حمّود حمّودصفحات الرأي

طائفية المشرق/ حمّود حمّود *

لا تقف الطائفية بمثابة الوريد الذي يغذي المشرق، العربي منه والإيراني، فحسب، بل كذلك بمثابة العقل له – العقل الذي يتحكم بثقافته. فالطائفية، بالفعل، هي «عقل المشرق». فالرابط الذي يربطه بالطائفية متينٌ متانةً يصعب حلّها، لدرجة استحالة النظر إلى المشرق من غير النظر، أولاً وقبل كل شيء، إلى الطائفية التي تُغلف عمقه: الطائفية لا كسمة عارضة تنتجها، ميكانيكياً، المصالح السياسية والأزمات الجيوبوليتيكية، التي أثبت المشرق أنه لا يستطيع العيش من دونها، ولا كثقافة ينتجها «الأميركيون» والمستبدون العرب… الخ (وفق الألسنة الاعتذارية)، بل الطائفية كإطار مرجعي فكري لشعوب المشرق، كـ «عقل بنيوي» هو المسؤول عن إنتاج الثقافة الطائفية (ومن الاستسهال اللانقدي القول إنّ هذه نظرة استشراقية لا تستطيع النظر الى المشرق سوى من الزاوية الطائفية أو من زاوية فسيفساء الطوائف).

نحاول هنا سريعاً إلقاء الضوء على أحد أهمّ المرتكزات العميقة لهذا الإطار المرجعي العقلي للطائفية: «ثقافة الكثرة».

لكن ما المقصود، بدايةً، بهذه الثقافة؟

تنتمي ثقافة الكثرة إلى الهوية «الجمعية» التي تعادي بجوهرها الهويات «التعددية». ولأن إشكال السيادة يلعب دوراً مهماً في التكوين الأنثروبولوجي فيها (السيادة في السيطرة على المجال العام، مثلاً)، فإن ثقافة الكثرة لا تنظر إلى ثقافة الأقليات إلا بكونها أجزاء أصيلة لا تتجزأ من ثقافتها؛ بيد أنها أجزاء «خرجت» عليها. لهذا، لطالما يُنظر إليها نظرة الخوارج، نظرة التشكك. الرقم «واحد» عزيزٌ على ثقافة الكثرة، كما هو عزيز على قلب القومي والأصولي. فليس التغني بـ «الشعب الواحد» سوى مظهر من مظاهر العشق الشيزوفريني لهذه السيادة، حتى وإن صدرت «أغاني الوحدة» من خارج إطار الكثرة.

هنا لا بد من تسجيل أنّ «ثقافة الكثرة» لا تشير الى من ينظر لنفسه بكونه ينتمي إلى «الأكثر» عدداً فحسب، بل كذلك الى من ينظر لنفسه بكونه ينتمي إلى «الأقل» عدداً، بحيث لا يستطيع إدراك وجوده الأقلوي سوى من خلال عيون الأكثرية. الإشكال الأساس لا يتعلق بمن ينتمي إلى الغالبية أو الأقلية، بل بما يفرضه الاستحقاق الثقافي والسياسي للسير وراء ثقافة الكثرة، أي الجموع. وهو إشكال يرتبط بالمجتمعات اللاحداثية، كما هو حال المشرق العربي والإيراني.

إنّ الأمر في هذا الشأن أبعد من مجرد تزلف الأقل عدداً لمصلحة الأكثر عدداً (هل كان هذا حال إسلام «عفلق البعث»؟ وهل هذا ما نلاحظه اليوم داخل أروقة المعارضة السورية المتهالكة، حيث الأصوات الأقلية فيها تدافع عن الأصولية المسلحة أكثر من الأصوليين أنفسهم؟)، بل يرتبط أساساً بأنّ الطرفين، الأقل والأكثر، لا ينظران إلى ذواتهما كمفردات مستقلة لها وجودها الليبرالي «الفرداني»، بل ينظران إلى ذواتهما كـ «نص جمعي»، كلوحة مطلية بالسواد، لا يُعرف أولها من آخرها، طالما أنّ الكلّ يجب أن يشابه الكلّ. وما الحرب المديدة في المشرق ضد الأقليات، من جهة، وما تمييع أو محاولة بعض الأصوات الأقلية إذابة وجودهم وفق استحقاق ما تفرضه ثقافة الكثرة، من جهة أخرى، إلا مثال ساطع على عمق التأزم الطائفي داخل ثقافة المشرق.

غالباً ما تنظر «ثقافة الكثرة» الى نفسها بكونها محصنة بـ «الكمّ» الأكثر عدداً، والذي لا يستطيع النظر إلى «الأقلّ» سوى من منظور الهيمنة، إنْ ثقافياً أو طائفياً أو سياسياً. هذا ما يفسرّ ارتباط هذه الثقافة بعشق الوحدة، بعشق «الجموع والإجماع»، وبالتالي إنتاج الهيجان. إنها نفسها ثقافة «المليون شهيد»، المغرمة بالبيولوجيا وفكر السلالات العرقيّ والدّم. هي نفسها ثقافة «الذات المنتفخة»، انتفاخاً يمكن أن تنفجر على «سرّتها» («السرّة» التي غالباً ما تنتهي عندها مسيرة البحث عن الذات).

لا يحتمل أتباع ثقافة الكثرة رؤية أُمّتهم المخيالية مطعّمةً بفسيفساء ثقافية متعددة ولها كلمة الفصل في سيادة نفسها. هناك رابط مركزي، لكن خفيّ، بين هذه الثقافة وثقافة القومي والأصولي: فكما أنّ هذين المخلوقين لم ولن يستطيعا رؤية أمتهما مقطعة بقواطع، فكذلك الأمر لا تستطيع هذه الثقافة رؤية المجتمع مقطعاً بأقليات. من هنا يمكن قراءة احتجاب ثقافة الكثرة عن وعي الحداثة المؤسس. وهذا ما يفسر الاحتجاب العربي في «كثرته» عن استيعاب واقعة الدولة التي غزت العالم من غير استئذان من أهاليه، فأنهت عصراً متمأسساً على ثقافة الامتداد الشاسع والامبراطورية.

أليست هذه الثقافة امتداداً لـ «ونحن أناس لا توسط بيننا/ لنا الصدر دون العالمين أو القبر»، كما أفادت سردية «المعالي» النرجسية للحمداني؟ لأنّ ثقافة الكثرة لا تحتكم الى حاضرها التاريخي، بل الى ثقافة الجموع المتوارثة. فهي متمركزة ضداً على أن ترى أرضها «المخيالية» مفصّلة بدول «واقعية»، دول تكون مرجعيتها خارج ما تفرضه ثقافة الجموع. إنها ركيزة لا يمكن فصلها، بحال، عن هيام رؤية نفسها أبداً بكونها «الكثرة» المتفوقة عدداً، في مقابل أقليات لا طائل لها إلا الخضوع والجزية، سواء بمعناها المادي أو المعنوي، كما تطلبه اليوم الثقافة الجمعية. ذلك أنّ «داء» هذه الثقافة لفظة تدعى «التعدد» أو الأقليات. من هنا مطالبتها الدائمة بـ «دواء» الصهر: صهر «الأقل» في بوتقة «الأكثر». إنه حال يذكّر بمطالبة بعض القوميين العرب بـ «نثر» اليهود على مجموع العرب، بغية إذابتهم!

إلى ماذا يشير هذا؟ الفكر الأكثري أو الفكر القومي، كما الأصولي، هو «فكر مشاعي»، يقترب في كثير من مناحيه من ثقافة الصحراء المغرمة بالامتداد والاتساع: فكما أنهما يعتبران فكرة الدولة «لوثة قطرية» تُقطّر أو تحدّ من مشاعية الأمة، فكذلك الأمر في النظر الى التاريخ: «فالتاريخ، كلّ التاريخ، لنا»؛ حيث يتحول كل ما يحمله التاريخ من رموز إلى أيقونات للأصولي والقومي يُعاد خلقها، لا وفقاً لاستحقاقها الزمكاني، بل وفقاً لما يطلبه هذا الفكر خدمة لأغراضه الحاضرة. والأمثلة العربية والفارسية على هذا، أصولية كانت أو قومية، أكثر من أنْ تحصى.

هذا ما أسس لسيادة ثقافة الكثرة الجمعية ذات اللون الواحد، فغدت بمثابة الإطار «المرجعي»، الأمر الذي اكتسى إطاراً طائفياً خفياً؛ وهو الأمر الذي يفسر، كذلك، التمردات ضد هذا الإطار. من هنا اتسام الصراعات في المشرق بأنها صراعات ثقافية مجبولة بحس الخرافة النافي للحاضر. ولطالما أثبتت هذه الصراعات، والحال هذا، أنها ليست صراعات على الأرض فحسب، بل صراعات على السماء كذلك.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى