أثير محمد عليصفحات الثقافة

طريق دمشق و’بروفايل مستمر’ إلى زوال..


يا رب دخيلك بلدنا ما إلنا غيرها:

أثير محمد علي

عشقت دائماً مطالعة كتب التاريخ. وكنت كلما تعمقت في قراءة سير الثورات، أسبابها البعيدة والقريبة، كيفية الانتصار على رجوم الظلم، أحدق في أعماقي وأنتشي وأنا أتغلب على الخوف من الخوف.

تراكيب اللغة التاريخية وقراءاتها المتعددة بدت لي قوافل سفر في المعرفة والمخيلة على حد سواء. وكان لسع عقارب الكلمات كوخز مهمازٍ دفع جواد نفسي للانطلاق في أشواط التجربة. كم أحببت دراسة مسارات التغيير السياسي، والتنقيب في معطيات الجدل، والعلم بحركة الجزء المفرد ضمن ‘الكل’ وأنا أستلقي على الكنبة أو الفراش، أو أنتبذ لي مطرحاً في مقهى!! كم هي ممتعة قراءة التحولات التاريخية!! وكم هي قاسية هذه التحولات حينما تكون هي المعيش اليومي في الواقع المنظور!

كم تغير أهل بلدي منذ زيارتي الأخيرة لتسعة أشهر خلت! صار كل واحد منهم يحمل ساعة الغفلة على كاهله وبقجة من الحكي. يتمتم بكلمات غير مسموعة، يتحسس قلبه في صدره، ويخرج لمخاطرة سعيه وراء رزق اليوم بانفعالات مضطربة. كل من صادفتهم في تنقلاتي اليومية بين أطراف الشام انهمك معي في استرجاع حكايته المستمرة والكلام .. لا أحد بمنأى عن الفجيعة، ولا عن الحكاية، ولا عن حرق التخيلات بهول الواقع. كل واحد منهم سارد يشق طريقه لمشهدية الحكاية، يتجمع مع غيره من شخوص ويتساوى معهم في السرد ويتحرر. كل منهم يفعل الكلام الرائي، وقول حقيقته الحكائيّة ويبصر الصيرورة وهي تطال كل شيء في الواقع.

ما أصعب معيش تفاصيل الحكاية .. ما أصعب معيش تحول التاريخ!! ما أصعب معيشهما حين تطرى المسافات بينهما! وما أصعب في هذا الحال قطع النهر مرتين: مرة في الحكاية وأخرى في الواقع!

تحت جنح السرد قالت لي الحكايا التي سمعتها ورأيتها: آن يصبح الاعتصام بحبل الصمت آية، تكتب سورة الخيانة.

هنا على التوالي، أترك نصي الذي أحمله أفكاري وخطوات رحلتي من اسبانيا وأنا أيمم وجهي شطر بلدي:

…أطرقت ملياً في الطاولة الأنيقة أتوخى أن أنبش سويداء الألم. وحاولت تغيير مجرى الحديث مع الغيب بيني وبين نفسي، في إحدى مقاهي مطار باراخاس في مدريد، حين كنت بانتظار موعد إقلاع طائرتي إلى القاهرة ومنها إلى دمشق. انشغلت لبرهة أتأمل حركة المسافرين وملامح الرحيل المزدحمة بافتراق الطرق، فتحت أوراقي وأخذت بمطالعة نص كتبه ألدوس هكسلي سنة 1949.

عجيبة هي ملكة التفكّر كيف تعمل!! كيف تلتقط مخبآت المعنى وتتفنن في تعشيق التخيّل بالواقع!! كيف تلصق شظايات مرتسمات نائية وبقايا أفكار متوارية، تقطرها من النسيان، تعيد موضعتها ككولاج تناصي جامع!

ثلة من أسماء تضم الدوس هكسلي (1894-1963)، جيرمي بنثام (1848-1832)، جورج أورويل (1903-1950)، ميشل فوكو (1926-1984)، وريناتو بيرتيللي (1900-1974) حضرت من غياباتها، استوقدت ذاكرتي على التوالي وتعايشت مع تقلبات فكرة راحت ترتعي في أرض مخيلتي.

بدأ التدفق الرابط بين هذه الشخوص، ينجلي من غبشته آن انهمك هكسلي بسرد تفاصيل زيارة قام بها إلى University College في لندن برفقة الفيلسوف الحائز على نوبل للسلام (1952) البرت شوايتزر(1875-1965). مفاده أنهما بعد ارتقاء السلالم الرئيسية للجامعة عرجا إلى الكوخ الذي أودع فيه جثمان جيرمي بنثام المحنط بوضعية الجلوس. وأضحت المومياء التكئة التي جعلت هكسيلي يتحدث عن البانوبتيكو (باليونانية Panopticon) السجن الكلي الرؤية، أو الحلولي الرؤية، الذي ابتكره بنثام، قبل أن ينتقل للحديث عن رسوم الايطالي جيوفاني باتيستا بيرانيزي (1720-1778) المعنونة ‘سجون مختلقة’، والتي كانت غايتي الأساسية من القراءة ولها حديث آخر ليس محله الآن في سطوري هذه.

كانت مخيلتي تتضوأ بالأفكار بين سلسلة الأسماء التي ذكرتها سابقاً، ورحت أفتش عن الدافع لهذه اللهفة المشدودة نحو معنى وجودها المتوالي معاً، وما هي طبيعة المسالك وأثلام التناصات التي شُقت لها في تربة مخيلتي. وبينما كنت غارقة في خواطري أعلنت شاشات المطار الالكترونية فتح المعبر إلى طائرة الخطوط الجوية المصرية. حملت حقيبة يدي وأسرعت نحو نفق الدخول. أخذت دوري في رتل المسافرين الطويل بانتظار إبراز جواز السفر وبطاقة الحجز لفرد من طاقم الطائرة، وحين اقترابي منه أحسست وكأن وميضاً لمع في فحمة عينيه وهو يتناول جوازي، ينظر لجلدته الكحلية يضمه إلى صدره، قبل أن يرفع بصره نحوي:

– من أين؟

تملكني صوت قريب مرتعش:

من الشام وإلى الشام..

قرّب الجواز من فمه ولثمه، ثم رفعه لجبينه:

بالسلامة..

تناولت جوازي- الكتاب وأنا أطفو مع شفافية أنسيّة نفذت إلى داخلي. كانت أنفاس جوازي أعمق أثراً وهي تربت على استطالة أصابعي المعروقة .. أنا التي تتملص من المقدس، ومن إملاءات الآلهة، ومن نصل أوراق التعريف والتبويب والتصنيف والتجنيس.

تحركت الطائرة بانتظار الإقلاع، وطارت أوراق جواز السفر إلى الماوراء، وحضرت سوريتي بهالة قدسيّة منمنمة بخرزات ‘سجناء الحرية’ .. لملمت صورتي، وتضاريس العالم وأفكاري وطرت فوق السحب لأعبر إلى البلد.

أحنيت رأسي ورنوت إلى الفراغ الكوني خلف النافذة الصغيرة المجاورة لمقعدي في الطائرة، عاد بنثام وهو يتأبط البانوبتيكو ويشير لأورويل، الذي بدوره يشير لفوكو وهذا الأخير لبيرتللي، أما أنا فقد وضعت كل إشارتهم في بقجة، إن لم أقل في جيب ما وعيته وعشته وخبرته عمري كله مع مواطنيّ من البانوبتيكو السوري .. البانوبتيكو السوري الذي ينهار معماره الآن حجرة حجرة على رؤوس خالقيه.

صمم بنثام السجن البانوبتيكو سنة 1791، ورغم أن مخططه الهندسي لم يتحقق مادياً على أرض الواقع إلا أنني أعتقد أن ماهيّة فكرته شكلت أسّ الحصر الفضائي، والرقابة، وانعدام الرؤية، ونزع الفردية، والتفتيت المجتمعي الذي اعتمدته النظم الشموليّة والتسلطيّة لتوطيد هيمنة خطابها، والسيطرة على الوعي واحتكار مفهوم ‘المقاومة’ بالفعل والكلمة. بمعنى أن السجون الصغرى، التي يظهر فيها عري السلطة البوليسيّة، ليست إلا الصورة الفيزيائيّة لـ’السجون الكبرى’ التي تكوّن بمجموعها الجهاز المؤسساتي لـ’الحركة التصحيحية’، أو ‘الإصلاحيّة’ الانضباطيّة التي تحتم على إدارات الدولة التمثيليّة، والتربويّة، والثقافيّة، والإعلاميّة، والقضائيّة، والعسكريّة، والنقابيّة، والحزبيّة، والنسويّة، والروحيّة، والقبريّة .. الدوران في فلك مركز متعال اسمه السلطة.

تتكون هيكيلة البانوبتيكو الهندسيّة من بناء دائري تتوزع على محيطه الزنازين بينما يشاد في وسطه برج يشرف على كل زنزانة من خلال نافذة واسعة مطلة. وفي عمق كل زنزانة كوة مقابلة لنافذة البرج ينسرب منها الضوء، بحيث أن خطوط الضوء المضاد تؤمن رؤية من هو داخل الزنزانة، وحتى أقل حركة له ولظله المسجون، من قبل برج المراقبة، بينما يحرم نزيل الزنزانة من رؤية ساكني البرج أو ما يجري فيه بالمطلق لوقوعه في نطاق العتمة.

آلية الرقابة هذه تولّد في قحف رأس السجين المعرفة والإحساس بأنه موضع مراقبة، ورصد مستمر من قبل عين محدقة تسكن البرج وتتربص به، وبالتالي فإن تخوم فعله وسلوكه تنحصر ضمن الأبعاد المباحة التي تتيحها سلطة الرؤية واستعارة نضواتها الحديدية. هكذا يُهيمَن على السجين بتحويله لموضوع تلصص وحراسة دائمة، فانعدام الرؤية لدى نزيل الزنزانة تقابله سلطة الرؤية البرجيّة الضامنة لاستتباب الانضباط والنظام. وحتى في حال غياب الحارس أو المراقب الفعلي، فإن وجود البرج المركزي المواجه للسجين كفيل باستمرار فاعلية سلطة الرؤية.

ظهرت فكرة البانوبتيكو بالتوافق مع عصر الأنوار وعقلنة الدولة القوميّة وطهرانيّة الثقافة العقلانيّة، ومتناسبة مع احتياجات المجتمع الصناعي الذي تكوّن اعتباراً من تضخم المدينة تحت وطأة الهجرة من الأرياف وتشكل البروليتاريا. وترافق النمو السكاني المديني مع كثرة في العناصر البشريّة التي يمكن لها أن تنشط خارج حدود القانون وتتمرد على المتواضع الاجتماعي، كل ذلك ترافق مع ازدياد في عدد نزلاء السجون، الأمر الذي فرض استحالة مراقبة هذه الجموع والسيطرة عليها، مما تطلب استبدال العقاب الجزائي والانتقام والثأر التفتيشي القروسطي للخارجين عن القانون كعظة للآخرين، بعقلنة مؤسسة السجون، وبـ’عدالة’ إعادة تأهيل السجين واستبدال أساليب الحجز والحرمان من الحرية والذي يعتبر البانيوبتيكو ثمرة من ثمراته.

ورغم أن مخطط السجن البانوبتيكو الذي ابتكره جريمي بنثام لم يترجم إلى صرح معماري عياني كما أشرت سابقاً، إلا أن آلية سلطة الرؤية والبصبصة، والثنائية الضدية (مراقَب ومراقِب بفتح القاف وكسرها) تطورت منذ ذلك الحين إلى بانوبتيكو باطني في أنظمة الدول التسلطيّة الساعية لتوحيد المكون المجتمعي في كتلة رعيّة تغيب عنها التعددية، والاختلاف، والفرديات الذاتيّة، والخلاسيّة، ويُسيطَر فيها على السلوكيات ‘المنحرفة’ عن النمط الموحد والمعيار المعتمد لـ’المواطن الصالح’. من هنا فإن ماهية سلطة الرؤية البانوبتيكيّة تلخص واحدة من أهم علاقات الطغم الحاكمة بمجتمعاتها سواء في الشارع، أم المدرسة، أم الإدارة، أم السوق، أم المصنع، أم الحقل.. وما تراكم الأرشيفات التصنيفية الأمنيّة للمواطنين بسلالم ودرجات الولاء ضمن مروحة الإيجاب والسلب، إلا التجلي الفج المباشر لفرط تحديق هذه العين المتسلطة بوسائلها المختلفة، والتي لا يخفى على أحد في راهن اليوم أنها تجاوزت وسائل الاستعلام والاستخبارات الفيزيائيّة والسلكيّة واللاسلكيّة إلى الوسائل الالكترونيّة وشبكة النت.

ولا يتوقف الأمر في المجتمع-السجن الكبير عند هذا الحد، فالطبيعة الذئبيّة للاستبداد تركز على مسخ العلاقات المجتمعيّة المدنيّة والأهليّة بالاستلاب الموحش، والتخويف، والتشرنق، والمناخ الأخرس، وتبرير الانتهازيّة وركوب الموجة، وتجميد التاريخ باستنساخ المراحل الزمنيّة ومحو الأخلاق الثوريّة، والقضاء الوحشي على أية محاولة للاحتجاج، إضافة لترجيح احتمال أن كل عين في المجتمع هي عنصر تجسس على أفراد المجتمع الآخرين. بالمقابل، فإن صور أساليب التفنن في التعذيب في دهاليز الرعب المظلمة التي تتناقل حقائقها الألسن تهشم كيان الفرد وفاعليته الذهنيّة والجسديّة والنفسيّة والزمنيّة، وتحيل رأسه لبرج بانوبتيكو تسكن فيه عين تراقب نفسها بنفسها، معززة التقوقع وعطالة التفكير الحر، وموت النشاط المعارض في سبيل ‘خيرها الفردي’، أو أنها تدفع صاحبها نحو زئبقيّة التسلق البهلواني والانخراط بلا تردد في لعبة السلطة وأخلاقها المهيمنة، بمبررات تجد ترجيعها بمقولة ‘خير الصالح العام’ الكاذبة.

لا أجزم بأن ميشيل فوكو تنبه لاشارات هكسلي حول البانوبتيكو، بشكل حفزه لتناول دلالاته العميقة فيما يخص مطلق السلطة، في الفصل الكاشف في كتابه ‘المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن’ (1975)، إلا أنني أرى أن أن جورج أورويل تنبه لهذه الإشارات، إضافة لتأثره بمجمل نصوص هكسلي الأدبيّة، فربطها بالسياق التاريخي لنظم الاستبداد الشموليّة في زمنه، ومن ثم أعاد خلقها سنة 1949 جمالياً في رواية ‘1984’، بمعنى أن تناص أو مرجعية عين ‘الأخ الأكبر’ في الرواية تبدو وكأنها تعود لعين البرج في البانوبتيكو.

طويت خريطة أفكاري في خلايا دماغي حين حطت بي الطائرة في مطار القاهرة مع الليل، واستحال الناس أجمعين لسوريين في بؤبؤ عيني، ولم أعد أبصر إلا أهل سورية في ممرات وصالات المطار وأنا أتابع مرئيات اللقيا والاحتضان ولغط العناق، ولكني ما أن تركت المطار خلفي حتى زاحمتني أكداس الجثامين من بلدي، الملامح الميتة الشوهاء، الأجساد المفصولة عن رؤسها، شعور النساء المتيبسة بالدماء، شظايا الأشلاء الطفلة، صراخ ملتهب بمن فيه من مراهقات، أنين المدن المتقوضة، موتى بلا قبور وحتى بلا دفن ليلي عجول .. ودارت بي التكسي مع نسمات النيل باتجاه كوبري عباس إلى المَنيَل، حيث يقع الفندق الذي سأقضي فيه ليلتي عند أم الدنيا، قبل أن أشد رحالي وأطير مع ظهيرة اليوم التالي إلى دمشق. حاولت الإستئناس بالمشخصات اليوميّة ذات الطعم الرتيب والمتبدية على طول الطريق .. بالأغنية الموسميّة التي صدحت من مذياع التكسي .. بالحديث مع السائق عن الثورة المصريّة ومقاومة حنظلية الواقع الراهن .. بالبرهان الساطع أن ماء الحياة مازال يجري في عتمة النيل المرشوق بالخضرة.

ولجت البوابة الخارجيّة للفندق، طالعني وجه صديقي سلامة ينتظرني في الردهة المتواضعة.

وأخيراً وفي مصر البهيّة يا سلامة…

وذابت الأمتار القليلة كخطوات سكر. أنزاحت سود خواطري بغبطة متفائلة انسربت من صوت سلامة الصريح النضير، رغم عدم مرور المديد من الوقت على عودته من شفا الموت في المعتقل.

مشينا فوق الأرصفة المتشققة، اصطدمت أقدامنا بحصى ‘ميدان التحرير’، مررنا بكاميونات العسكر، وصوب آخر الليل التقينا بشابات وشبان من سورية يفترشون أفكارهم النبيلة على بساط الممارسة: لينا ورامي ورولا من بين آخرين غابت عني أسماؤهم .. غمرتنا أماني الغد، وضجّ الوجود كل الوجود في عروقنا وعروق حديثنا.

لن أنسى تباشير أعينهم الحرة وهم يقارعون ‘قلب الظلام’ بالإضراب عن الطعام. لن أنسى جسد لينا الواهن وهو يكتب في أعالي الإيمان أشعاره النازفة .. غوريّة المروءة وهي تفيض من إطلالة رامي المتوهجة .. نعناع وجه رولا الذي استنشقته وهي تضمني حين عرفت بأني سألاقي دمشق .. وحملوني التوصيات بحماية نفسي والحنين لبلدنا أجمعين.

من شباكي في الطابق الثامن من الفندق تخايلت العمارات المتصارعة على المكان كمفارقة سينوغرافيّة صارخة، كتفوه بنائي متهدج الصوت، كسرديّة غروتسكيّة تشكيليّة .. تلك الليلة لم أغفُ حتى السحر مع الأذان.

وعند الضحى تابعت الطريق إلى الشام. تلفت يمنة ويسرة واقتربت من سيدة وابنتها أمام المكان المخصص لوزن الحقائب في مطار القاهرة:

-خالة رايحين ع الشام مو هيك؟؟

-إي يا بنتي ع الشام.

-منروح مع بعض .. رايحة معكون.

حكاية السوريين في المطارات حكاية! كان جمعنا نحن ركاب الطائرة المتوجهة لدمشق يرتّل إيقاعه الجريح المفرد، دون أن يفوتنا اقتفاء مسارب تكافل كامن لم أعهده في أي من سفرياتي الماضية. بعفوية تجمعنا كالبنيان المرصوص على اختلاف امارات تمظهراتنا. فما أن كان ينضم إلينا راكب أو راكبة حتى ترتبك خطواتنا، ويموج صفنا بانفعالات تلقائيّة، كأننا كنا نتكئ على بعضنا البعض نتحاور بلغة عارية من الكلمات، ندون معاً القول بأن قدرنا واحد كما بلدنا واحد.

تبادلت أحاديث السفر في الطائرة مع جارين شابين يعملان في فرن للمعجنات في إحدى دول الخليج. انهمكا بشرح حِرفي ممتع لوصفات الفطائر وخمائر العجين. تقاسمت معهم أسرار عجائب المطبخ وغرائبه، وأخذت أحاديثنا تتقافز سارحة في أزقة الحكي وروح الكلام. وكيف لا؟ حكينا أحزان المعذبين في الأرض .. ومعالمنا التي تتغير مع وجعنا التاريخي.

وربما لانشغالي الذهني في تفكيك البانوبتيكو وتركيب كولاج تناصي له، تذكرت أنني لسنوات مضت شاهدت عملاً نحتياً في احد المعارض الفنيّة الزائرة في متحف غوغنهايم في بلباو شمال اسبانيا. العمل الفني الذي حضرني وتموضع على سطور أفكاري يحمل عنوان ‘بروفايل مستمر للدوتشي’، وهو يمثل رأس موسوليني.

أنجز الفنان الإيطالي ريناتو بيرتيللي هذا التمثال سنة 1933. ويبدو أن العمل لاقى استحساناً من قبل الزعيم، مما جعل الحزب الفاشي يترك له المكان الأبرز في ردهة مقره المركزي. وتكرر مسلسل نسخ هذا التمثال-الرأس لآلاف المرات طوال حياة ديكتاتور ايطاليا باستخدام مواد مختلفة كالرخام والحجر الغرانيتي الأسود والخشب.

يتبدى التمثال المعدني الأصلي، كخوذة عسكري متحولة إلى تدويرة هامة الدوتشي، تدويرة ملساء تماماً ومتعالية على أي تغضن بشري، وبملامح فنية تمثل جوهر التيار المستقبلي، دون أن يغيب عنه المؤثر الديناميكي الذي يمكّن المتلقي-المتفرج من مشاهدة المجسّم من كل زوايا الرؤية، وذلك لأن بروفايل الوجه يستمر بالدوران مع جهات الأرض قاطبة، مما يجعل بصره المفترض يشمل الوجود بأكمله، وبالتالي فإن سلطة رؤيته ذات طبيعة حلولية منبثة في الكون فيما لو استخلصنا جوهر المعنى من مسالك التأويل (الهيرمينيوتيكا).

صحيح أن ‘بروفايل الدوتشي المستمر’ الذي يعبر عن الذائقة المهيمنة لزمنه، اختزل مفهوم البانوبتيكو فنياً بديمومة النظرة المكانيّة والزمانيّة، إلا أن أهل سورية خبروا إخراج طغمتهم الحاكمة لصنميّة سوريّة الصناعة بامتياز، شبيهة بالمعنى المحايث لتمثال رأس الدوتشي، وذلك بعملية استنساخ تماثيل ‘القائد’ ‘الأول’ ‘الخالد’ في أربع رياح الأرض السورية. فالمواطن السوري كان يتتبع دلالات البروفايل المستمر والبانوبتيكو كذلك، من خلال تماثيل الديكتاتور المتضاعفة، وموضعتها الجغرافيّة كشواخص دالة على الفضاء السوري مع ما يسندها من أعمدة شبكة الاتصالات، وتغطيات الإعلام، وفروع الأمن.

أليست جموع تماثيل ‘القائد’ المنسوخة، الرأسية والنصفية أو بالحجم الكامل (بمقاييس متعملقة ضحلة فنياً في أغلبيتها الساحقة)، تحمل استعارة عيون تحملق في كافة الجهات؟؟ فأينما حلّ المرء تكون آلاف عيون ‘القائد’ الجامدة له بالمرصاد في طيات التضاريس السورية.

بداهة تلتقي هذه الصنميّة مع تقديس مفهوم الدولة – القائد-الدوتشي-الفوهرر-الكاوديو، وتضيف نسخة الإخراج التسلطي السوري لهذه المترادفات طوطميّة ‘كابو المافيا’ أو ‘زعيم الغانغستر’.

سألت جاري ‘معلم المعجنات’ الجالس بجانبي:

– دخلك، بتعرف شي علامة طبوغرافية تدل على أننا نطير فوق بلدنا. ما عم بقدر ميّز البادية السورية من الأردنية.

– ما فيه غير القصف، وقت بتشوفي قصف هادا بعني إنو صرنا بسورية.

ولم يكذب خبراً .. وحتى مطار دمشق ونحن بانتظار الهبوط، والذي لا يحتمل أكثر من عشر دقائق تقريباً، بقينا في الجو نلفّ وندور لمدة 35 دقيقة، رأيت وأحصيت خلالها مواقع أعمدة دخان ثمانية بفعل القصف الجوي (متجاوزة السبعة من بين رمزية الأرقام)، تعرفت منها على ‘الحجر الأسود’ و’الغوطة الشرقيّة’. كما رأيت أسفل طائرتنا حوامة خفاشيّة تشق طريقها لتصب ضرام القتل.

أخيراً، توقفت محركات الطائرة، تململت الأرض الطيّبة بأتربتها الكالحة خلف النافذة الصغيرة، وتبدت لي سرحات عشب البراري والأشواك والبلان المتيبس تفترش الأبعاد. شرقت عيناي بحلاوة دمع اللقاء:

– ما فيه أحلى من بلدنا..

أردف صوتي من شفتي المرتجفتين مكفكفاً.

– إيه والله ما فيه أحلى من بلدنا.

– بلدنا جنة جنة .. والله جنة يا عالم!

– يا رب دخيلك بلدنا ما النا غيرها!

– والله كل شي دورت بهالدنيا .. أحلى من وج(هـ) بلدنا ما شفت!

– ..الله يحميها وينجيها!

دلفت هذه العبارات إلى مسمعي متتابعة من الركاب، وتمشت في عروقي معفرة بكل حبة تراب سورية.

آن يصبح الاعتصام بحبل الصمت آية، تكتب سورة الخيانة .. لا خيار لنا نحن أهل سورية إلا بالانتصار على الموت:

– يا منطير مع بعض، يا منطير مع بعض.

*كاتبة سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى