صفحات المستقبل

طفرة في أدب السجون السورية على الأبواب/ إبراهيم العلبي

 

 

في مطلع القرن العشرين، ونتيجة موجة الهجرة التي شهدتها البلاد العربية صوب الأميركتين منذ أواخر القرن التاسع العشر، في ظل انهيار الدولة العثمانية، ظهر ما يعرف بأدب المهجر، حيث تغنى بعض الشعراء والأدباء المهاجرين بالحنين إلى الأوطان معبرين عن خيبة أملهم في العالم الجديد، فيما واصل آخرون مسيرتهم الأدبية يبثون بين ثنايا نتاجهم الأدبي رسائلهم التقليدية.

ومثل أدب المهجر، ظهر أدب السجون في العديد من أنحاء العالم، لكنه في العالم العربي، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين كانت له نكهة خاصة، مع اشتداد عود الدولة الشمولية الديكتاتورية، وطغيان ثقافة القمع على أجندتها، وتنكيلها بالمعارضين وأهل الرأي في السجون، ولم تكن سورية استثناء، بل ربما كانت واسطة العقد في هذا الأدب.

وإن كان أدب السجون في سورية قد بلغ هذا المستوى في العقود الأخيرة، مع وصول حافظ الأسد إلى الحكم عبر سلسلة انقلابات وبعد تجذر حكمه عبر مواجهة وقمع سلسلة انتفاضات، فإن هذا الأدب مرشح لبلوغ مستوى غير مسبوق على مستوى العالم خلال السنوات القليلة القادمة، مع تضخم ظاهرة الاعتقال السياسي في عهد بشار الأسد إلى درجة لا تكاد تصدق، حيث يقدر عدد الذين اعتقلهم قوات الأسد وأجهزته الأمنية منذ اندلاع الثورة في آذار/ مارس عام 2011 على مدى 6 أعوام قرابة المليون شخص، قتل منهم 60 ألف على الأقل تحت التعذيب، وفق منظمات حقوقية.

عرفنا من أدب السجون قبل الثورة رواية القوقعة لمصطفى خليفة، وحمام زنوبيا لرياض معسعس، واللتين تصفان تفاصيل مأساة سجن تدمر الرهيب، في الثمانينيات، ورواية 5 دقائق وحسب لهبة الدباغ، والتي تروي معاناة النساء في السجون والفروع الأمنية، والشرنقة لحسيبة عبد الرحمن التي نسجت على نفس المنوال.

وكما أن تلك الروايات صدرت بعد كمون ساد عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات، في ذروة القمع الوحشي، حتى بدء خروجهم من المعتقلات والسجون، وانبعاث حس الكتابة لديهم مجدداً، فإن مئات الآلاف من المعتقلين السوريين الذين مروا من معتقلات الأسد الرهيبة، وعاش كل واحد منهم جواً خاصاً من التعذيب النفسي والجسدي، والتضييق والتجويع والإذلال، وشاهد الضيق كأشد ما يكون، والموت كأفضل ما يتمناه المرء، والبقاء على قيد الحياة كأقسى ما يعاقب به، سيتركون بصمتهم في أدب السجون بلا شك، بل ربما يتحول إسهامهم في هذا الأدب إلى مدرسة خاصة قائمة بنفسها، انسجاماً مع خصوصية المأساة السورية وتجربة المعتقلين السوريين.

مع انقضاء مرحلة الكمون الحالية في الإنتاج الأدبي المنتمي إلى أدب السجون في سورية، بعد سنوات، سنكون بدون شك أمام سيل من القصائد والروايات والقصص المبنية في قوالب فنية، ولعل القسم الأكبر من هذا السيل لن يؤلفه أصحابه من الذاكرة بعد خروجهم من المعتقل، بل قد ألفوه بالفعل وهم بين جدران الزنازين وتحت وطأة التعذيب، فالأدب في ظل هذه الأوضاع التراجيدية ليس رفاهية ولا ترفاً، بل نافذة السجناء إلى الأمل بغد تشرق فيها عليهم شمسه وقد فك قيدهم وكسرت عصا جلادهم.

مليون معتقل بينهم عشرات الآلاف من المثقفين والأدباء والمتعلمين وعوام الشعب لا يمكن أن يمروا بمحطة الاعتقال، في بلد مثل سورية حيث المعتقل لا يفرح بنجاته من الموت، من دون أن يضيفوا إلى مكتبة أدب السجون مشاهداتهم لفظائع السجون وأحوالها وتفاصيل الحياة الدقيقة للسجين نفسياً وفيزيولوجياً، منفرداً في زنزانة انفرادية، أو منضماً إلى مجموعة في زنازين جماعية، خاصة أن ما سمته منظمة العفو الدولية “مسلخاً بشرياً”، والمقصود سجن صيدنايا سيئ الصيت، قد شهد إعدام الآلاف وموت أمثالهم تحت التعذيب، وانتظار البقية مصيرهم؛ اللحاق برفاقهم أو النجاة بأعجوبة.

كم “قوقعة” سنقرأ بعد سنوات؟ وكم قصة عن 5 دقائق وحسب أو 10 دقائق وحسب سنسمع؟ وكم بيتاً من الشعر يعبر فيه قائله عن عذاباته اليومية وحالته النفسية الصعبة؟

جيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى