صفحات العالم

طائفيات عربية

 


سليمان تقي الدين

لا يمكن تجاهل الظاهرات الطائفية الصادمة للعقل العربي والمتفجرة كإحدى المشكلات في وجه حركة التغيير. التوتر في علاقة بعض الجماعات الإسلامية والقبطية قد لا يكون من النوع الذي يهدد كيان الدولة لكنه بالضرورة يطعن في شرعية أي نظام ينشأ ولا يعالج مشاركة الأقباط في الحياة الوطنية كفريق أصيل يشعر بالحرية والأمن والأمان. مصر بالذات لم تكن الأقلية القبطية الوازنة فيها مصدر تأثير سلبي على وحدتها الوطنية برغم عدم نيلها حقوق المواطنة الكاملة لا في التمثيل السياسي ولا في الإدارة. إلا أن الأقباط انخرطوا سابقاً في الأحزاب الوطنية العابرة للتنوع الديني قبل أن تتصاعد الموجة السلفية. يعاني المجتمع المصري اليوم، الأقباط والمسلمون، من ملامح هيمنة الثقافة الإسلامية المحافظة ومن «السلفية» الصدامية التي تستسهل التعدي على الأقباط لإثبات هويتها والبحث عن تأييد شعبي.

«المسألة القبطية» تحتاج إلى عقد وطني يكرّسه دستور وترعاه قوانين واضحة وسلطة قوية ضامنة للحقوق والحريات. على قدر ما نعرف من توجهات الحكومة الانتقالية والأحزاب ولا سيما «الإخوان المسلمون»، يمكن أن نتوقع مساراً يفضي إلى استيعاب هذا العصاب الثقافي والسياسي ومكافحة ظاهرات التطرف الديني وممارسته النافية للآخر. لكن يجب أن تبقى «المسألة القبطية» كجزء من مسألة التأخر الثقافي والسياسي وعطالة الديموقراطية وتعالج في هذا الإطار. إنها مسألة سياسية من تفرّعات أزمة المواطنة وتتقدم معالجتها بمقدار ما تتعزز الديموقراطية وثقافة الحوار والتسامح الفكري. إلا أن «مسألة الأقليات» تتعاظم إذا تحولت إلى مسألة عربية شاملة. حين يدخل العالم العربي في فوضى سياسية عارمة على أساس فرز مكوّناته الأولية ما قبل مفهوم الشعب ومفهوم الدولة لا تعود القضية قضية «أقليات» بل مسألة الاجتماع السياسي العربي كله وفي دائرتها ما يمكن أن يقدمه «الإسلام السياسي» من أجوبة وحلول.

أطلت المسألة الطائفية بعد لبنان من العراق ثم اليمن وسوريا ومصر وكذلك مسألة الأقليات من كرد وأمازيغ، وقبائل في السودان وفي المغرب العربي. قدّم الغرب جواباً تبسيطياً نقيضاً للجواب القومي التبسيطي السابق، وهو جواب «الانفصال» و«ديموقراطية المكوّنات» والتعددية ضد سياسة التجاهل والإلغاء والدمج القسري.

فشلت سياسات الاندماج الاجتماعي عربياً في غياب التقدم والتنمية والحرية. انعكست أزمة الدولة القطرية كمشروع وطني وتنموي على تطور العيش المشترك بين الثقافات الفرعية والهويات الجزئية. لم تكن الطائفية هي التي كوّنت السلطة في العراق وسوريا. تحوّلت الطائفية إلى عصبية السلطة كلما تقدمت في احتكار القرار والبحث عن ولاء من خارج الإرادة الشعبية الواسعة. تحولت الطائفية إلى وسيلة من وسائل تدعيم السلطة من غير أن تكون هدفاً لها. المعارضة كذلك لم تكن طائفية إلا حين صارت تبحث عن شرعية تقليدية افتقدت إليها في لحظة من تاريخ الاستبداد السياسي الذي هتك كل احتمالات تشكيل معارضات وطنية.

ليس مغالياً الحديث عن الاستخدام السياسي للطائفية أي لثقافة الجماعة لحصانة شرعية لا تتوافر في أي شكل للتعبير عن الاحتجاج على مظلومية وضد امتيازات لا تتكوّن عادة خارج السلطة. تحوّلت السلطة في زمن معيّن إلى «سلاح الفقراء» الوافدين من أرياف مهمّشة. ثم تحوّلت السلطة من تحرّر أو انتفاض على التهميش إلى تهميش للآخرين. لم تكن السلطة في أي مكان نعمة شاملة ولو أنها ساهمت في ارتقاء بعض النخب والمجموعات من لبنان إلى العراق وسوريا وحيازتها لامتيازات لها وليس لجمهورها الطائفي. لبنان الذي يقدّم النموذج الأكثر تنظيماً للمؤسسات الطائفية لا يستطيع أن يجعل الطوائف مراتب اجتماعية بل هو يعطي الجماعات القائدة سياسياً واقتصادياً امتيازات.

كان ذلك في عهد «المارونية السياسية» يفسّر النزاع الطائفي ويعطيه بعض الملامح الدينية. بعد «الطائف» تبدّدت مبرّرات النزاع الديني وظهرت صراعات «مذهبية» أكثر وضوحاً بوصفها صراعاً سلطوياً. هذا هو شأن الظاهرة الطائفية المشترك بين لبنان والعراق وسوريا.

السلفية التكفيرية والأصولية المتشددة انشقاقات في الإسلام السياسي الذي هيمن على المسرح بعد تراجع دور الأحزاب العلمانية أو المدنية. في الواقع طائفية اليوم على المستوى العربي هي أزمة الإسلام السياسي مع نفسه وليس مع الآخر. هذه طلائع المشكلة التي يدّعي الإسلام السياسي أنه يقدّم حلاً لها بتغيير الأنظمة القائمة.

في حصيلة أساسية نشهد نزاعات يغلب عليها طابع الهوية الإيديولوجية وليس صراعاً سياسياً يعكس مضامين اجتماعية مختلفة. «الإسلام هو الحل» الذي تطرحه هذه الحركات لا يحل شيئاً من أزمات الشعوب. الدولة المدنية والدولة الديموقراطية تشكّل جواباً مفتاحياً أو مدخلاً على المستوى السياسي والثقافي لكن الاندماج الوطني يحتاج إلى سياسات تنموية وهذه بدورها تحتاج إلى تعاون إقليمي.

في كل تجارب المنطقة لم يتجه التعاون الإقليمي إلى ردم الهوة الاجتماعية بين الشعوب وبين فئاتها وقطاعاتها بل إلى تحالفات في الأمن والسياسة الخارجية. يقال اليوم إن التعاون السوري التركي أضر بالاقتصاد السوري. ولا نفهم دعوة المجلس الخليجي لضم الأردن والمغرب إلا في إطار إنشاء معسكر سياسي أمني يعيد شق العالم العربي تجاه قضايا «سياسوية» تتلبّس هوية مذهبية كجزء من سلاح المواجهة مع إيران وحلفائها.

ما يكشف عنه الواقع العربي بعد انهيار الجدران الأمنية العازلة وحراك الشعوب هو هذا المشترك بينها والحاجة إلى «الثورة» بمعنى تغيير قواعد الصراع السياسي لبلورة خيارات اجتماعية مختلفة.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى