صفحات العالم

طوِّل بالك يا شعب سورية

 


خضير بوقايلة

مرة أخرى يخطئ رئيس عربي آخر في التوقيت وفي استيعاب ما يجري حوله. الرئيس السوري بشار الأسد سكت شهرين ثم خرج على الناس بخطاب أقل ما يقال عنه أنه فارغ ومستفز. حتى الناطقون باسم النظام عجزوا عن إعطاء الخطاب أكثر من جرعة معينة من الإيجابية، وقد نشرت وكالة الأنباء السورية أمس تقريرا شمل آراء النخب في كامل المحافظات وكانت هذه مقدمته: (أكدت مجموعة من المثقفين والأكاديميين والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية أن السيد الرئيس بشار الأسد قدم من خلال الكلمة التي ألقاها على مدرج جامعة دمشق أمس تحليلا دقيقا للأحداث التي تشهدها سورية وأعطى تصورا وطنيا للتعامل معها). هل هذا هو ما يحتاجه السوريون الآن، التحليل الدقيق للأحداث والتصور الوطني للتعامل معها؟ هل كان السوريون الذين يحترقون منذ ثلاثة أشهر وبلدهم على كف عفريت ينتظرون من رئيسهم أن يطلع عليهم بعد شهرين من الصمت المطبق وسقوط عشرات المئات من القتلى ليحلل لهم الوضع ويعطيهم تصورا لمستقبل البلد؟

الرئيس بشار اعترف بنفسه أنه تأخر في الكلام، لكنه برر ذلك بكونه لم يكن يريد الحديث عما سينجزه بل عما أنجزه، أي أنه انتظر حتى تكتمل إنجازاته ليحدث الناس عنها. فما هي هذه الإنجازات يا ترى؟ تابعت الخطاب كغيري من المهتمين وأعدت ذلك بقراءة متأنية بحثا عن الإنجازات، فكان هذا ما وجدت أنقله حرفيا: (وبدأنا بحل هذا النوع من المشاكل)، (وبدأنا بحل هذه المشكلة)، (وسنقوم بحلها نهائياً)، هل أنجز شيء؟ أم أن الإنجاز الذي استحق خروج سيادة الرئيس ليتحدث عنه هو البداية بحل هذا النوع من المشاكل والعزم على حلها حلا نهائيا مستقبلا؟

البلد يغلي والفساد مستشر باعتراف الرئيس نفسه والظلم الذي يعانيه المواطن من المحيط الرسمي أليم ومتواصل والرئيس يؤمِّن على هذا أيضا مثلما يقر بأن الذي دفع الناس إلى قلب البلد بمظاهراتهم واحتجاجاتهم هو هذا الحيف الذي يعيشه عامة الناس طيلة عقود طويلة، أما رد الرئيس العملي على ذلك فكان وعدا بأنه سيطلب (من وزارة العدل أن تقوم بدراسة ما هو الهامش الذي يمكن أن نتوسع به في العفو) عن الأعداد الهائلة من الذين يقبعون في السجون بغير وجه حق. ماذا أيضا؟ وعد أو إنجاز آخر ورد بهذه الكلمات: (لا بد إذاً من العمل فوراً لتعزيز المؤسسات بالتشريعات المتطورة وبالمسؤولين الذين يحملون المسؤولية). أما عن محاربة الفساد فإن الإنجاز هو أن اللجنة المشكلة لهذا الغرض قد انتهت مؤخراً من دراسة آليات عمل هيئة مكافحة الفساد. لاحظوا أننا لم نصل بعد إلى تشكيل اللجنة ولا إلى بدء عملها فمتى إن شاء الله يتلقى الفساد أول ضربة ومتى يقبض على أول فاسد؟

أما الإنجاز الأعظم الذي كان الرئيس يعكف على بنائه طيلة الشهرين الماضيين فهو (فكرة إطلاق حوار وطني تشارك فيه أوسع الشرائح الاجتماعية والفكرية والسياسية في القطر) والعمل الآن جار من أجل (وضع الأسس والآليات الكفيلة بقيام حوار شامل لمختلف القضايا التي تهم جميع أبناء الوطن). لا شيء مستعجلا في سورية الأسد، فهو رئيس لا يحب التسرع أبدا ويرفض العمل تحت الضغط والأهم بالنسبة إليه هو أن تكون هناك النية للعمل والإصلاح.

فإلغاء قانون الطوارئ اتخذ سنة 2005 وأنجز سنة 2011، ولكم أن تتوقعوا متى تنتهي هيئة الحوار الوطني من عملها ومتى تتخذ توصياتها طريقها إلى الإنجاز. سيادة الرئيس أعطانا في خطابه بعضا من الجواب عندما قال: (وسيكون من أولى مهام هيئة الحوار الوطني التشاور مع مختلف الفعاليات من أجل الوصول للصيغة الأفضل التي تمكننا من تحقيق مشروعنا الإصلاحي ضمن برامج محددة.. وآجال محدودة). الهيئة أعلن عن تشكيلها منذ أسابيع طويلة لكنها بدل أن تنطلق في عملها وتتقدم في رواق الإنجازات قررت عقد اجتماع تشاوري، متى؟ لا أحد يعلم والرئيس نفسه يعتقد أنه سيكون خلال الأيام المقبلة، وبعدها (متى؟ بالضبط؟) يبدأ الحوار مباشرة، ليستمر شهرا أو شهرين.

البلد يغلي والناس يموتون بالمئات ومصالح الناس متوقفة كليا تقريبا، ومع ذلك لا يبدو المسؤول الأول عن البلد مستعجلا في شيء رغم أنه يقول إنه التقى أطيافا واسعة من المواطنين خلال شهري الصوم عن الكلام الماضيين استمع خلال تلك الفترة إلى هموم وانشغالات ومطالب الناس وفهم منهم ماذا يريدون وماذا ينتظرون من حكومتهم. وبدل أن يعلن عن قرارات عملية تلبي هذه المطالب فضل أن يترك ذلك للجان المختلفة، والخوف كل الخوف أن تختلط الأمور على هذه اللجان وتتداخل المهام والمواعيد فيدخل المشروع الإصلاحي العظيم في متاهة أخرى. لجنة قانون الانتخبات أنهت عملها وسيادة الرئيس يعتقد (أنه سيكون قانوناً هاماً)، لجنة مكافحة الفساد ستقترح قانونا، وبعد أن يكون مشروع القانون جاهزا سيطرح على النقاش العام للأخذ بالملاحظات قبل إصداره.

قانون الإدارة المحلية فلقد تم إعداده كمشروع وهو قيد النقاش. أما الحديث عن الدستور وتعديله أو تعويضه بالكامل فتلك متاهة أخرى لم يتوان الرئيس عن الدخول في تفاصيلها، ولعل نهاية العام ستكون موعدا مقبولا لتجسيد هذا الإنجاز. نعم إنها ستة أشهر كاملة والبلد يعيش ظروفا غير طبيعية وإن شئنا نزيد عليها مؤامرة كبرى تحاك في مخابر أجنبية وتنفذها أياد محلية. كل هذا لا يهم لأن (ما نقوم به الآن هو صناعة المستقبل وصناعة المستقبل ستكون في المستقبل عبارة عن تاريخ.. هذا التاريخ أو المستقبل الذي نصنعه الآن سيؤثر على العقود أو الأجيال المقبلة لعقود قادمة)، الأمر ليس بهذه البساطة إذن، ولو كان لي الحق في تقديم النصح لطلبت من الرئيس بشار أن ينتظر وقتا أطول ريثما تكبر الأجيال المقبلة لتقرر ماذا يليق بها وإن شاءت أن تنتظر هي الأخرى عقودا أخرى لتنمو الأجيال اللاحقة.

الرئيس الأسد في خطابه اعترف أيضا أن اللقاءات التي جمعته بأطياف المواطنين في الفترة الأخيرة هي (أهم عمل قمت به خلال وجودي في موقع المسؤولية) منذ إحدى عشرة سنة، لكن ذلك على أهميته لم يتح له اتخاذ قرار يساعد على تخفيف الاحتقان الموجود في البلد، فالمستعجل الآن هو وضع حد لمسلسل الموت والقتل الأعمى الذي يتعرض له المواطنون ومحاسبة المسؤولين عن ذلك. الكثير من السوريين الذين علقوا على الخطاب استاءوا إلى أن رئيسهم لم يتحدث صراحة عن المدنيين الأبرياء الذين قتلوا أو عذبوا غدرا دون أي جرم ارتكبوه، كل ما قاله هو وعد (آخر) بملاحقة ومحاسبة كل من أراق الدماء أو سعى إلى إراقتها، وإذا قلتم إن الأمر تأخر كثيرا فاطمئنوا إلى أن ذلك ليس معناه (التسويف ولا يعني التساهل)، لكن حتى هذا الوعد جاء مبهما ولا يفهم منه إرادة في الاقتصاص من قتلة الشعب، بل يوحي إلى أن المقصود هم المندسون والتكفيريون الذين ظهروا فجأة وشرعوا في قتل الناس.

الرئيس وجه نداء إلى أبناء وطنه الذين فروا إلى تركيا ليعودوا مطمئنين إلى أن الجيش عندما تحرك إلى قراهم إنما كان لحمايتهم وضمان أمنهم. لا أعتقد أن أحدا سيستجيب لذلك، والمشكل ليس في الآلاف الموجودين على الحدود مع تركيا، بل ماذا عن الذين خرجوا عبر المطارات والحدود البرية الأخرى وماذا عن الذين يوجدون في الخارج والذين ألغوا جميع مخططات عودتهم إلى البلد نهائيا أو لقضاء إجازة الصيف وما أعدادهم؟

إنجاز آخر يمكن أن نحسبه للرئيس في خطابه هذا، وهو أنه لم يطلق العنان لضحكاته الشهيرة، كنت أتوقع أن يستمر دون ضحك إلى آخر الخطاب لكنه سمح لنفسه بذلك مرتين، والمرتان خير من عشرة وأكثر.

كل هذا والعالم لا يزال يلح على الرئيس بشار أن يباشر الإصلاح قبل أن يفوته القطار، ألم يفت بعد؟ وهل قادة تركيا والآخرون جادون في أملهم أن يأتي النظام الحالي في سورية بإصلاح؟

‘ كاتب وصحافي جزائري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى