صفحات الثقافة

طعم الإسمنت: متاهة ما بعد الثورة/ خالد صاغية

 

 

 

في 2 أيار 1992، نشر الملحق الثقافي لجريدة النهار وثيقةً حملت عنوان «رؤية بديلة لإعمار بيروت»، وقّعتها مجموعة من المهندسين اللبنانيين المرموقين. ونظراً لمضمونها ونوعية الموقّعين عليها، اعتُبرت الوثيقة بمثابة إعلان مبادئ للمعركة ضدّ المشروع الرسمي لإعادة إعمار وسط بيروت، الذي أقرَّ إنشاء شركة عقارية تستملك أراضي الوسط، تمهيداً لتولّي رجل الأعمال رفيق الحريري رئاسة الحكومة.

وفي العدد نفسه، أعلنت افتتاحية الملحق أنّ جرّافة السلام ترثُ جرّافة الحرب، في صورة تقلب مشروع الإعمار رأساً على عقب ليصبح مشروعاً للتدمير. إلا أنّ الصفة التدميرية للجرّافة لم تقتصر على الجانب المجازي، فالتدمير المقصود هو تدمير الذاكرة، لكن أيضاً التدمير الحرفيّ لمباني وسط المدينة. وقد أُنشئ تاريخٌ لهذا العنف أُعِيدَ إلى العام 1982، حين كُلِّفت جرّافات تابعة للحريري نفسه بإزالة الركام من وسط بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي، فقامت تلك الجرّافات، وفقاً للرواية النقدية، بإزالة مبانٍ صالحة بحجّة إزالة الركام تمهيداً لمشروع إعمار «مشبوه» كان يُعَدُّ له منذ تلك اللحظة.

يمكن اعتبار هذا العدد من الملحق تأسيسياً لانطلاق معركة الذاكرة، التي شغلت حيّزاً كبيراً من الحقل الثقافي اللبناني في التسعينيات في مواجهة مشروع الإعمار الحريريّ. القيّمون على الإعمار، بدورهم، وعوا أهمية اللحظة، ممّا استدعى ردوداً من مقرّبين من الحريري نُشِرَت في الملحق نفسه، لتذكّر بأنّ حرب السنتين لا جرّافات الإعمار هي التي دمّرت أسواق بيروت.

وابتداءً من تلك اللحظة، خيّمت ثنائيّة الإعمار/ التدمير على السجالات الثقافية طيلة عقد التسعينيات اللبناني. وفيما ركّز سياسيون واقتصاديون معارضون على نقد المسارات الطبقيّة لسياسات الإعمار، تولّى مثقّفون كتابة روايات وإنتاج مسرحيات وتنظيم ندوات عن الذاكرة. ولعلّ مسرحيّة «مذكرات أيّوب» كانت أبرز تلك الأعمال التي راجت في بيروت في الذكرى الخمسين للاستقلال، والتي يروي فيها أيّوب الذي كتبَ شعارات الصمود على جدران بيروت إبان الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982، خيبتَه وانكسارَه لدى مشهد الجرّافة تهدم مباني الوسط التجاري فوق أنقاض الحكايات المنسيّة لنساء المخطوفين في الحرب الأهلية اللبنانية. الجرّافة نفسها عادت وتحوّلت في مسرحية «جنينة الصنايع» إلى مشنقة تحتلّ وسط الخشبة، كأنّها تعلن موت المدينة.

لعبة المرايا: الرافعة والدبّابة

قد تبدو العودة اليوم إلى الإعمار في لبنان غريبة بعض الشيء، لولا أنّ زياد كلثوم يجبرنا على ذلك في فيلمه «طعم الإسمنت» (2017). فالفيلم الذي يدور حول عمّال البناء السوريّين في لبنان، والذي أهداه كلثوم إلى «كلّ العمّال المهاجرين في العالم»، سرعان ما يدعونا إلى قراءة مزدوجة: قراءة الثورة السورية في عيون أولئك العمّال، وقراءة الإعمار اللبناني على ضوء الثورة السورية. ففي «كلوز أب» أوّل لكاميرا طلال خوري، لا نرى في عين عامل البناء إلا انعكاس صورة المدينة التي يعمّرها. وفي «كلوز أب» ثانٍ، نرى مشهد الدخان المتصاعد من سوريا في العين نفسها. الفارق الزمني بين المشهدين هو الفارق بين النهار والليل، بين إطلالة العامل على المدينة من المباني الشاهقة التي يشيّدها وبين إطلالته على دمار بلاده من أقبية المباني نفسها حيث يبيت لياليه.بروشور

هكذا تبدأ لعبة المرايا بين الشيء ونقيضه في الفيلم الذي يتقاسمه ثلاثة أبطال: العامل، الدبابة، والرافعة (الجرافة). لكن وحدها الآلات الجبّارة هي التي تتكلّم في الفيلم. لا صوت إلا صوتها. الرافعة تعمّر، والدبّابة تدمّر. الرافعة تعمّر في لبنان، والدبابة تدمّر في سوريا.

اللعبة نفسها تظهر أيضاً في كاميرا خوري التي تستخرج الجمال من قلب البشاعة، في تنافرٍ مقصودٍ بين الواقع الصادم وصورته الجذّابة. واقع الرافعة التي حوّلت المدينة كتلةً من الإسمنت، وصورتها المأخوذة بدقّة عالية وجماليات فريدة. حتّى المشاهد الأكثر تشوّهاً كالكسّارات وهي تقضم الجبال في بداية الفيلم، تبدو وكأنّها تقدّم تلك الجبال البائسة في لقطة سياحية. كذلك الأمر بالنسبة إلى واقع الدبّابة التي تقصف بلا رحمة أحياءً تحوّلت ركاماً، وصورة هذا الركام «النظيفة». فبخلاف الأفلام السورية ما بعد الثورة، يكاد يخلو فيلم كلثوم من الصور «المبكسلة»، أو لقطات الفيديو المؤثرة التي صُوِّرت من قبل ناشطين وهواة على عجل. صور الدمار كلها واضحة و«نظيفة» وخالية من الضحايا. في الحالتين، لا تبدو الصورة دليلاً على قسوة ما تصوّره، بل تأتي القسوة رغم جماليات الصورة.

لعبة المرايا هذه لا تشير إلى التقابل والتوازي بين العنف الذي يعاني منه العامل تحت وطأة الرافعة والدبابة وحسب، بل تمهّد لمشهد التحام الرافعة بالدبابة في نهاية الفيلم. فبخلاف نقد التسعينيّات الذي صبّ هجومه على الرافعة وأغفل دور الدبابة التي رعت مشروع الإعمار ونظّمت تقاسم العمل بينه وبين «بندقية المقاومة»، تعكس جماليّات الصورة التي تظهر فيها الرافعة والدبابة في الفيلم تحوّلات السردية الرسمية بشأنهما. كلتاهما، رغم بشاعة ما تنتجانه، باتتا أدوات لمشروع خلاصيّ واحد.

فسردية الإعمار في لبنان لم تعد تحيل إلى الذاكرة أو السياسات النيوليبرالية أو حتى الوعود الحريرية. ما تبقّى من ورشة الإعمار على امتداد بيروت بات يعني الاستقرار الأمني والاقتصادي للبنان رغم الحريق السوري، وهو استقرار تضمنه -وفقاً للرواية الرسمية- مساندة حزب الله للنظام السوري، ودرؤه للخطر الإرهابي عن لبنان. الرافعة في لبنان ما عادت ترمز لحريرية آفلة، بل لـ «حزباللهيّة» منتصرة. الرافعة في لبنان ليست إلا الدبابة نفسها.

ووفقاً لهذه السردية الرسمية، التدمير في سوريا هو إعمارٌ لها. الدبابة لا تقصف لتقمع أحداً، بل لتخلّص سوريا من الإرهابيين والتكفيريين والمؤامرات التي تحاك ضد النظام الممانع من كل حدب وصوب. لم نعد في زمن الثورة الشعبية حيث الصورة تعكس الارتجال والفوضى وتحدّي الخطر، بل في عملية خلاصية تبدو فيها الدبابة وكأنها تنظّف وهي تدمّر. و«التنظيف» هنا ببُعدين: البُعد الاقتصادي الذي أراد قبل الثورة تدمير أحياء بعينها لـ «تحديثها»، والبعد «العلماني» الذي سيخلّص الشعب من براثن الإسلاميين. الدبابة في سوريا ليست إلا الرافعة نفسها.

بين الرافعة والدبابة، يظهر العامل السوريّ على امتداد الفيلم. يصعد في الرافعة صباحاً، ويتفرّج على الدبابة ليلاً، ليعود ويصعد في الرافعة صباحاً. العامل لا يتكلّم. لا نسمع له صوتاً، و«هل يمكن للهامشيّ أن يتكلّم؟».مشهد2

ونصُّ الراوي الذي يحاول بناء سياق روائي للفيلم لا يضيف الكثير إلى هذا الصمت، وحده وجه العامل الذي أُخفِيَ طيلة ربع قرن من الإعمار في لبنان يظهر واضحاً تماماً. كأنّ الفيلم بكشفه وجه العامل السوري وإخفائه وجوه الآخرين، يعيد الاعتبار لهذا الكائن الذي يعيش بين السطوح والأقبية.

وهنا أيضاً تصنعُ جماليات الصورة سياق الفيلم، فحتى يوميات العامل السوري تبدو جذّابة في الصور، كالأصابع التي تتحرّك بطريقة دائرية لتصنع لقمة الخبز، أو أسماك السردين المعلّبة وهي ترتمي فوق الرغيف. ورغم ذلك، تنجح الكاميرا في أن تزرع فينا إحساساً بالضيق حتى الاختناق. فالمصعد الحديدي الذي تحمله الرافعة كي يصعد فيه العمّال كلّ صباح يُغلق كما تغلَق أبواب السجون، وكذلك إطلالة العامل على المدينة من وراء حديد السقالات، ومشهد العمّال وهم ينزلون الدرج بعد انتهاء دوام عملهم، كأنّهم يودّعون هواء المدينة استعداداً للتواري تحت أقبيتها.

لكنّ هذا الضيق ليس مجرّد ضيق الاستغلال الاقتصادي الذي راج نقده في التسعينيات، ولا ضيق العنصرية المشار إليها في مشهد لافتة منع تجوّل السوريين ليلاً في لبنان. إنّه أشبه بضيق كافكوي، ضيق الكائن العالق في دهاليز متاهته في عالم غرائبي لا يقوى على فكّ رموزه. العامل السوري، كغريغور سامسا في رواية «المسخ»، فَقَدَ قدرته على التواصل أمام التحوّلات العصيّة على الاحتمال. الفارق بينهما أنّ بطل كافكا كاد يتنبّأ بفظائع الحرب العالمية الثانية، أمّا العامل السوري، فهو يعيش في ظلّ تلك الفظائع التي يشاهدها على شاشة الهاتف، من خلال الصور المبكسلة الوحيدة التي تظهر في الفيلم، والتي ترسم مشاهد الخراب. تلك الهواتف التي لا نرى فيها حفظاً لذكريات أو تسجيلاً لمآسٍ أو اتصالاً بأحبة أو أي محاولة أخرى للخروج من المتاهة. نرى فيها فقط أصابع العامل تسير على الشاشة كما يسير هو إلى عمله كلّ صباح، يعمّر منازل للآخرين، يجمع بعض المال، ثمّ يعمّر منزلاً في سوريا، ليتفرّج على دماره من لبنان وهو يعمّر منازل أخرى لسكّان آخرين.

فمتاهة العامل هنا ليست في دهاليز القضاء والإدارة الحديثة، ولا في المصانع الرأسمالية، بل في بحر الإسمنت المجبول حيث لا فرق بين أن تطلّ على المدينة من فوق أو من تحت، كما تنبئنا الكاميرا الموصولة بالجبّالة. الجبّالة تدور لتجبل، والكاميرا تدور لتصوّر. وفي هذه الدورة، تظهر المباني واقفةً ثمّ مقلوبة رأساً على عقب، إلى أن تدخل الجبّالة النفق فينتفي الفارق بين الفوق والتحت، ويسود ظلام لا تقطعه إلا خيوط هلاميّة من نور. تبدّدت أوهام البدايات، كما يقول الراوي. كان العامل يظنّ أنّه يمضي نصف يومه فوق بيروت، ونصفه الآخر تحتها، وقد اكتشف الآن أنّ بيروت باتت فوقه طيلة الأربع وعشرين ساعة. لا فارق بين أن تحملك الرافعة لتطلّ على المدينة من فوق، أو أن تنزل إلى الأقبية حيث تنام المدينة فوقك.

النتيجة لهذا الدوران الذي يبدو وكأنّ لا نهاية له هي في مشهد الإنقاذ في حلب حيث يتحوّل الإسمنت إلى ركام، وحيث نسمع للمرّة الأولى صوتاً بشرياً غير صوت الراوي، لكننا لا نرى وجهاً له. فقد التحمت الرافعة بالدبابة لتتحوّلا معاً إلى مقبرة تخرج منها أصوات أحياء يستغيثون ولا نعرف إن كان أحد منهم/ منّا سيخرج حيّاً.

بعد ربع قرن

أشياء كثيرة تبدّلت منذ العام 1992، تدميرٌ من أجل الإعمار، وإعمار لا يشبه إلا التدمير. «الملحق» اعترفَ بهزيمته مبكراً، منذ أواخر التسعينيات، وبدت «جنينة الصنايع» وكأنّها مسرحية الستينيات الأخيرة، ورفيق الحريري اغتالته شاحنة ميتسوبيشي بيضاء رُكنت على الكورنيش البحري لمدينة بيروت. لكنّ «طعم الإسمنت» ليس فيلماً عن كلّ ذلك، وهو أيضاً ليس فيلماً عن الثورة السوريّة. إنّه فيلم عن المتاهة التي أعقبت الثورة. متاهة العنف الآتي على متن الدبّابة/ الرافعة أو الرافعة/ الدبابة منذ ربع قرن، وربّما منذ أن كان هذا العالم. منذ أن أفاق غريغور سامسا ذات صباح، ووجد نفسه وقد تحوّل حشرة ضخمة.

خالد صاغية

صحفي لبناني

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى