً ومحوراً، على قول فيصل المقداد، أحد أركان الجهاز الأسدي ونائب وزير خارجيته، الى محطة تلفزيون أميركية. وزعم الجهاز السوري المتسلط أنه لا يستجيب “الضغوط” (“لا أحد يضغط علينا”، على قول عبدالحليم خدام حين كان في المعية المتربعة)، ولا يستدرج بـ “الجزرة”، وجه يلازم أسطورته في قيامه بنفسه وإرادته. وهو لا يتهيّب السؤال “المادي” والتاريخي عن ولادة القرارات والمراسيم بعضها من بعض: فإذا كان المرسوم مولوداً من مرسوم سابق، فممن أو ممَّ ولد المرسوم “الأول”؟ وهذا على مثال (سابق): إذا كانت الأفكار وليدة التربية وأفكار المربي، “فمن يربي المربي”؟

وانتصاب الجهاز الأسدي مصدراً و “أباً” أول، وفاعلاً تاريخياً غير مقيد بمجتمع، أو بجماعات (طوائف عشائر ومذاهب) وأقوام (عرب وأكراد وكلدو- اشوريين وسريان، على ملة مؤتمري أنطاليا)، وطبقات ومراتب اجتماعية (تجار من هنا وطبقات وسطى من هناك) لا يماشي فكرة أو مثالاً سارياً ومقبولاً، فحسب، وإنما هو عصارة تجربة تاريخية مديدة وراسخة في تقاليد سياسية واجتماعية وثقافية، عربية وإسلامية، عريقة ومتجددة. فالجهاز الأسدي “انقلابي”، على ما كان “الأستاذ” ميشال عفلق يقول في بعثه. وهو كان يعني ان الحزب السياسي غير التقليدي ينهض على إرادة “جيل عربي جديد” وشباب انقطع من “الانحطاط” (التجزئة القطرية وغلبة الاستعمار والفقر والجهل والمرض)، وصنع “مصيره” أو “قدره”، الوحدة والحرية والاشتراكية، بإرادته. وهو، من وجه آخر أقرب الى الوقائع، انقلابي على معنى تقني، عسكري وأمني بوليسي وميليشياوي، على وصف الروائي الإيطالي كروتسيو مالابارته.

وشرط الانقلاب، على المعنى هذا، وهو شرط حصوله وبالأحرى شرط نجاحه وبلوغه غايته واستيلاء أصحابه على السلطة ثم دوامهم فيها، هذا الشرط هو الخواء والفراغ الاجتماعيان أو المجتمعيان. فينبغي ان يحصل الاستيلاء بينما الناس نيام، ويغطون في سبات عميق، على قول تروتسكي المجازي. فلا يدعو “الناس” وهم مجتمع الروابط الأهلية والأهواء والمثالات السياسية والتاريخية والمصالح الحيوية والحاجات والسير الفردية (وهذه كله “تُترجم” كتل حارات وسكك وجمعيات وروابط وأحزاب وأصناف وحلقات شبيبة ومدارس ومساجد وكنائس ونقابات وقدامى هذا السلك أو ذاك…) لا يدعوهم داعٍ قوي وملحّ الى التصدي للمستولين، وانتزاع انفسهم من دعة الحياة العادية وأمنها الظاهر، وتكلُّف المحاماة عن معيار رابطة سياسية حرة ومشتركة ومضطرِبة تعريفاً. ولا يستقر قرار للاستيلاء على السلطة من وراء أظهر الناس إذا لم يبق الناس سادرين في نومهم وسباتهم، ولم ينازعوا “أهل القوة”، على قول عربي صريح وفظ، سلطتهم وانتصابهم “الدولة”، راعية الشعب والأمة والوطن. فتنوب “الدولة”، وهي في هذا المعرض جهاز القوة المستولية والحاجزة بين الجماعات ومجتمعها وبين إدراة شؤونها المشتركة والمتنازعة، عن رعيتها أو رعاياها، وتوحدهم في إرادتها، وتصهرهم كتلة صماء ومنقادة.

معيارية عنيفة

وعلى هذا، يتولى قطب السلطة المنقلب والمستولي التمثيل على استقلال “الدولة” ووحدتها وقوتها، وعلى مفارقتها المجتمع وجماعاته وطبقاته وأهوائه ومنازعاته. ولكنه يتولى كذلك تحطيم المجتمع وجماعاته، وتقويض أبنيته الموروثة والمحدثة، واستتباع هذه وتلك. والقسمة الفعلية والوظيفية، قسمة الدولة والمجتمع، صبغها الجهاز الأسدي في طوريه، أو مرحلتيه، بصبغة معيارية عنيفة، قولاً وفعلاً. فإذا مثَّل قطبُ الدولة، أو الجهاز الحاكم والمستولي، على الوحدة والقوة المجتمعة والعلو، واقتصر الأمر والإدارة من فوق والملك عليه وحده (شخصاً فرداً وأقارب صلبٍ وأعواناً وموالٍ وصنائع)، مثَّل قطب المجتمع والجماعات على التفرق والتشرذم والاقتتال والضعف والارتهان. وفي مقابل الواحد، المجتمع في نفسه والمولود منها، حَضَر مجتمع متناثر ومتشظٍ، حملته الجماعةُ المذهبية والسلكية (سلك الضباط) والاجتماعية (المتحدرة من الفلاحين وصغار المزارعين الجبليين) المستوليةُ على التحلل مذاهب وطوائف وبلاداً وأقواماً وأهالي وطبقات اجتماعية وأحزاباً متناحرة ومتحاربة. وهي تتعمد، اليوم، رده الى تحلله.

وبالغ الجهاز الأسدي في القسمة، وفي المعيارية، فربط “دولته” أو استيلاءه بقطب مجرد هو السياسة “القومية” والمناهضة للإمبريالية. وجمع الوجهين القومي والمناهض، مرحلياً و “أبدياً”، في مسألة فلسطين، وإدارة “الصراع” و”لعبة” الأمم” (الكبيرة) عليها وعلى مصيرها. ودولته، أو جهاز قوته المستولية والمتسلطة، هي الدولة السورية على الأراضي السورية. وهي من باب آخر وأوْلى الدولة العربية، ودولة الولاية على “القضايا” العربية في أقطارها الوطنية في انتظار الولاية على الأراضي العربية والرعايا العرب. ويقتضي تسويغ قسمة الدولة والمجتمع، وإرساؤها على معيارية قاطعة، كما يقتضي تعليق قطب الدولة على سياسة الوحدة القومية وخوض “الصراع الأممي” (على قول “القوميين السوريين” وراء الحدود وفي الشوير ورأس بيروت والبترون)، رمي المجتمع وجماعاته وانقساماته بأرذل النعوت وأحقرها. ويسوغ هذا، قبل الرمي وبعده وفي أثنائه، سوم الجماعات والانقسامات وسوسها بسياسة البهائم المتوحشة.

وعلى هذا الوجه، ليس لبنان “الطائفي” و”الانعزالي”، والمنقسم على نفسه منذ الأزل (وهو الكيان المحدث والمفتعل) حزبين متقاتلين واحدهما عربي قومي والآخر هجين وغربي الهوى على ما لا ينفك بشار الأسد يردد في خطبه كلها ليس لبنان هذا إلا تجسيد قطب المجتمع وجماعاته في مرآة “الدولة” الأسدية المتعالية والمفارقة المتخيلة. ويحقق لبنان، واللبنانيون بديهة، على هذه الصورة الكريهة والمخيفة والباعثة على قلق ممض وكابوسي يصدِّع الذكورة والرجولة، أضغاثَ “الدولة” العروبية. فهو يمثل على جواز أو إمكان دولة يقوم بإزائها وحيالها مجتمع منقسم ومتنازع، يقر بطوائفه ومذاهبه وشيعه ومناطقه وطبقاته وأحزابه وأهوائه ويشهرها على الملأ. ولا يحول هذا بين الدولة بين الحكم المتواضع والمجزي، ولا بين المجتمع وبين تجديد علاقاته المتقلبة والمتغيرة. ولم يحل بين الاثنين، الدولة والمجتمع، وبين تقييد واحدهما الآخر وموازنته، وإلزامه حدوداً لا يتجاوزها. فلم يسع جماعة أن تتسلط على الدولة، وتلحقها بمصالحها إلحاقاً متعسفاً وضيقاً. ولم يسع الدولة توحيد المجتمع وجماعاته قسراً أو شكلاً في حزب واحد ومستولٍ. فلم تتق الانقسام والترجح بين القطبين المتنازعين. وولدت الحال هذه حياة مضطربة، شأن الحيوات الحقيقية، ومتقلبة. وأوسعت المضمار للاضطراب والتقلب، وللابتكار المتلجلج، على قدر ما رغب اللبنانيون وأطاقوا.

ولا عجب إذا أنكرت “القيادات” الأمنية والعسكرية البيروقراطية والعشائرية “الحال” اللبنانية، على الصورة التي استوت عليها طوال نصف القرن “الكياني”، أشد الإنكار وأشنعه. فهي تطعن في مصالح “القيادات” وعليها، وتبرز خواء “دولها” وتآكلها وراء أقنعة القوة والجبروت. ولكن الإنكار لم يقتصر، ولا يقتصر، على “القيادات” هذه، وهو يتعداها الى المتعلمين والكتّاب والناشطين الثقافيين والاجتماعيين. فيكتب، على سبيل المثل، أحد أصحابنا في تعليل “إخفاق ثورة الأرز” (منذ خريف 2004 وشتاء 2005 الى اليوم) فيعزوه الى “عدم قدرة الائتلاف الطوائفي على تجاوز بنيته الطائفية، وميل الجمهور العريض الى تكريس الزعامات التقليدية، (وإلى) إخفاق ثورة الأرز في تقديم نخبة شبابية تستولي على القيادة السياسية بقدر ما تطيح بالولاءات التقليدية وتغادر طوائفيتها” (نوافذ المستقبل، 5/6/2011، يوسف بزي). وتكرر المقالة وهي يستولد “تعليلها” اللفظي النتائج (الطائفية) من المقدمات (الطائفية والتقليد)، ويفوِّت الوقائع الوسيطة وحلقاتها العقيدة “الفلسطينية التقدمية”، أو “الإسلامية التقدمية”، على ما سمي حلف المنظمات الفلسطينية المسلحة و”الأحزاب والقوى والشخصيات” العروبية المحلية في أثناء العقد الثامن (1971 – 1982) من القرن الماضي. وهذه العقيدة هي ركن سياسات الولايات والوصايات القومية العروبية والإسلامية، ومزاولتها السياسة على شاكلة العمليات الأمنية والبوليسية التي تشهدها اليوم درعا وجسر الشغور وحماه وحمص وبانياس والبيضا والرستن ودير الزور والحسكة والسويداء، الى ضواحٍ وبلدان أخرى كثيرة.

“السياسي”

ولعل حلقة الوقائع البارزة التي يفوِّتها أو يغفلها التعليل المفترض، اليساري الوطني والتقدمي، والنقد “الثقافي” السوري الرسمي والمعارض، هي حلقة الاستيلاء الأهلي والعسكري، الانقلابي و”المشترك”، الذي تولته القوى والمنظمات المسلحة “التحررية” و”القومية الوحدوية”. فالحروب الأهلية في البلدان العربية المتفرقة، المعلنة والمستترة الدابة (“العاسة” على قول أحد أصحابنا)، انفجرت مع الاستيلاء الأمني العسكري البيروقراطي – العشائري، وتنطح قياداته الى القيام مقام الدولة والسياسة، وذلك من طريق شل المجتمع وجماعاته، والإبقاء على أنصاب وظلال منقطعة من الفعل ومتقوقعة على خوائها. وليس من طريق الاشتراك في أبنية مركبة يتولى أصحابُها المنازعة العلنية والتجريبية على تدبير علاقاتهم وتصور غاياتها. فـ “خارجُ” الطوائف استقر معناه الفعلي، والحال هذه، على الاستيلاء “البيروقراطي المركزي” (ماكس فيبير) والعشائري المذهبي والثأري. وسبقت بشائرُ هذا “الخارج” في سوريا والعراق ومصر و”فلسطين” (الشتات الداخلي والعربي)، وبعض دول الخليج وشمال افريقيا، نظيرها اللبناني الذي حملت عليه: فقيل انها “تلبننت”.

والإنكار على لبنان الطائفي، شأن الإنكار على التعصب السني السوري وعلى التشيع العراقي الشعوبي ألخ.. ومعارضته بخارج وطني أو قومي مزعوم، قُصدت بهما (الانكار والمعارضة) من غير شك “الساحة اللبنانية”، ومعتركها وروافد المعترك العروبية والإسلامية. ولكن “الساحة” نُصبت آيةً على مصير المجتمعات (وجماعاتها) العربية الأخرى، وعبرة لها، إذا هي لم تسلس أمرَها الى “القيادات” البيروقراطية العشائرية المستولية على السلطان والموارد. وساند “العرب” هذا التزوير الى وقت قريب. وعلى مثال مسرحي وجدلي بارع، لا يشوبه غير الإفراط في الافتعال البوليسي، حُملت الحروبُ الملبننة، وفاتحتُها الفلسطينية والعربية الصريحة والفاضحة، على حادثة داخلية محض حبل به تاريخ الجماعات اللبنانية منذ دبيبه الأول وحبوه. وحُملت مدافعة (بعض) الداخل، وجبهه الحلف المسلح والمشترك، على “التصهين” و”التأمرك” قبل ان يجتمعا في “صهيو أمركة” تفجر الضحك الأصفر.

ولا ريب ان هذا السياق لا يعذر، لا من قريب ولا من بعيد، مقتلة محمد عقلة “الإخواني” في تلامذة أكاديمية حلب العسكرية (1977). ولكن المقتلة المشينة، شأن تهجير الكرنتينا و”احتلال” “القوات اللبنانية” الشوف، لا تسوغ حمل روابط الجماعات الأهلية الدينية، وعصبياتها او ملاجئها الدفاعية، على الشر المستطير والوجودي. فهي ليست هذا إلا في مرآة الأجهزة المستولية، الصدامية والقذافية والأسدية والجبريلية والعرفاتية والحزب اللهية… والدعوة الى نصب التماثيل في بيروت وأسواقها، رداً على الكنائس والمساجد ونقضاً عليها على ما اقترح داعية سوري مترجح يصفه بعض الاوروبيين بـ”الكوسموبوليتية” -، وعلى منوالها الحملة الأخيرة الكاريكاتورية في سبيل إسقاط النظام الطائفي (اللبناني حصراً)، شاهدان على خواء المخيلة السياسية و”الشاعرية” التي تحدو الى اليوم، الخروجَ من الطوائف. فمقصد الخروج هو الى القيادة البيروقراطية والعشائرية، من طريق “فلسطين” وديربان (1 و2 وقريباً 3) و “النبوة المستمرة” و “الروحانية السياسية” و”المقاومة”… وأما “الشباب” فكان صدام حسين علماً عليه: فهو كان في الواحدة والثلاثين في 1968 الميمونة، وكان “رفيقه” حافظ الأسد في الأربعين حين تصدر “التصحيح”، وهو صحبه صحبة رعاية وتربص منذ 1963 (وكان في الثالثة والثلاثين) وغيرهما مثلهما. ودعوى الاقتراع في الثامنة عشرة صاحبها هو بعض أعتى الخيول الهرمة والمتصابية.

ولا يقطع هذا دابر “نقد” الطائفية. ولا يُسكت، بالأحرى، النازع الوطني المدني والديموقراطي الدستوري. فالنقض على الدولة، وعلى انتصابها تمثيلاً رمزياً وليس مادياً على وحدة الجماعة الوطنية، هذا النقض لا يسوغ الحط بالمجتمع وجماعاته التاريخية الى مستوى الغريزة والبهيمة. وهاتان “علاجهما” القتل والاغتيال والاعتقال والقيادة المستولية والسيادة الفصامية. فالسياسة، أو ما يسميه بعضهم “السياسي” ويقصدون به تصريف القوة وأبنية الإنشاء والموازنة الركنية، تصورت الى اليوم في مجتمعاتنا العربية في صورة القيادات المستولية والقاهرة. وأناطت هذه القيادات وحدة المجتمعات الوطنية باستيلائها وقهرها. وحظيت ببعض القبول والتسليم لقاء السمت “القومي” الجامع الذي رسمته على وجهها. ولكن تحطيمها المجتمع وجماعاته لم يرم الى إرساء التوحيد السياسي على قاعدة اجتماعية عريضة ومتصلة. ورمى، حقيقة، الى إنكار السياسة، وإنكار الرابطة، أو الآصرة السياسية الفاعلة والمؤثرة، على المجتمع وجماعاته الأهلية. فعلى زعم القيادات البيروقراطية العشائرية، لا ينتج المجتمع إلا طوائف متناحرة. والبرهان “لبنان”. واليوم، البرهان هو “الجماعات الإرهابية المسلحة” و “اغتيالات” رجال الأمن في المدن والبلدات السورية. والحركات الوطنية المدنية والديموقراطية الدستورية، العربية، حركات سياسية في المرتبة الأولى. وعلى عاتقها التمثيلُ، للمرة الأولى ربما، على إنشاءٍ سياسي ليس شرطه إرساء السيادة او الولاية على أنقاض الجماعات وخوائها، ولا حل الجماعات في “جسمه” وفي إسمه، ولا إسكات المنازعات تحت كتلة ساحقة من الاجهزة والعصبيات.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى