صفحات سوريةغازي دحمان

طائف جغرافي لكربلاء السورية؟


غازي دحمان *

يلوح في أفق الأزمة السورية فكرة عقد اتفاق، يشبه اتفاق الطائف اللبناني، بطريقة أو أخرى، باعتباره أفضل الحلول الممكنة لأزمة استعصت عن الاختراق ولا أمل لها بحلول شبيهة بتلك التي وصلت إليها ثورات الربيع العربي، سواء التي حصلت في مصر( إسقاط الأنظمة)، أو في ليبيا من خلال التدخل الدولي، أو في اليمن من خلال حل توافقي.

ومن الواضح أن هذا النمط من الحلول يناسب الواقع الدولي الراهن نتيجة عدم وجود الاستعداد لدى الكثير من الدول في الانخراط بالأزمة السورية، ورغبتها في أن تنتج هذه الأزمة حلولها الذاتية، وربما انطلاقاً من ذلك جرى اختيار الأخضر الإبراهيمي المشهور بقدرته على إنجاز هذه الحلول، من خلال تجاربه اللبنانية والعراقية الشهيرة.

نهج الأخضر الإبراهيمي وأسلوبه الديبلوماسي في التعاطي مع الحالة يؤشران إلى توجهه صوب بناء هذا الحل، فمن الواضح أن كل تحركاته وتصريحاته، تهدف إلى تشكيل سياق عام متكامل يتضمن حلاً على مقاس، ومن نفس طبيعة، الطائف اللبناني، وما يفعله الإبراهيمي الآن هو توفير شروط البيئة التي أنتجت ذلك الاتفاق، سواء من خلال تطورات الأزمة ذاتها، أو عبر تخليق وصناعة باقي الشروط من خلال التفاهمات والصفقات الدولية وبخاصة لدى الدول المؤثرة في الملف السوري.

وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة ظاهرة مهمة في مبادرة الإبراهيمي، وهي تعمد بطء الخطوات، والواضح أن هذا التعمد مقصود ومدروس بعناية وهو تكتيك تفاوضي يعمد إليه الوسيط في انتظار إنضاج معطيات معينة تساعد على دعم مهمته، والمقصود هنا انتظار التطورات الميدانية وما ستنتجه من وقائع ومعطيات، من شأنها التأثير في مواقف الأطراف المتصارعة على الأرض.

ولوحظ بعد اجتماع مجلس الأمن المخصص للاستماع لمطالعة الإبراهيمي حول الوضع السوري، تعمده توسيع مجالات الأزمة ليصار إلى توسيع الهامش الزمني، عبر تركيزه على الأبعاد الإنسانية، من الحاجة للغذاء إلى قضايا النزوح وسواها، صحيح أن هذه المسائل على أهميتها تحتاج إلى معالجات سريعة وملحة، لكنها في الواقع تهدف أيضاً إلى إزاحة التركيز عن الهدف الأهم وهو إيجاد حل فوري وحاسم على ما ترغب بعض الأطراف الداخلية والخارجية.

كذلك لا تخفى عين المراقب إصرار الإبراهيمي على تحذير( تخويف ) العالم من تبعات استمرار الأزمة في سورية وخطرها على الأمنين الإقليمي والدولي، في محاولة واضحة لخلق حالة معينة من التوافق تساعد على إنجاز الحل في سورية.

ولعل هذين الشرطين، القبول الداخلي بالتفاوض، والتوافق الدولي، هما ما توفرا في الحالة اللبنانية عشية انعقاد مؤتمر الطائف اللبناني والذي تولى الإبراهيمي مهمة إنجازه، وكأن الرجل هنا يعيد إنتاج ظروف هذا الاتفاق في سياق الأزمة السورية كي يتسنى له إنجاز الحل.

ولكن هل فعلاً بمقدور الإبراهيمي الوصول إلى مبتغاه في الحالة السورية، وهل يستطيع توليف معطيات الحل وتجهيز بيئته وتطويع كل العقبات التي تقف دونه؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، يتوجب التنبه إلى أن دائرة تحرك الإبراهيمي وخطابه، يوحيان بنمط تكتيكي مبني على تقسيم الأزمة إلى ثلاث دوائر ( داخلية، إقليمية، وخارجية)، بحيث تعمل هذه الدوائر بشكل منسجم ومتناغم على تغذية مهمته بالدعم المطلوب والكافي لإنجاز النجاح، أما في حال وجود عقبة في سياق عمل دائرة من الدوائر، فيتم اللجوء إلى خيارات بديلة من خلال الضغط على هذه الدائرة وعزل تأثيراتها ما أمكن.

من هنا فإن خيارات التحرك المتاحة أمام المهمة تبدو بحسابات الإبراهيمي أكثر مرونة وأوسع مروحة، وهذا ما يفسر انخراط الإبراهيمي ضمن الدوائر الثلاث، عبر تواصله مع النظام والمعارضة السورية (بكل أطيافها)، ومباركته للمبادرة المصرية ( كتجمع إقليمي)، واتصالاته مع القوى الدولية الخمس، ووفق ذلك فإن تعذر التوافق داخلياً، وبعد اكتمال شروطه، فإن التسويات المأمولة ضمن الدائرتين الأخريين، أو واحدة منهما قد تساعد على إنجاز الحل، والعكس يصبح صحيحاً، أي أن توافق الأطراف الداخلية من شأنه أن ينزع تأثيرات الدائرتين الأخريين أيضاً.

لكن في الواقع السوري ثمة أشياء تختلف تماماً عن الحالة اللبنانية، وهي مسائل معلنة وصريحة، ففي حين تم بناء عقد الطائف على أساس تقاسم الحصص في الحكم، فإن الحصص في الحالة السورية غير واردة، لا من قبل الأطراف الداخلية، ولاهي من ضمن طموحات الأطراف الإقليمية والدولية، فهل يقبل النظام ومؤيدوه بالحصول من الغلة على مناصب محددة، في الوقت الذي اعتاد هو على صناعة المناصب وتوزيعها، وهل تضمن المحاصصة المناصبية استمرار التأثير الإيراني في سورية وضمان طرق إمداد «حزب الله» بالسلاح، بل هل تساعد على بقاء القاعدة الروسية في طرطوس؟.

المحاصصة المطلوبة والمقبولة في سورية، هي المحاصصة الجغرافية، بمعنى أن تبقى سورية كلها بيد النظام أو لا تبقى( الأسد أو ندمر البلد)، أن تبقى سورية كلها مجالاً للتأثير الإيراني أو تأخذ حصتها ( كريدور أرضي إلى لبنان ومجال نفوذ)، أن تبقى طرطوس قاعدة بحرية لروسيا على البحر المتوسط وسورية مجالاً صاداً ومانعاً لاكتمال القوس الإسلامي الذي جاء به الربيع العربي، وإلا فلتكن حرب حضارات.

هذه العقدة الأساسية التي تواجه إمكانية حل على طريقة الطائف، وبالتالي على الإبراهيمي أن لا يبذل جهوداً كبيرة في عملية بناء هذا النموذج، وأن يبحث بطريقة خلاقة عن حل وسط للكربلائية السورية النازفة.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى