صبحي حديديصفحات سورية

طريق الساحل السوري

 


صبحي حديدي

انضمت اللاذقية إلى حوران في تعميد الإنتفاضة السورية بدم الشهداء، ولاح على الفور أنّ الفاجعة هنا تتجاوز خسران الدم الزكيّ الغالي، إلى اتضاح ما يُحاك لهذه المحافظة من شدائد، إذ قرّرت السلطة الإنتقال إلى خطّ دفاع جديد يلوّح، بعد الإنهيار السريع لسيناريو ‘المندسّين’، بـ’مخطط فتنة طائفية’، بدأت أبواق النظام تُنذر به فور شيوع الأنباء عن سقوط شهداء في المدينة. المجتمع السوري، اللاذقيّ، في شرائحه المتديّنة خاصة، قدّم ردّاً سريعاً، قاطعاً وبليغاً: مسجد بساتين الريحان، الذي يستقبل المصلّين السنّة غالباً، أمّ الصلاة فيه إمام من الطائفة العلوية؛ ومسجد الحسن العسكري، وأغلبية مصلّيه من أبناء الطائفة العلوية، استقبل إمام المسجد السنّي ليؤمّ الصلاة.

وفي وقائع التاريخ المعاصر، وعلى امتداد العقود الأربعة من نظام ‘الحركة التصحيحية’، بين الأسد الأب والأسد الوريث، ثمة حقيقة ذات مغزى وطني كبير، ظلّت تترسخ سنة بعد أخرى، وتتأكد أكثر فأكثر كلما نفّذت السلطة حملة اعتقالات جديدة: أنّ المعارضين من بنات وأبناء الطائفة العلوية لم يكونوا في صدارة معتقلي، وشهداء، مختلف التيارات اليسارية والقومية التي طوّرت الحراك الديمقراطي السوري، فحسب؛ بل كانت السلطة توفّر لهم عقاباً إضافياً، أو مضاعفاً أحياناً، جرّاء خيار سياسي تعتبره ‘خيانة’… عظمى، أحياناً! وأمّا تاريخ سورية الحديث، خلال سنوات الإنتداب الفرنسي تحديداً، فقد سجّل صفحات وطنية لجبال الساحل السوري، تحت قيادة المناضل الوطني الكبير الشيخ صالح العلي؛ وأسقط، في المهد، مؤامرة سلطات الإنتداب في إنشاء دولة للعلويين، سنة 1920، إسوة بدول دمشق وحلب والدروز، قبيل التمهيد لسلخ لواء الإسكندرون، وتلك إجراءات استهدفت تفتيت الوحدة الوطنية السورية مرّة وإلى الأبد، كما توهّم الفرنسيون.

وهكذا، في تحية جبال الساحل السوري ومدنه وبلداته وضِيَعه، الفاتنة المنفتحة الكريمة، أجدني أفتقد صديقاً عزيزاً، وأخاً كبيراً، وأستاذاً لامعاً من أبناء محافظة اللاذقية، هو الروائي الكبير هاني الراهب (1939ـ 2000)، كان ـ إسوة بالعشرات من أبناء المحافظة الكبار، الغائبين ـ في طليعة مستحقّي الوقوف على مشهد الساحل إذْ ينتفض أبناؤه اليوم، على اختلاف انتماءاتهم، في سبيل الحرّية والحقّ والكرامة والديمقراطية. أستعيده، وأعود بذكراه إلى العام 1985، حين شارك في مؤتمر إتحاد الكتّاب، فاعتبر المكتب التنفيذي ‘مجرّد عناصر شرطة عند الحكومة’؛ وأطلق على علي عقلة عرسان، رئيس الإتحاد آنذاك، صفة ‘الرقيب علي، رئيس مخفر إتحاد الكتّاب’، وفقاً للرواية التي يعرفها معظم المثقفين السوريين، وأعاد تفصيلها ‘المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية’، ضمن تقرير موسع حول بنية السلطة.

وبالطبع، بعد أيّام معدودات اعتُقل الراهب في مطار دمشق وهو في طريقه إلى اليمن، حيث كان يعمل مدرّساً بالإعارة، وسُحب جواز سفره، وظلّ طيلة سنتين ممنوعاً من السفر. المحرّض على هذه الإجراءات الزجرية كان أحمد درغام، عميد كلية الآداب آنذاك، إلى جانب موقعه القيادي في حزب البعث، والذي استحقّ لقب ‘جدانوف البعث’ بسبب هوسه بممارسة الرقابة الثقافية والفكرية. الأسد الوريث، للمقارنة، استكثر هذه الصلاحية الجدانوفية على أكاديميين أو أعضاء قياديين في الحزب، فنقلها إلى اللواء علي مملوك، مدير إدارة المخابرات العامة، الذي منع سفر العشرات من المثقفين والناشطين، وصار إلغاء المنع يتطلّب إرسال ‘واسطة ثقيلة’ إلى سيادته، من عيار… دريد لحام!

وليس مفاجئاً أنّ تكون الهزيمة الشاملة هي الموضوعة المركزية الطاغية على نتاج الراهب، خصوصاً في روايته الأولى ‘المهزومون’، التي نالت جائزة مجلة ‘الآداب’ مطلع الستينيات، وكان مؤلفها في الثانية والعشرين من العمر. كذلك تلمّس الراهب، مبكّراً، معنى ارتباط الإحتجاج بالحرّية، ومدى الحاجة إلى الديمقراطية على صعيد المجتمع العريض بأسره أوّلاً؛ ثم على صعيد المبدع بعدئذ، واستطراداً. وليس من المبالغة التذكير بأنّ الحديث عن الديمقراطية بدون صفات لاحقة (مثل ‘الديمقراطية الشعبية’، على سبيل المثال) كان، في مطلع الستينيات، أقرب إلى السُبّة؛ لأنّ التبشير العقائدي صنّف المفردة في المعجم الإمبريالي وحده، وبالتالي كان القائل بها يُزجّ في عداد الطابور الخامس.

وهكذا، بعد أن وضعه أمثال درغام وعرسان في صفّ ‘عملاء كامب دافيد’، مُنع الراهب من الكتابة في الصحف السورية (مراراً، بقرارات رسمية كانت تصدر عن وزراء الإعلام المتعاقبين)؛ ثم فُصل من جامعة دمشق، وخُيّر بين التقاعد المبكّر، أو تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس الثانوية (وهو الحائز على الدكتوراة في الأدب الإنكليزي، عن أطروحة متميّزة تناولت الشخصية الصهيونية في الرواية الإنكليزية). ولقد اضطرّ الراحل إلى الإستقالة، ومغادرة سورية للتدريس في جامعة الكويت، ثمّ صنعاء.

استذكار هاني الراهب اليوم هو مسير على طريق الشطر الساحلي من انتفاضة سورية، حيث يلحّ محمود درويش على البال: ‘أنا ابن الساحل السوري/ أسكنه رحيلاً أو مقاما/ بين أهل البحر/ لكنّ السراب يشدّني شرقاً/ إلى البدو القدامى/ أورد الخيل الجميلة ماءها/ وأجس نبض الأبجدية في الصدى/ وأعود نافذة على جهتين/ أنسى مَنْ أكون لكي أكون/ جماعة في واحدٍ…’. والاستذكار، كذلك، مسير على واحد من دروب سورية المستقبل، حيث الجهات لا تنغلق على صفة أحادية أو متفردة، ولا تتعدد الصفات إلا لكي تغتني، ولكي تتحد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى