صفحات الثقافة

طقوس الأب/ ماري- هيلين لافون

 

 

صباحَ الأحد، كان عليه أن يغسل ظَهره. كان يحبس نفسه في الحمّام. هو الأب، ومن حقّه ذلك. الأخواتُ الثلاث كنّ في المطبخ. يسمعن ضجيج الماء، آلة الحلاقة الآلية، صوتُ ارتداد الأنابيب حين يغلق الصنبور. اهتزازات خفيفة على طاولة الزجاج، علبة ما بعد الحلاقة من نوع مينين، المشط. كان يحلق ذقنه أوّلًا. بعدها ينفتح الباب قليلًا ولا يطلّ منه. ينادي على اسم. هنّ يتوقّعن ذلك. يتوجّهن نحوه، غالبًا ما تظنّ كلّ واحدة أنّها المقصودة بالنداء وليس أختيها. يدخلن إلى عمق الحمّام، بأنفاسٍ مقطوعة. كانت الجدران ورديّة اللون، لونٌ هادئ وفاتر مثل لون ملابس داخلية. بسبب الجدران، اختارت الأمّ هذا اللّون خلال أشغال البناء. كانت محفّرة مثل جلد دجاج ميّت ومريّش. لقد بُنيَ الحمّام على أنقاض قبوٍ قديم. كان مستطيلًا وبلا نوافذ، متصلًا بغرفة من نفس الحجم يسمّيها أهل البيت “المخزَن”. كانت تنبعث منها رائحة ثقيلة، مثل تلك الّتي في الحمّام. وخلف هذين الجدارين المصبوغين بطلاء أصفر، من جهة المطبخ، كان كلّ واحد يضع ما يشاء: أوراق، نفايات، ملابس متّسخة في صندوق خشبي بلون أزرق فاتح، عليه آثار أياد وأقدام، مختلف أنواع الآلات، وكلّ ما يتجرّد منه الجميع.

الآثار هنا. والأدوية أيضًا، حتّى تلك الخاصة بالحيوانات التي في المخزن، دون إغفال أدوية قاصدي الحمّام. كلّها أشياء في الانتظار، بذورُ الحديقة، مئزرا الأم، وزرتها البلاستيكية، مجفّف الشَّعر، نِعال ذابلة، لزجة من الداخل في موضع الأصابع، بَكرات أرجوانية، طاسَات، سلال، سلّم صغير، تقويمات قديمة لمصرف “القرض الفلاحي” تستخدمها الأمّ لسحب الفطائر من القالب، عُلب صباغة الأحذية ومناشف ملطّخة، كاشفُ الضوء الخاص بالجرّار، ومناشف يدوية يابسة، تركن في زاوية من الحمّام فوق علبة.

كان لا يغتسل سوى بالماء الساخن. فقد كان الأب. لديه الحقّ في الماء الساخن جدًا بوفرة وسخاء. إنّه يؤدّي ثمن كلّ شيء. يحتفظ بالمال المخصّص للأسبوع في صندوق معدنيّ يضعه في الخزانة بجوار كومة من المناديل، البيضاء في جانب، والملوّنة في جانب آخر. يضع هناك المال اللازم للعيش. وكان يقول إنهن حين يكبرن سيمكثن معي لأنني أتوفّر على المال لكي أشتري لهن الفساتين. كلّ شيء كان في ملكيته، الأراضي، والحيوانات. لقد استثمر هنا كلّ جهوده كإنسان. كان بإمكانه أن يفرض علينا الامتناع عن تنظيف الغسيل حين يكون في الحمّام. كان ذلك سببًا يدعو إلى الاستياء. وكان يجب ألا نثير استياءه.

ضبابُ يوم الأحد كان ورديًّا. عند التاسعة صباحًا، كان يعبر المطبخ متأبّطًا ملابسه المستعملة، قميصٌ بدون أكمام، سروال داخلي كانغورو، ومن شهر نوفمبر إلى أبريل كان يلبس نوعًا آخر أكثر طولًا. كان يقفل عليه المكان. ولا يشمّ أبدًا تلك الروائح الكريهة. علمًا أنه في الدّاخل كانت توجد بقايا أشغال البناء، الحيوانات، الأبقار، الخنازير، السّماد، مصل اللّبن، كلّها كانت موجودة هناك على الدوام. لكنه لا يشمّ ذلك. يتّجه بحيوية وصلابة إلى موعده مع التهذيب لكي لا يموت. كان جسده قصيرًا وقويًّا. يصلح لأغراض أخرى لا تعلمنها بناته. وليس عليهن أن يعلمن.

كانت ملابسُ الأب مكوية دائمًا. وهذا أمرٌ ضروري. عندما كنّ في السكن المدرسي، كانت تأتي مدام شسانيول إلى البيت يومين في الأسبوع. كانت عجوزًا. ولم يكن البيت نظيفًا تمامًا. وهذا لا يحرج أحدًا. لكن بالنسبة لملابسه الخاصّة، فقد كان يريدها ممتازة، ليّنة وناعمة، لكي تكسو الجلد الدّافئ للتوّ. تأتي مدام شسانيول إذًا، وهي تعرف الأب منذ زمن طويل. تعرف حكايته، وأنّه اشترى المزرعة بأغلى ما لديه، استدان كلّ شيء، سدّد جميع الديون وأدّى ما عليه، والآن صار كلّ شيء ملكًا له. وهذا من حقّه. كان يقول إنّه يسمع صوت العشب ينمو، وإنّه الأخير. كانت هذه مملكته. أراد أن يكون في البيت حمّام وجهاز تدفئة مركزي. قام بهدم جدران الخشب. وجاء برجال إلى البيت، قاموا بإعادة بناء كلّ شيء. جدران من الطوب والجص، أعمال السمكرة وتمرير الكهرباء، ثم الصباغة. اختارت الأم اللّونين الأصفر والوردي. واختارت اللون الخمريّ للأرضية، في كلّ مكان: المطبخ، الحمّام، والممرّ. لكن، في الطابق الأعلى، لم يتغيّر أيّ شيء. غرفةُ البنات، تلك الغرقة المربّعة فوق المطبخ، بقيت كما هي. هذه الأشغال تمّت في عام 1976، خلال صيف الجفاف الكبير والألعاب الأولمبية لمونتريال.

لطالما شَعر ببرودة في قدميه. يرتدي تحت حذاءه المطّاط الطويل جواربَ سميكة من الصوف. وفي الشتاء يشتري جوارب مبطّنة بالفرو تصل إلى الكاحل. كان يحبّ الجلوس على المقعد، متكّئًا على طاولة المطبخ، وقدماه ممدّدتان فوق دعامة في اتّجاه فوهة الفرن. هكذا يدير ظهره للتلفزة. قال إنّه سوف يموت من أخمص قدميه. يتداوى بنبيذ “شوم” القويّ على الكبد، الذي كان لونه أصفر لامعًا. كانت الزجاجات الفارغة تظلّ مصفوفة بسدّاداتها في علبة لوازم الحمّام. يشرب من الزجاجة مباشرة. فتبدو عيناه صفراوين حتّى في الضوء. يدخّن في صمت تبغه الرماديّ الملفوف في ورق “جوب”. يترك السيجارة مطفأة بين شفتيه وينساها. يضعها قبل أن يدخل إلى الحمّام على حافة صحن أبيض يستعمله منفضة للسجائر. وعند خروجه يأخذها من جديد.

كان يعبر المطبخ متأبطًا ملابسه، وهنّ في انتظاره. ينادي على إسم فيستجبن  له في الحين، الواحدة منهن أو الأخرى. يدخلن في الجلد الميّت للحمّام، في لحمه، صامتات، خارجات عن أنفسهن، في خدمةِ السيّد الآمر الناهي. حينها يكون الأب متكئًا على المغسلة، ذراعاه ممدودتان. لونهما أبيض من تحت الكوعين. هكذا يعرض ظهره المستدير قليلًا، ظهرٌ مكشوف وذراعان مغموستان في البخار الرّطب. ما تبقّى من جسم الأب غير موجود. بالكاد تبدو مقدّمة الرقبة، سمراء، سرعان ما يغطيها شَعر أسود. كان كيس الحمّام موضوعًا على حافة المغسلة. وكان الأب مستعدًّا، مغطّى بالصابون. يجب على اليد اليمنى أن تندسّ بداخل الكيس، مفرّقةً ما بين الأصابع، لتمرّره على جلد الأب، ثمّ تفرك وتدلّك ظَهره.  تتمهّل وتركّز جهدها عند الكتفين ومنبت الكليتين، غير بعيد عن الشريط المطاطي لتبّان الكانغورو الأبيض. كما تحزّز الخطّ الناتئ للعمود الفقري مرّات عديدة، بشدّة ثمّ بليونة. مع الحرص على عدم المساس بالإبطين، لأنّهما مجالٌ محفوظ ليدِ الأب، ومعهما الخاصرة والضلوع. يجب الحرص أيضًا على عدم الضغط بالكيس، الذي رغم تبليله بالماء الساخن، يشعرنَ بلدغته تلك، لا يجبُ أن يسمح بانسكاب قطرات غير مرغوب فيها، على طول الظهر حتى تختفي في الأسفل، حيث ينتهي وجود جسم الأب.

كانت بَشرته بيضاء، ناعمة، أسيلة، محفورة عند الإبط الأيسر بكتلة صغيرة داكنة محاطة بلونٍ بنّي. كنّ يقلن عنها، هنّ الثلاث، إنها ثُؤلول، بَثرة أو قرحة. هنّ يعرفن الكلمات. كنّ في السكن المدرسي من أنجب التلميذات، ويقرأن جميع الكتب. لا يقلن عبارة “الأب”. بل يقلن “العجوز” فيما بينهن. أمّا في الحياة اليومية، فكن يرتّبن أمورهن ولا ينعتنه بشيء.

في غياب تعليماتٍ أبويّة بخصوص هذه المنطقة المتورّمة من جسده، التي يعتقدن أنه جاهل لوجودها، كنّ يمنحن هذه الحبَّة قابليةً أكيدة وقدراتٍ جبّارة. إنّ أتفهَ اتّصال مع الماء، مع الصابون أو مع الكيس، قد يتسبّب في وقوع كارثة ويعجّل بوفاة الأب، المكتوبة على جلده. إنّ الأمر في أيديهن لتفادي المسّ الطفيف بالموضع، الّذي يُرى بالكاد، مثلما بمقدورهن دفعُ الورم نحو النضج، أو تسريع نموِّ هذا الدّبل الذي ينخرُ اللّحم الأبيض للأب، وما قد يليه من آلام صارخة لأمراض مزمنة تقتل باستحياء، أمراضٌ ذات روائح مقرفة يصعب كبتها، أفواهٌ منكمشة، أيادٍ مغلولة، أرجلٌ متخشبة، كما في إعلانات الجنائز على صحيفة “لامونتان” وسط فرنسا.

كنّ ينتظرن. يراقبن البَثرة. يعشن حياتهن. ولا يلمسنها. لا ينشّفن ظَهر الأب. يشفطن مرّة واحدة فقط، ولفترة وجيزة، بكيسٍ آخر أحضره بنفسه ووضعه على حافة المغسلة. لم يقل شيئًا. لقد انتهت المهمّة. يخرجن من الحمّام، يدٌ يُمنى رَطبة وأطرافُ أصابعٍ مدعوكة. هو يغلق الباب وراءه، بالمفتاح. يمرّ إلى المطبخ فيجده فراغًا. البنات لسن هناك. لقد استأنفنَ العمل. كلّ واحدةٍ في معمعةِ الأشياء. لقد كلّل رؤوسهن للحظةٍ ذلك البخارُ الورديّ المتصاعد من الجسد. إنها التاسعة والنصف صباحًا. وسيكنّ جاهزاتٍ لقدّاس العاشرة.

* هذا النص للكاتبة الفرنسية ماري- هيلين لافون نُشر ضمن كتاب بعنوان “حكايات”،  وهو الكتاب الفائز بجائزة غونكور للقصة القصيرة عام 2016.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى