ديمة ونوسصفحات الثقافة

طلق كذاب’: سوريا المتسللة من كاميرات مدنية/ ديمة ونوس

 

“يروي الفيلم قصة سوريا اليوم. قصة بلد ضاعت ملامح ثورته وتعدّدت الآراء حول ما آلت إليه أحداثها… هو فيلم صوّرته شخصياته، فيلم عن بلد ما عاد يشبه ماضيه ولا مستقبله”. هكذا يختار منتجو الفيلم الوثائقي “طلق كذّاب”، التعريف بفيلمهم الذي لم يعرض بعد. وبغضّ النظر عن تلك المقدمة التي تبدو غير واقعية في مكان ما، إذ لا يمكن لأحد تلمّس مستقبل سورية اليوم، إلا أن الفيلم يقدّم الحياة اليومية لمجموعة من الناشطين السوريين الذين فقدوا فرديتهم وذواتهم وسط مأساة عامة أصابت معظم السوريين ووحّدتهم. الفيلم الذي أخرجه فراس زبيب، بإنتاج مشترك بين مؤسستي “الشارع للإعلام والتنمية” السورية و”مينابوليس” اللبنانية، قد لا يبدو فيلماً مثالياً على الصعيد الفني لكنه فيلم السوريين وعنهم.

يسرق المتفرّج من حياته اليومية العادية، المتوازنة ربما، ليعيش نحو ساعة من حيوات آخرين اختاروا البقاء في الداخل أو بالقرب من الحدود بين تركيا والشمال السوري. آخرون غيّرت الثورة أحلامهم ومصائرهم، غيّبت أحبّاءهم، صنعت لهم حيّزاً بين الحياة والموت يعيشون فيه مطمئنّين. يقول عبد الله الحكواتي الذي أخذ على عاتقه تصوير التظاهرات والاعتصامات في الريف الشمالي بعد خروجه من السجن، إنه في تركيا لا يشعر بالاطمئنان، وإن صديقته تراه أجمل في سوريا. ببساطة لأن في تركيا، لا موت ولا اختبار يومياً للعلاقة مع الغياب. إنها لعبة أيضاً يمارسونها كل لحظة خروج من البيت. عبد الله الحكواتي يقف عند مدخل البيت، يصوّر عبور أصدقائه من رصيف إلى آخر، راكضين، ضاحكين، وقد نجوا من رصاصة قنّاص محتملة.

الفيلم يمشي جنباً إلى جنب مع الثورة، بموازاتها يمشي ويحاول أن يكون أميناً في نقل ما يراه. وهذه النقطة تحسب للفيلم في زمن بات السكوت فيه عن أخطاء الثورة “واجباً” وطنياً لدى الكثيرين. وبات من ينتقد ممارسات الجبهات الإسلامية العديدة، معرّضاً لأصناف لا تنتهي من التخوين والتشكيك والإقصاء بما يذكّر بممارسات شبيحة النظام وأعوانه. لا بل إن الفيلم يذهب إلى أعمق من فكرة البوح هذه. إذ لا يكتفي بالاعتراف بجرائم “داعش”، بل يلقي الضوء على المشهد الذي تغيّبه وسائل الإعلام العربية والعالمية متعمّدة ذلك. ثمة حراك شعبي مدني يقاوم “داعش” ويخرج رغماً عن حصار النظام من جهة و”داعش” من جهة أخرى. ثمة أشخاص علمانيين ومتديّنين يعيشون مع بعضهم البعض، يمتلكون القضية ذاتها، يوحّدهم الموت.

هناك مها التي فقدت زوجها، الناشط المدني مصطفى كرمان، في تظاهرة سلمية تعرّضت لقصف جوي. بالكاد كان قد مضى 15 يوماً على زواجهما، وتحكي عن خوفها من النوم وحيدة بعدما فارقها حبيبها. تنام بجانب أمّها وتمسك يدها طوال الليل. تخاف أن تموت وحيدة. هكذا تقول مها من خلف الدموع والضحك. إنها تبكي وتضحك وتحتار في مشاعرها. وأمّ الصديق الإعلامي عامر مطر، الامرأة الرائعة التي لا يمنعها حجابها التقليدي من الظهور في فيلم والتحدث بطلاقة ومن دون خوف أو ارتباك عن معاناتها. “داعش” خطفت ابنها واعتقلته وما زال غائباً. وهذا حال الكثير من الشباب الناشطين السلميين. تتساءل أم عامر: “حنقدر نجلي أحزاننا مثل ما نجلي صحوننا؟”. وعامر الذي يأخذ الخوف من الموت لديه أشكالاً أخرى. يخاف على أخيه من الموت بالتاكيد، لكنه أيضاً يقول: “كنت كل الوقت خايف انو أخوي ما يكون عندو قبر أمي تبكي عليه”.

الفيلم يقول لنا إن الموت مهما تكرّر، لن يصبح فكرة مجرّدة. وعندما نقرأ عن شاب اعتقلته “داعش”، علينا أن نعرف أن أمّاً من لحم ودم تبكيه الآن في بيتها، وأن من واجب الجميع، اعتبار قضيته قضية فردية، والدفاع عنها على حدة، مثل القضايا الأخرى. لا مجموعة من المعتقلين، سواء في سجون النظام أو في سجون “داعش”. هناك المعتقل فلان والمعتقل فلان، ولكل منهم قصة وعائلة وأم وملامح وطباع ومزاج. ليس الكلّ واحداً.

وعن عنوان الفيلم “طلق كذّاب”، يحكي عبد الله الحكواتي كيف التقى بامرأة حامل في إحدى التظاهرات التي تعرّضت للقصف، وكانت تصرخ أن الطلق أتاها. تحت القصف، حملها مع مجموعة من أصدقائه إلى المستشفى وانتظروها في الخارج للاطمئنان عنها. خرجت بعد قليل ولايزال بطنها منتفخاً. قالت لهم ضاحكة: “طلق كذّاب”.

ليست حلب أو إدلب أو الرقّة وريف دمشق، جبهات قتال خارجة من فيلم أو رواية. إنها مناطق سورية مأهولة، يعيش سكّانها مع الموت، ويلعبون معه. إنها مناطق ثائرة محاصرة من جميع الأطراف. من النظام و”داعش” والصمت المخزي. ذلك الصمت لا يمثله انخفاض عتبة الاحتجاج على ممارسات النظام فقط، بل تبنّي ممارسات “داعش” وتغييب الحراك المدني المستمرّ بحيث تُختصر الثورة السورية اليوم، في معظم الصحافة العربية والعالمية، في الأصولية والإرهاب وخطرهما على أمن المنطقة. الفيلم لا ينفي ذلك الخطر ولا يقلّل من شأنه، لكنه يتسلّل عبر كاميرا عبد الله الحكواتي والإعلاميين عامر وميزر مطر إلى الشوارع الخلفية المغلقة على صراخ المتظاهرين الذين لا يسمع صوتهم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى