صفحات الثقافة

طلب لجوء/ يوسف وقاص

 

 

أينما أجد نفسي، أنا هناك. أصبحنا كالطيور، الطيور الهاربة وليست المهاجرة. ننتظر شفاعة القدر، لعلّها قريبة، أو بعيدة المنال، لا أدري. اسمي صبيحة العلي وهذه ابنتي إسراء.

أين كنتِ تعيشين؟ في حلب الغربية أم الشرقية؟

حلب كانت كلّها حلب، ثم تقسّمت، تهدّمت، ونحن هربنا إلى تركيا. وبعد إقامتنا الطويلة في الحدائق القريبة من حي أكسراي في إسطنبول، ذهبنا مع آخرين إلى اليونان بحراً وكدنا أن نغرق، ثم قطعنا مقدونيا مشياً على الأقدام وأراضيَ أخرى لا أعرف اسمها، إلى أن وصلنا إلى إيطاليا. مشينا كثيراً، آلاف الكيلومترات، لأكثر من سنة.

تمسك يد ابنتها بقوة وتنكمش على نفسها. القاضية تنادي زميلتها من الباب: جوفانّا، تعالي وانظري، هؤلاء من حلب. تدخل زميلتها وتحدّق بهما بعينيها الواسعتين، ثم تنحني وتقبّل الطفلة التي تلتصق أكثر بأمها. ما اسمكِ؟

لا تتكلم الإيطالية بعد، لقد وصلوا إلى هنا منذ عدة أيام. اقترحت عليهم أن يذهبوا إلى أحد الدول الاسكندنافية، ولكن المترجم يقول إنها علمت من بعض أصدقائها الذين يعيشون في تلك الدول، أن دوائر الشؤون الاجتماعية هناك تخطف أولاد اللاجئين. ربما ينتزعونهم منهم بسبب معاملتهم السيئة للأطفال. إنهم يستخدمون العنف معهم في كل مكان، أحياناً حتى في الشارع، أمام المارّة.

طبعاً، لا يمكن معاملة الأطفال بهذه الطريقة، ثم في نفس الوقت، لا يمكن مقارنة صفعة أو شدّة أذن بالقنابل التي كانت تنهمر على رؤوسهم. يوم أمس أيضاً، بينما كنا نتناول طعام العشاء، عرضوا مشاهد تقشعر لها الأبدان، وزوجي خبط الشوكة على الصحن وقال محتدّاً: أبهذه الساعة ونحن نتناول الطعام!

أسألها أين زوجها؟… هو الآخر شهيد؟! أنا لا أعرف كيف يمكن لهؤلاء النسوة أن يتدبّرن أمرهنّ. ثم لا يُتقنّ أيّة مهنة. أسألها فيما إذا كانت تتقن أيّة مهنة لعلّها تجد عملاً في إحدى التعاونيات.

تطبخ أكلات حلبية وتحضّر جميع أنواع المربيّات… مفهوم، ربّة منزل حبيسة أربعة جدران. وما هي هذه الأطباق؟ فلنر إذا كانت هنالك وصفة يمكن أن أحضّرها لزوجي.

كبّة سفرجلية، كباب الكرز، كباب باذنجان، محشي كوسا، ورق عنب، مقلوبة وكبّة لبنية.

يا إلهي، سفرجل وكرز باللحم؟! بربّكِ هل سمعتِ شيئاً كهذا من قبل، جوفانّا؟ دعينا من الأطباق الحلبية. هل عندكِ هوايات أخرى ما عدا الطبخ؟

حياكة الصوف، التطريز، تحضير كعك العيد والعناية بالأولاد.

حسناً، هل كنت ترتادين الجامع، ومع من؟

أيام الجمعة فقط، وصلاة التراويح أثناء شهر رمضان، مع نساء الحارة. أم عمر كانت تلقي الدروس، وكانت أيضاً مناسبة للبحث عن عروس للشباب.

كنتم تبحثون عن عروس للشباب في الجامع؟ من هم هؤلاء الشباب، هل تعرفين أحداً منهم؟

كلا، شباب الحارة، منهم من كان يشتغل في لبنان ومنهم من أنهى الخدمة العسكرية ويبحث عن شريكة عمره.

أعني هل كانوا متطرفين، ماذا كانوا يعملون؟

كانوا يعملون في ورشات البناء وفي معامل المنطقة الصناعية في الشيخ نجار، ثم بعد أن يجمعوا بعض النقود، كانوا يبنون بيتاً في العشوائيات ويعيشون.

ما هي العشوائيات؟

يعني السكّري، صلاح الدين والأنصاري الشرقي، ولكن كل هذه المناطق تمّ هدمها الآن عن بكرة أبيها، لأنها كانت “مُخالِفة” والناس هربوا ومن بقي مات تحت الأنقاض.

وماذا حلّ ببيتكم؟

دُمِّرَ بصاروخ أرض أرض، صاروخ هائل، أطول من خزان الحمّام.

ما هو خزان الحمّام؟

هو خزان أسطواني الشكل، ارتفاعه مترين تقريباً، يتمّ تصنيعه في معامل العرقوب، ويُستخدم لتسخين الماء في الحمّامات بمدفأة تُركّب في الأسفل تعمل بالمازوت.

وهل يمكن أن ينفجر؟

نعم. انفجر مرّة في بيت الجيران، ومرّة عندما حشاه الشباب بالديناميت ورموه من فوق سطح البناية على الدبابات!

* كاتب سوري مقيم في ميلانو

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى