صفحات الرأي

طيف جوليان أسانج يُلهِم حركات المجتمع المدني المسالمة/ جوان برانكو

 

 

يلاحق البنتاغون منذ 4 سنوات، جوليان أسانج، المحتجز في لندن غير بعيد من محال هارودز. ويعمل في واشنطن 250 شخصاً، يومياً، في سبيل كفّ ضرره. وأنفقت حكومة لندن، 6 ملايين جنيه استرليني على مراقبته. فأحاطت غرفته بأجهزة إلكترونية تتجسّس على حركاته وسكناته. وقبالة غرفته، يتولّى رصده رجل وراء عدسة تصوير تعمل بالأشعة دون الحمراء. وعلى مدخل المبنى الذي ينزل أسانج في إحدى شققه، يقف شرطي يتنسم الرائح والغادي من غير أن يبدو عليه ذلك. ويتجوّل في سيارات مموّهة الزجاج، مئات الموظفين الأمنيين على أهبة الاستعداد للقفز خارج سياراتهم إذا دعتهم الحاجة الى حشر الرجل المتخفّي والمتجرّد من حضور جسدي. وهذه الحال، الإفراط في المراقبة والتجرد من الحضور، ليست أقل المفارقات التي تكتنف الرجل. فجوليان أسانج مواطن أسترالي، يبلغ الثالثة والأربعين، حُرم من جواز سفره منذ 3 أعوام، ومن الرعاية القنصلية وحرية التنقل. فهو ليس ميتاً على وجه الدقة، وليس حياً. وعزم على قضاء مطهره في قلب عاصمة المال، على بعد أمتار من رمز عولمة عشوائية أمسى هو أحد أبطال نقيضها الأكثر شهرة.

فمنذ 19 حزيران (يونيو) 2012، في أعقاب إدانات قضائية تلفّظت بها محاكم سويدية، تقلّص مداه الحيوي الى 30 متراً مربعاً تحميها حصانة ديبلوماسية منحته إياها سفارة الإكوادور. فهو يقيم في شقة متواضعة مؤجرة، شحيحة الضوء. ويقتصر انتقاله على 3 مواضع: شرفة لا يجرؤ على الخروج إليها بعد تواتر التهديد، وتقوم على زاوية شارع هارودز وزقاق مظلم، وحجرة فيكتورية، الشرفة جزء منها، تتوسط جدرانها نوافذ بيضاء عريضة، الى زاوية الطبقة الأرضية ذات الواجهة المبنية بالآجر الأحمر؛ وغرفة أخيرة في آخر الشقة، مستترة بعض الشيء، أمضى فيها الأشهر الأولى من حبسه. وهو حسب أن الشقة كفيلة بحجب أنشطته الخاصة، بمنأى من المدخل وضوء الشمس، ولكن لم يلبث الافتقار الى النور أن ظهر تأثيره.

وحين استقبلنا للمرة الأولى، بعد ظهر يوم ممطر، كان جوليان أسانج جالساً في الحجرة الأولى، وعلى رغم الساعة المبكرة، بدا التعب جلياً على المكان. فثمة حواسب مفككة ومبعثرة، وهاتف مشفر، وزينة قليلة، ومكتبة تحتشد فيها كتب بلغات متفرّقة. فجلس على مقعد جلدي قاني الحمرة، وهو مقعده منذ 650 يوماً. يجلس فيه على نحو يشبه الانهيار، من غير الظهور بمظهر المغلوب، كأنه يترك نفسه فجأة ويخلي بينها وبين تنفّس عميق انتظره وقتاً طويلاً. ارتمى في المقعد ثانيةً، وأثبت نظرته في محدّثه وسكت.

بعد مدة قصيرة أثنى عليه الجميع فيها، غدا الرجل موضوعاً سجالياً، عكراً ومقلقاً. فاتُّهم تهمة تقليدية هي تهديد الأمن الداخلي وتعريض أفراد للخطر والخيانة. وبقيت التهمة من غير إثبات، ولم تضعف هالته. ولقيت أفكاره صدى مواتياً وما يقرب من الإجماع على صدقها. وبعض من يسمّون عادة «رجال دولة»، أعربوا عن تحفّظهم، شأن أوبير فيدرين الفرنسي. وهؤلاء يتمتعون بالثراء والنفوذ، وكانوا من أوائل الطاعنين في صدق أسانج. ومنذ 2010، ملأوا الإعلام احتجاجاً على ديكتاتورية الشفافية التي يدعو إليها هذا المعتوه وفق زعمهم، وندّدوا بمقدمات الكليانية (التوتاليتارية) المتمادية. وسرعان ما تهاوت هذه المطاعن. فالأنظمة الكليانية تزاول التخفّي والاستتار الصفيقين فوق غيرها من الأنظمة، وتقسر مواطنيها على الكشف عن وقائع حياتهم العامة والخاصة كشفاً متعنتاً. ولم ينتبه المنددون والطاعنون الى أن «ويكيليكس»، ومن بعدها إدوارد سنودن، يخوضان حرباً على الكليانية لا هوادة فيها، ويقلبان مقدماتها رأساً على عقب. فهما جبها الرقابة الجماهيرية وديكتاتورية الشفافية التي تتوسل الى أغراضها بالشبكات الاجتماعية وعمالقة الإنترنت، ورفعا سدوداً عنيفة، على رغم ضعفها، في وجه هذه القوى وأصحابها.

أسانج قليل الكلام على هؤلاء. يراهم موظفين عاملين في مشروع يتعداهم، وقد لا يعلمون ذلك. نضاله تبلور تدريجاً، بعد أعوام من العمل، والاكتشافات داخل دائرة سياسية جديدة هي الإنترنت. والمفكرون الذين ألهموه، شأن بيري بارلو (أصدر في 1996 «إعلان استقلال الفضاء السيبيري»، وكان قبلها كاتب أغاني فريق «غريتفول ديد»)، تنبهوا الى احتمالات الإنترنت الديموقراطية، والى مكامن خطره، في آن. وحملتهم خشيتهم (من) احتكار الدول والشركات الكبيرة التحكّم بالشبكة العنكبوتية، على دعوة المواطنين الى التعبئة وحماية استقلالها. وكان في مقدور أسانج، التقني البارع، أن يجني ثروة من براعته التقنية، لكنه سلك طريقاً أخرى سلكها في فرنسا فريقا «تربيع النت» و»أبريل».

فمضى بضع سنوات في التمرين على استعمال الحاسوب، ودين بسرقته كلمة سر يستعملها البنتاغون. وفي ختام هذه السنوات، قرّر خدمة الأفكار التي نادى بها من سبقوه سناً وتتلمذ عليهم. وفي منتصف التسعينات، ابتكر نظام تشفير يسعه حماية المنشقين والمحامين عن حقوق الإنسان في أنحاء العالم. وهو أوجز مهمته بكلمات قليلة لم يحد عنها: تمكين الأفراد من مقاومة القهر الذي يحتمل أن تزاوله الدول والمصالح الخاصة. فجوليان أسانج يعتبر الإنترنت أداة ديموقراطية وتحرّر عظيمين، ويريد أن يضطلع بهذا الدور. ووضع مهارته وموهبته في خدمة هذا الغرض. وليست «ويكيليكس» إلا من ثمرات هذه الإرادة، ولا محلّ للدولة في مسعاه أو مساره.

وعلى رغم فضول مدير مجلس إدارة «غوغل» الذي تحدّث إلى الرجل ساعات، لا يشارك أصحاب النفوذ والسلطة أسانج طموحه. فعوائد الشركات الكبيرة التي فرضت مثالاً إدارياً مركزياً على الشبكة – من «غوغل» الى «فايسبوك» وبينهما «أمازون»- تقوم على معرفة دقائق حياة المشتركين والمستعملين، وعلى مبادلتها مالياً. وتصريحات مارك زوكربيرغ، مؤسس «فايسبوك»، وغيره من مسؤولي «غوغل»، في نهاية الحياة الخاصة وأفولها، تصدر عن شاغل تجاري واقتصادي، ولا مسوغ فلسفياً أو إيديولوجياً لها. وشاغل أسانج هو التخطيط لتحرير «الإنسان الرقمي» من تضافر رقابة الدولة والشركات الكبيرة.

وأظهرت التبرعات التي تدفقت على فريق أسانج – بعملة البيتكوينز لدى خطوها خطواتها الأولى في 2011، وقبل أن تبلغ قيمتها ملايين اليورو أو الدولارات- أن ميزان القوى بين الشركات الكبيرة والأفراد ليس ثابتاً، وفي مقدور الأفراد تغييره أو تعديله. وأتاحت التبرعات لـ»ويكيليكس» أن تصمد وتتغلب على حصار كان أودى بغيرها. وأيقن أسانج أن صمود فريقه وعمله قرينة على تحوّل عميق يهدّد السلطان السياسي القائم، وليس هو إلا من نذره وعلاماته. وانقلبت معركة الولايات المتحدة وحلفائها من صراع الأفكار الى اضطهاد لـ»الأجساد». وانصرفت عن «ويكيليكس» الى جوليان أسانج، الباعث على القلق والآتي من عصر ما بعد الحداثة.

فأُصلي حملات تفتيش طاولت حقائب سفره، وتعقبته الأجهزة بواسطة الأساور الإلكترونية، وقُسر على المنفى في سفارة بلد أجنبي. وذاعت التقصيات عن ماضيه: فهو والد طفل رزقه شاباً يافعاً، ولم يخل شبابه الأول من عثرات أليمة «عوضها» انخراطه العام و«المشبوه». وهو يزاول الملاكمة يومياً، رداً ربما على حصاره. ولا يلبث رهاب الأماكن المغلقة أن يدرك الزائر، وحين دعانا مضيفنا الى البقاء، اعتذرنا وتعللنا بالحاجة الى المغادرة بعد 3 ساعات فقط انقضت على قدومنا. وحالت السلطات السويدية، غداة إذاعة البرقيات الديبلوماسية الأميركية، دون خروج أسانج من ملجئه. وفتحت تحقيقاً جزائياً في حقّه، متذرّعة بشكوى تقدّمت بها امرأتان في قضية حميمة، لكنهما لم ترغبا في رفع دعوى عليه. وخيِّل للمراقبين والجمهور، أن إجراءات التضييق كفيلة بردع من قد يريد السير على طريق أسانج. ولم يلبث إدوارد سنودن أن كذّب هذا الحساب.

ما حسبناه في بداية اللقاء إرادة سيطرة على النفس وتوتراً وتعالياً، تكشّف تدريجاً عن حياء وخجل. وحين أدرك أن زواره أصدقاء، أخرج من علبة أحذية بعض الرسائل الغريبة التي بلغته. واستحسن من بينها رسالة حب كتبها إليه زوجان وقالا له فيها إنه حبيبهما المكتوم، ويرغبان في الحياة معه. وسرعان ما قطع روايته وعرض الرسائل على زواره خشية الملل. فهو حبيس وحدته منذ 3 سنوات، ويتحاشى الإطالة، ويحسب أن حوادث حياته، وهذه حاله، خالية من التشويق. لكنه يتمسّك بزواره، ويريد مبادلتهم كلاماً لا طائل منه. يُخرج رسالة طريفة أخيرة من علبته، ويتقاسم هذه البقية الباقية من عالم فعلي انقطعت روابطه به، واضطر مرغماً الى اقتفاء آثاره بواسطة شاشات الحواسيب المحمولة.

وحين حسِب أهل السلطة الذين لم يكفوا عن تعقبه، ولا عن مصادرة حواسيب أصدقائه ومحاميه وأنصاره وهواتفهم، واطمأنوا الى خنق صوته وانتصارهم في حربهم عليه، ظهر أن أسانج تحول علماً على عدد من حركات الاحتجاج المولودة من المجتمع المدني مثل الغاضبين في إسبانيا، و «ويكيليكس» و «أنونيموس»، وإدوارد سنودن، والبيتكوين، وبعض القضاة الذين يتقدمهم بالتاثار غارثون، وغيرهم من كوكبة تيارات مسالمة تمزج الرأي السياسي بالمهارات التقنية، والخبرة بالنضال، وتتحلّى بطاقة غنية على الإخلال بالتوازنات المنكمشة والعقيمة.

* حائز دكتوراه في الحقوق من مدرسة المعلمين العليا، كاتب «النظام والعالم. نقد المحكمة الجنائية الدولية» (2015)، عن «اسبري» الفرنسية، 1/2015، اعداد منال نحاس

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى