صفحات المستقبل

طرطوس-دمشق…زمن السلطة والثورة

 

محمد العمري

 ينعطف الطريق نحو الجنوب ذاهباً إلى دمشق، يترك المسافر خلفه جبال طرطوس وحواضرها ويتجه صوب القلمون. ثمة عبور كبير يتم هنا، ذلك أنها ليست بضعة كيلومترات تلك التي يعبرها المسافر مما قبل تحويلة حمص إلى ما بعدها في زمن الثورة، إنه فعل عبور مكتمل الأركان، ليس عبورا لحدود بين دولتين بكل تأكيد، لأنه ينقصه الأختام الرسمية وينقصه ذلك العبور النفسي الذي يخلفه فرق العمران والأنظمة واللغة، ولكنه ليس مجرد انتقال جغرافي في بلد واحد أيضاً، إنه عبور بكل ما تحمله كلمة عبور من محمول رمزي في الثقافة المشرقية، تحويلة حمص اليوم لم تعد مجرد تحويلة طرقية.

يستقبل حي القابون الدمشقي المسافر من طرطوس إلى دمشق معلناً زمناً جديداً، إنه زمن الثورة، في دمشق لم يعد ثمة مجال لتجاهل الزمن الجديد، أنت لست في سوريا الأسد دون شك، ولا تغير من هذه الحقيقة صور الرئيس الموجودة في شوارع العاصمة ولا حواجز الجيش والأمن وقوات حفظ النظام، ولا هيمنة السلطة على قلب دمشق واتجاه الموظفين الذي يبدو اعتيادياً إلى دوائرهم الرسمية، تلك مجرد مظاهر خادعة فلا أحد هنا يعيش في زمن النظام السوري.

 هنا لا تكرار لخطاب السلطة في وسائل النقل العامة، ولا يخاف أحد المشاة من أن يرفع صوته شاتما السلطة ورأسها في حديث عابر مع صديق، هنا يبدو انهيار الهيمنة رغم بقاء سطوة القوة، هنا السلاح المصوب وعناصر الأمن المتحفزون للقتال لا يفعلون فعلهم في بسط هيمنة السلطة، ذلك أن الزمن الدمشقي طوى هيمنتها وخطابها إلى غير رجعة.

 في دمشق لا مجال لأي تنقل آمن بين الأحياء  بعد الغروب، في دمشق أصوات القذائف والرصاص والانفجارات لم تترك مكاناً للحياد، أعني الحياد النفسي لا السياسي، هنا أيضاً لا يتنقل عناصر الأمن والجيش كيفما أرادوا، لا أحد يتنقل كما يشاء هنا، يزدهر الخوف في دمشق وتزدهر الحرية والانعتاق أيضاً، الانعتاق من هموم الأيام القادمة والتفكير في المآل الفردي، هنا يترصد الموت الجميع، ويفقد التخطيط للمستقبل قيمته.

 إنه الزمن الدمشقي الجديد الذي يخفض فيه الموالون أصواتهم أثناء شتم الثورة وثوارها، في بعض الأحياء الدمشقية لا يجرؤ الموالون على رفع صوت مذياع يصدح بالحديث عن المؤامرة، تماما كما لا يجرؤ معارضون على رفع صوت مذياع آخر يتحدث عن الثورة في طرطوس.

 طرطوس التي يتركها المسافر خلفه عابراً الطريق إلى دمشق ما زالت هناك تعيش زمن السلطة، هناك لا تزال سوريا الأسد حية ترزق، صور الرئيس هنا ليست مجرد استعراض للقوة، إنها تعبير عن الهيمنة، إنها جزء أصيل من المدينة، لا مجال للقول هنا باحتلال النظام للمدينة وفرض إرادته عليها، ادعاء كهذا قد يكون مريحاً لعشاق السلم الأهلي والوحدة الوطنية، أو لعشاق وهم الثورة الشاملة التي لا يتخلف عنها أحد.

 يتجول عناصر الأمن والجيش في طرطوس على هواهم ويمارسون السلطة الممنوحة لهم كما لو كانوا يشربون قهوة الصباح، ويخفض المعارضون أصواتهم في المقاهي والطرقات، ويخفضون صوت التلفاز ليتابعوا تظاهرات أحياء دمشق، أحياء الزمن الآخر، ولا يغير من هذه الحقيقة وجود آثار للعبارات الثورية على بعض الجدران او منشور قد تعثر عليه في الطريق حاملاً شعارات الثورة، يعيش المعارضون والثوار في طرطوس اغتراباً، وكثيراً ما يبدو فعلٌ ثوريٌ من قبيل التظاهر انتهاكاً للزمان والمكان في طرطوس، كما تبدو مدرعة الجيش النظامي انتهاكاً للزمان والمكان في حي السيدة عائشة الدمشقي.

عبثاً يحاول أفراد موالون نقل زمن الأسد إلى دمشق حتى ولو حملوا بنادقهم واستعرضوا قوتهم في قلبها، وعبثاً يحاول معارضون وثوار نقل زمن الثورة إلى طرطوس حتى ولو سرقوا لحظة في شارع مظلم وهتفوا مطالبين بإسقاط النظام، هكذا يبدو الفصام في أعلى صوره عندما ينتقل سوري ما أياً كان الزمن الأثير إلى قلبه بين دمشق وطرطوس، هنا يكون عليه أن يعبر حمص وتحويلتها من زمن إلى آخر ذهاباً وأياباً، عليه أن يعيد ضبط ساعة روحه والأهم أن عليه أن يعيد ضبط لسانه.

  تتشح نساء دمشق بالسواد حداداً على أبنائهن وكذلك تفعل نساء طرطوس، وحده الموت يصنع القاسم المشترك بين الزمنين، أما الحياة فهي تتقدم إلى الأمام في دمشق عابرة الموت إلى الزمن الجديد، وتراوح مكانها في طرطوس باحثة عن معبرٍ إلى  زمن جديد، ولكم يحلم معارضو طرطوس في أن تكون التحويلة نفسها معبرهم إلى الزمن الدمشقي، ولكن هذا يبدو بعيد المنال اليوم ويزداد بعداً كلما ازداد عدد جثامين أبناء طرطوس التي تعبر الطريق النازل إليها من حمص.

 تتجه عبر تحويلة حمص إلى دمشق تاركاً طرطوس خلفك، تتجه عابراً للزمن وليس للجغرافيا. هكذا فقط عندما تكون حساساً للزمن ستنجز هذا العبور الذي لا تشكل الجغرافيا فيه أكثر من تفصيل قليل الأهمية، ذلك أن المسافة بين طرطوس ودمشق لم تعد تقاس بالكيلومترات بل تقاس بالمسافة بين هيمنة السلطة المطلقة، وبين انفراط عقدها مفسحة المجال لصراع اجتماعي سياسي معقد.

ولكم يحلو لكثير من (مثقفي) طرطوس وصف هذا الصراع بالفوضى المدمرة، لكنهم مخطئون دون ريب، ذلك أن ما يسمونه فوضى ليس إلا عملية ترتيب دامية لعناصر زمن دمشقي جديد لا مكان فيه لخطاب واحد يهيمن على زمن دمشق ومكانها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى