صفحات العالم

طوق النجاة العراقي للأسد: تسميته وتجريسه وتشويهه


ديفيد بولوك وأحمد علي

“من اللافت على نحو بارز أنه في الوقت الذي يواصل فيه الرئيس الأسد، الذي أصبح في عزلة متزايدة، قمعه الدموي ضد انتفاضة شعبية، ترمي إليه العراق طوق نجاة.”

والطريق الحيوي — وإن كان منسياً تماماً — لممارسة الضغط على الرئيس السوري المحاصر بشار الأسد إنما يكمن على مرأى من الجميع وهو: قطع أو على الأقل تقليص طوق النجاة الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يربط نظامه بالعراق. إن السعي لتحقيق هذه الغاية ينبغي أن يكون الخطوة التالية لصناع السياسة في الولايات المتحدة.

وحتى على الرغم من قيام أصدقاء الأسد السابقين من العرب والأتراك وغيرهم بسحب دعمهم له رداً على القمع الوحشي الذي تمارسه دمشق ضد المحتجين والإصلاحيين، برز العراق بولائه المستمر للنظام السوري. فعلى الصعيد الاقتصادي، يمارس العراق الآن [صفقات] تجارية كبيرة مع سوريا حيث يبلغ الرقم السنوي ما يزيد عن ملياري دولار. بالإضافة إلى ذلك، يستمر العراق في استضافة أرفع الممثلين الاقتصاديين من النظام السوري ومجتمع رجال الأعمال. وعلاوة على ذلك، يقوم العراق بتمويل سوريا بالنفط الذي تحتاج إليه بشدة. كما وافق في أواخر تموز/يوليو على إحداث توسيع كبير في شبكة خطوط أنابيب النفط (والتي تكلف ظاهرياً عشرة مليارات دولار على مدار ثلاث سنوات) لكل من شحناتها وشحنات إيران من النفط والغاز إلى سوريا ولبنان. كما قيل بأن الحكومة العراقية قد وافقت على تجديد عقود مع سوريا من عهد صدَّام تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات كسبيلٍ لضخ النقد في خزائن المقربين إلى الأسد.

وتبدو أن العلاقات السياسية بين سوريا والعراق هي أيضاً آخذة في التعزز، حيث جرت زيارات على المستوى الوزاري — مصحوبة بصخب إعلامي واسع — في حزيران/يونيو وتموز/يوليو وآب/أغسطس من هذا العام. وفي 25 آب/أغسطس تحدثت الصحيفة البغدادية اليومية الإلكترونية المستقلة “النهرين” في مقالتها الرئيسية بأنه “في أعقاب خطاب [رئيس الوزراء العراقي] نوري المالكي إلى الأسد منذ بضعة أيام”، يقوم كبار المسؤولين العراقيين بــ “زيارات مكوكية بين دمشق وطهران كتحالف أمني ثلاثي بادئ في التبلور. ” ورغم أن التقارير عن هذا التحالف غير مؤكدة إلا أن هناك حقيقة ما في ذلك، بالنظر إلى وجود إشارات أخرى تشير إلى الاتجاه نفسه.

وقد عكس الخطاب الرسمي من بغداد هذا الاتجاه الآخذ في الدفء نحو النظام السوري. ففي أيار/مايو دعا المالكي علناً إلى الإصلاح في سوريا على أن يكون بتوجيه الأسد — كما أنه ظل صامتاً على نحو فاضح تجاه المذابح التي ارتكبتها قوات الأسد. وبحلول منتصف آب/أغسطس، تغيرت اللغة الصادرة من مكتب رئيس الوزراء باتجاه الاتهام الببغائي الشنيع من دمشق وطهران بأن إسرائيل، وليس مواطني سوريا، هي التي تتحمل المسؤولية نوعاً ما عن الموقف الكئيب الذي يمر به الأسد. وقد عبر قادة عراقيون آخرون باستثناء المالكي عن دعمهم لدمشق. وفي آب/أغسطس أرسل الرئيس العراقي جلال طالباني أحد نوابه للتباحث سراً مع القائد السوري بدون أن يعبر عن كلمة نقد واحدة بصورة علنية. وسارعت وكالة الأنباء السورية الرسمية في المتاجرة بهذه الزيارة كعلامة على دعم قاطع من الحكومة العراقية. وأما زعيم حزب “العراقية” أياد علاوي فقد طالب في مقال رأي في صحيفة “واشنطن بوست” [بتقديم] دعم أمريكي أكبر للديمقراطية العربية (متحسراً على انشقاقات المالكي في هذا الصدد) ولم يذكر قط معارضة العراق نفسه للديمقراطية في الدولة المجاورة سوريا.

ولقد ميز العراق نفسه باعتباره الأسوأ، مقارنة بتركيا، فيما يتعلق بضحايا القمع السوري. ففي حين ترك الأتراك حدودهم مفتوحة أمام اللاجئين السوريين الفارين من غارات الأسد المتميزة بالنهب والسلب، أغلقت بغداد حدودها. وأخفق العراق أيضاً في محاكاة جارته تركيا حول دعوة المنشقين السوريين إلى تنظيم أنفسهم على أراضيه أو الظهور على محطاته الفضائية أو اللقاء مع مسؤوليه. وعلى عكس القادة في تركيا، فضلاً عن الرياض وعواصم إقليمية أخرى، لم يعبّر كبار القادة في بغداد عن نفاد صبرهم من القمع الدموي الذي يمارسه الأسد.

عامل إيران

هناك ضغوط مكثفة من جانب الإيرانيين تقف وراء موقف بغداد تجاه سوريا. فعلى سبيل المثال، كثفت إيران مؤخراً من قصفها للمناطق الحدودية العراقية في الشمال.

وفي حين كانت التصرفات من هذا القبيل موجهة في الظاهر ضد حفنة من المتمردين من “حزب الحياة الحرة” في كردستان إلا أنها تؤشر في الواقع على قدرة إيران على معاقبة العراق و”حكومة إقليم كردستان” إذا إما انحرف إحداهما بعيداً عن تفضيلات سياسة طهران. ومما يعزز هذه الفرضية أنه في 5 أيلول/سبتمبر رفضت إيران على الفور عرضاً بوقف إطلاق النار من “حزب الحياة الحرة” في كردستان، ورداً على ذلك، يقال إن رئيس “إقليم كردستان” العراق مسعود برزاني قد ألغى في 7 أيلول/سبتمبر زيارة لطهران. وعلى الصعيد الغربي، حذرت صحيفة إيرانية كبرى في 29 آب/أغسطس من أن سوريا يمكن أن تُصدِّر “الحرب” لجيرانها لو تحولت تلك الدول ضد نظامها. وفي اليوم نفسه حذرت صحيفة طهرانية أخرى من أن المسلمين سينزلون إلى الشوارع احتجاجاً على [أية] حكومة تتخلى عن الأسد. وحتى أكثر شؤماً هو أن الزعيم الشيعي العراقي المتطرف المتحالف مع إيران مقتدى الصدر قد أعلن في أواخر آب/أغسطس أنه يقف الآن ضد الدعوة لاستقالة الأسد “من قبل ‘زعيم الشر’ أوباما وغيره.”

إن مثل هذه التهديدات من الخارج والداخل هي فعالة لأن العراق ضعيف وغير مستقر ومشغول بمشاكله الداخلية الخطيرة، وبالطبع موقعه بين إيران وسوريا. وبالتالي تسود مخاوف عراقية من الضغط من قبل إيران لدرجة أن كثيرين من المسؤولين العراقيين يخشون سراً من أنه لو سقط الأسد فسوف تضاعف طهران من تدخلها في الشؤون العراقية تعويضاً عن خسارتها لحليفها السوري. وكما قال المحلل السياسي البغدادي إحسان الشمري “إيران التي تدعم النظام السوري هي اللاعب الرئيسي في العراق، ومن ثم فإن اتخاذ موقف مختلف … قد يؤثر سلبياً على الكثير من الملفات المشتركة بين العراق وإيران.”

عوامل أخرى

وخلافاً لنفوذ إيران، هناك عوامل عدة تساهم في موقف العراق الشاذ الموالي للأسد. إن العوامل الأكثر حميدة هو القلق على مصير أكثر من مليون عراقي لاجئ لا يزالون في سوريا. وعامل آخر هو الدَيْن الشخصي الذي يدين به كل من المالكي والطالباني للنظام السوري لإيوائهم أثناء فترة صدام. والأكثر جوهرية، ربما تكون المخاوف العراقية من أن الأسد ربما يمارس قدرته الواضحة، حتى في الوقت الحالي، لإرسال المزيد من إرهابيي البعث و تنظيم «القاعدة» وغيرهم إلى العراق لو تحولت بغداد ضده. ويخيم على المشهدَ كله غموض بشأن ما قد يحدث بعد سقوط الأسد، بما في ذلك احتمال قيام حملة انتقام عبر الحدود لو ساد نظام يهيمن عليه السنة.

ومع ذلك، فإن الشعور الفعلي من جانب القادة والمواطنين العراقيين يكشف انشقاقاً محتملاً من خلال التصريحات العلنية الخارجة من بغداد. فالكثير من العراقيين يشجعون بهدوء الشعب السوري في جهوده ضد نظام الأسد. وفي محادثات شخصية مع كتاب هذه المقالة جرت في الولايات المتحدة والعراق، لا يوافق كبار المسؤولين العراقيين بشدة مع دعم حكومتهم للأسد.

وفي أوائل أيلول/سبتمبر، كانت بعض هذه الانقسامات حول القضية السورية قد بدأت تظهر على السطح حيث أتت الآراء المعادية للأسد في الغالب من جانب حفنة من القادة العرب السنة. فعلى سبيل المثال، إن النائب البارز أسامة النجيفي الذي زار رسمياً دمشق في الآونة الأخيرة في شباط/ فبراير الماضي وقام بمغازلة القادة السوريين، يشجب الآن أعمال القمع التي يقوم بها الأسد. وفي 12 آب/أغسطس، دعا رئيس “الوقف السني” في العراق “الجيش السوري للتوقف عن قتل أبناء وطنه.” وقد رددت بضعة شخصيات سنية عربية أخرى علناً هذه الرسالة. وفي 7 أيلول/سبتمبر، تحدث السياسي العراقي المنشق مثال الألوسي بصورة أكثر حدة متهماً الحكومة العراقية بدعم نظام الأسد سراً.

ومثل هذه الأصوات قد تكون جديدة في الظهور، لكنها ليست الوحيدة. ففي أيار/مايو، الماضي كشفت نقاشات مستفيضة أجراها الكاتب بولوك في زيارته لـ “كردستان العراق” عن الأمل الشخصي لمعظم القادة بسقوط الأسد. كما أصبحت الآراء المخالفة داخل مجلس الوزراء العراقي نفسه، صريحة بما يكفي بحيث أنه في 24 آب/أغسطس وصل الأمر بالرئيس طالباني إلى الإعلان عن “أمنيته بأن يوحد الإخوة الوزراء تصريحاتهم” لتجنب حدوث “ضجة” مع أيٍّ من جيران العراق. وتوفر الانقسامات الموضحة هنا بالضبط الأساس لبداية تقليص طوق النجاة العراقي للأسد.

دلالات السياسة الأمريكية

باعتراف الجميع، يأتي هذا اللغز في العلاقات العراقية السورية في لحظة حساسة للغاية، حيث تحاول الولايات المتحدة والعراق التفاوض على شراكة أمنية جديدة في ظل الموعد النهائي لانسحاب جميع القوات الأمريكية في نهاية العام الحالي. وتتردد الولايات المتحدة على نحو يمكن تفهمه في زيادة العبء على حزمة مطالب خطرة بالفعل فيما يتعلق بسوريا. وعلاوة على ذلك، أصبح من الواضح أن سياسة العراق الخارجية بوجه عام سوف تستقل بذاتها من الآن فصاعداً.

مع ذلك، فإن السبب في دفع العراق للتراجع عن دعمها لسوريا ليس معدوماً. فعلى نحو متكتم ولكن نشط، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين تكوين مجموعة ضغط مع نظرائهم العراقيين لإبعادهم على الفور عن الدكتاتور السوري. وينبغي أن يركز هذا الجهد أولاً على أولئك المسؤولين المعروفين سراً بتقبلهم لمثل هذه الرؤية. بالإضافة إلى ذلك، يجب على واشنطن الحصول على دعم تركيا ودول الخليج العربية، لا سيما وقد تكون البعض منها مستعدة لتعويض الخسارة في التجارة العراقية مع سوريا. وأخيراً، ربما يتم تعطيل خط أنابيب النفط العراقي إلى سوريا، وقد تعرّض بالفعل للتخريب على الأقل مرة واحدة في 12 أيار/مايو.

وباستشراف المستقبل قليلاً، ينبغي على الولايات المتحدة أن تحاول جعل القادة العراقيين يتصلون مع شخصيات في المعارضة السورية، في حين ربما يجدر الملاحظة بأن إيران تفعل الشئ نفسه كما أُفيد. ورغم أن الدعم الرسمي العراقي للعناصر المعادية للأسد هو أيضاً أمر بعيد المنال ومن المستبعد تخيل تحققه في أي وقت قريب، إلا أن هذه الاتصالات قد تساعد على الأقل على تبديد المخاوف العراقية إزاء دلالات التحول إلى موقف أكثر حيادية في الوقت الراهن. كما ليس من السابق لأوانه الإشارة إلى أن دعم الولايات المتحدة لتأمين الحدود العراقية مع سوريا في حقبة ما بعد الأسد ينبغي أن يصبح جزءاً من المناقشات الحالية حول التعاون الأمني على المدى الطويل.

ديفيد بولوك هو زميل أقدم في معهد واشنطن يركز على الحراك السياسي لبلدان الشرق الأوسط. أحمد علي هو باحث مشارك في زمالة مارشيا روبينز- ويلف في معهد واشنطن ويركز على السياسات العراقية.

(معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى