أيمن الشوفيصفحات الناس

طلاب سوريا.. موسم الهجرة إلى الشمال/ أيمن الشوفي

قلبك المستيقظ يمنعك من البكاء، فيما شهيّة الحياة تسيلُ من وجهك على زجاج نافذة الحافلة أو سيارة الأجرة، فتلتقطها قطرةً قطرة قبل أن تجّف. أوراقكَ القليلة هي كلُّ ما تحمل: شهادة الدراسة الثانوية المترجمة، وجواز سفرك، وإخراج قيدٍ من المختار. بعد قليلٍ ستبلغ بوابة «المصنع». ستصبح سوريا خيطَ دمٍ رفيع ينزُّ من ذاكرتك. ستلقيها خلف ظهرك، وحين تتفقد دمك غداً ستجده ينقصها، قبل أن تفتح باباً آخر من بيروت على عاصمةٍ أوروبية. لن يسألوك في السفارة التي تقصدها عن عدد الفروع الأمنية في سوريا، ولا عن الفرق بين فرع الأمن العسكري وفرع فلسطين. لن يسألوك كذلك عن سبب تمسّك النظام بالسلطة، ولا عن سبب بقاء الثورة السورية يتيمة. غالباً ستنال «التأشيرة». هناك ينتظرك مقعدٌ في جامعة لم تخترها. في مدينةٍ لم تخترها. إلى حياةٍ اختارتك، وبلدك لم يتقن بعد سوى فنَّ الخسارة.

الجرح الذي لم تندمل آثاره، يذكّر حسن الهنداوي الطالب في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق، بفرع الأمن العسكري حين اعتقله إثر مشاركته بالتظاهرات. يذكّر أيضاً يد الممرض الذي لم يستخدم «المخدّر» أثناء تخيّيطه الإصابة. يتذكر صوته أيضاً: «بدكن حريّة… تحمّل لكان».

حسن الآن في ألمانيا يدرس اختصاصاً آخر غير الهندسة. لقد رتّب سفره عن طريق مكتب لخدمات الطلاب في ألمانيا، بعد أن دفع له مبلغ ألفي يورو. كلفة الدراسة هناك تبلغ نحو 8 آلاف يورو سنوياً، وتوضع كوديعة في المصرف، لا يسمح للطالب إلا بسحب مبلغ 625 يورو شهرياً كمصروف شخصي كما لا يحق له بالعمل.

وعن طريق المكتب نفسه، سافر تامر شاهين الذي كان يدرس في كلية طب الأسنان في جامعة دمشق. كان أيضاً من المشاركين في الحراك الطلابي السلمي، ونال حصته من الاعتقال على يد فرع الأمن العسكري ذات مرّة.

لكن سوق مزيدٍ من القصص يكشف أول المشكلة. ها هو جهاد أبو سعيد يخسر ثلاث سنوات دفعةً واحدة. إذ أن قبوله في إحدى الجامعات الألمانية وفي اختصاص المعلوماتية شطب من حياته ثلاثة أعوام كان قد أمضاها في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق. جهاد لا يرى مشكلة في ذلك، فالمهم خروجه من سوريا، ولو أنه بدأ خارجها حياةً دراسية من الصفر. هو أيضاً من نشطاء الحراك السلمي.

قليل من البراغماتية

ملامح هذه النفعية المتبادلة يمكن تبيانها هنا. ثمة العديد من المدن الألمانية تتطلب مستوياتٍ معينة من التنمية واختصاصاتٍ تردف هذه العملية. كما أن قسماً من الطلاب السوريين المعارضين للنظام ممن تعرضوا للاعتقال والتعذيب يعنيهم كثيراً الخروج من سوريا وبدء حياةٍ جديدة. وهذا ما نجده أيضاً إن عاينا قصّة محمد زريق، وهو طالب سنة ثالثة يدرس اختصاص الكيمياء في جامعة «البعث». هرب محمد إلى بيروت، وهناك وجد العديد من الخيارات تمنحه بعثات كاملة التكاليف إلى ألمانيا… لكن بعيداً عن اختصاصه. لذا فإن سفره يفرض عليه دراسة أحد فروع العلوم الإنسانية في إحدى الجامعات الألمانية.

أيضاً قبل رامي صعب، وهو على أبواب التخرج من كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، السفر إلى ألمانيا ليدرس المعلوماتية. الأمر الذي يعني خسارته أربع سنوات دراسية كاملة. ربما لم يكترث لهذه الحسبة أصلاً، ما إن عاين ذاكرته وتطلّع منها على 12 يوم أمضاها معتقلاً في فرع فلسطين، على خلفية مشاركته في الحراك السلمي.

من حق عمر هنيدي وهو خريج كلية التجارة والاقتصاد قسم الاقتصاد العام أن يرتاب من تسهيل إجراءات القبول الجامعي للطلاب السوريين خاصةً في الجامعات الألمانية. يقول: «ثمة تركيز على إخراج طلاب من اختصاص حيوي كاختصاص الاقتصاد الذي يتضمن دراسة علومٍ أخرى، ليس لإكمال دراستهم في نفس الاختصاص وإنما للبدء بدراسة اختصاص ضيق الأفق مثل اختصاص المعلوماتية، وأعتقد أن ثمة رغبة في إفراغ البلد من الكفاءات والعقول التي يمكن لها أن تساهم بحمل منظومة التطور في المرحلة القادمة، لأن التسهيل بهذه الطريقة يعني الاستقطاب، وهذا ما يلفت نظري».

وجهان آخران للحراك

ليس الانتماء إلى الثورة أو تقفّي آثار الحراك السلمي هو الشرط الوحيد لسفر الطلاب إلى الخارج. مؤيد عبد الرحيم خريج المعهد التجاري في دمشق لم يشارك في الحراك السياسي ضد النظام. لكن الشركة التي كان يعمل بها قامت بتسريح العديد من موظفيها وخفّضت رواتب الباقين بنحو 40 في المئة. هذه الصيغة قدّمت لمؤيد مسوغات حقيقية للسفر بغرض الدراسة، فاختار روسيا كوجهةٍ له ليختص بالتصوير السينمائي في إحدى جامعاتها. لديه بعض المدخرات المالية التي بمقدورها تمويل مشروعه، فهو لا يحتاج أكثر من 6 آلاف دولار.

أيضاً لم تنفع تبعات الحراك السلمي لأن تكون سبباً يقود فيصل يعسوب، خريج كلية التجارة والاقتصاد قسم الإدارة، للالتحاق بأي وجهةٍ تقوده خارج سوريا. فهو يعتقد كآخرين بأن ما يحدث منذ عامين هو تفريغٌ للكوادر والنخب السورية. يقول: «لم أسافر كغيري للدراسة في الخارج لأن هذا الموضوع يخضع لاعتبارات الدولة المانحة للقبول وقطعاً لا يخضع إلى خيارتي، لدي قناعة بضرورة تواجد كل كفاءاتنا في اليوم الأول الذي سيلي انتهاء الأزمة، لأن مشروع إعادة بناء البلد يتطلب ذلك. كما أن الخطر المباشر لم يطل حياتي حتى أفكر بالسفر».

الخروج بلا الشهادة

الخروج على عجل من الأراضي السورية بلا الشهادة الثانوية أو أي أوراق تثبت وضع الطالب في الدراسة الجامعية هو منغّص حقيقي حال دون إكمال العديد من الطلاب السوريين دراستهم في بلدان الجوار. فراس القاسم واحد منهم. خرج من سوريا بعدما كان يدرس الأدب الانكليزي في جامعة دمشق. يقيم حالياً في مصر، ولا يفكر بالعودة ما دام وضع البلد على حاله. عمليات القتل والقصف العشوائي والخطف في مدينة حمص دفعت بشهاب العمر أيضاً إلى مغادرة البلد وهو في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية في جامعة «البعث»، ليعيش في الأردن. لا يعمل شهاب حالياً، كذلك لم يستطع إكمال دراسته الجامعية. أو البدء بأخرى، ولا يفكر بالعودة بسبب استمرار أعمل العنف وعدم وجود مكان آمن يلوذ فيه، بالإضافة إلى تدفق أعداد كبيرة من المقاتلين مجهولي الانتماء والأهداف إلى مدينته، كما يوضح.

مزيد من هجرة العقول

لا يمر سفر الطلاب السوريين بغرض الدراسة الجامعية في الخارج عبر أقنية وزارة التعليم العالي (باستثناء البعثات الرسمية والتبادل الطلابي) لذا تعوزها الأرقام لتبيان زيادة عدد هؤلاء الطلاب هذا العام من عدمه. لكن جولةً على مكاتب الترجمة في شارع رامي المتاخم لساحة المرجة في دمشق تكفي للخروج بمؤشرات عامة تفيد في هذا الخصوص. وهنا يوضح مكتب «طه» أن زيادةً كبيرة بلغت نحو 70 في المئة على عدد شهادات الدراسة الجامعية التي قام المكتب بترجمتها هذا العام مقارنةً مع حصيلة عدد الشهادات التي ترجمها في العام السابق. كما لمس المكتب إقبالاً شديداً على ترجمة شهادات الدراسة الثانوية عقب صدورها، وبأعداد أكبر بكثير من العام الماضي ومن الجنسين. وحسب ما ذكره فإن أصحاب الشهادات المترجمة يتوجهون لاحقاً إلى دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن ومصر لاستكمال إجراءات القبول الجامعي هناك.

مثل هذه النتيجة خلص إليها مكتب «النصر» الذي لاحظ زيادةً في عدد الأطباء الذين يريدون التخصص في الخارج هذا العام مقارنةً مع العام السابق. أما وجهاتهم الأساسية بحسب المكتب فكانت الولايات المتحدة وبريطانيا. وفيما يخص الطلاب المستجدين في الدراسة الجامعية، فلم يلحظ الكتب زيادة في أعدادهم مقارنةً مع العام الماضي.

وفيما يخص توجه الطلاب السوريين إلى دول المعسكر الاشتراكي السابق مثل روسيا وأوكرانيا بغرض الدراسة الجامعية أو التخصص، فإن مكتب «أبو النواس» لم يجد زيادةً على حركة الترجمة هذا العام مقارنةً مع العام السابق ووصفها «بالطبيعية»، وأوضح بأن الاختصاصات العلمية مثل الطب والصيدلة هما أكثر الاختصاصات التي يختارها الطلاب السوريون في دراستهم داخل تلك الدول. كما أضاف بأن ثمة العديد من مكاتب تسهيل إجراءات القبول الجامعي في روسيا يديرها سوريون. كما أن الوجهة إلى روسيا وأوكرانيا بحسب مكتب «أبو النواس» سببه انخفاض تكاليف الدراسة والمعيشة مقارنةً بدول أوروبا، وكذلك بسبب سهولة الحصول على التأشيرة.

(دمشق)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى