صفحات الحوار

عاصم الباشا: الشكل الإبداعي يتطلب أن نعارض كل ما هو قائم

ديمة ونوس
بعد عودته نحت «الشهيدة» و«المعتقل» و«ثلاث نساء في حالة حداد»
كيف يمكن منحوتات صامتة، أن تروي حكايتها، تاريخها، التجارب التي مرت بها؟ كيف يستطيع النحات أن يختزل تجربة حياة وخيبات قاسية في نظرة امرأة من الصلصال؟ وشفتين تستسلمان بتعب. وفم ضجران من الكلام لمجرد الكلام. عاصم الباشا، لا يكتفي بنحت العين، بل ينحت بريقها أيضاً. البريق ينتمي إلى الروح. والروح تتدفق في منحوتاته مع أنها تناقض جوهر تلك المنحوتات الصامتة. عاصم يستنطق الحجر والصلصال والبرونز والحديد والخشب. عاصم يعود إلى سوريا في الوقت الذي غادرها ويغادرها كثيرون. عاد إلى «يبرود» ليستنطق ربما ذلك الجوهر الصامت، الراكد، المستسلم والذي يبدو لوهلة أنه فرحان باستسلامه. عاد إلى هناك، ليعيش، ويتنفس ويتفرج ويحمي ذاكرته، ذاكرة جيل ظنّ أنه لن يتنفس من جديد. أو أنه في زحمة الحياة والمشاغل نسي كيف يمكن المرء أن يتنفس.
قبل عام ونصف، أقمت معرضاً في دمشق بعد غياب طويل. هل لاحظت تغييراً جوهرياً في بنية الشارع السوري؟
أجل، كان معرضي في صالة «تجليات» الدمشقية منذ سنة وثلاثة أشهر، وقد فوجئت بالصدى الذي أحدثه وإقبال الشباب عليه ومحاولتهم التواصل معي. الأمر الذي دفعني إلى طلب تنظيم لقاء مفتوح في الصالة ذاتها. وقد تجاوب الشباب، ومعظمهم من طلبة كلية الفنون أو متخرّجيها، مما جعلنا نعلن عن لقاء ثان بعد أيام. ثم توالت اللقاءات في دمشق وبلغت خمسة حضرها لفيف من الأصدقاء القديرين من أمثال يوسف عبدلكي وإدوار شهدا ومي سكاف ومنير الشعراني بين آخرين. (تصوّري أن الصديق نزيه أبو عفش حضر اللقاء، وهو المعروف بتجنبه لنشاطات مماثلة!). لم أكتف بذلك وطلبت تنظيم لقاء سادس في «نقابة الفنون» في مدينة حمص.
في كل هذه اللقاءات والحوارات لمست بعمق وجلاء مدى تشوّق الشباب لإيجاد السبيل. شعرت بالتيه الذي يعيشونه وكيف أن أجيالاً تخرّجت من كلية فنون لا تقدّم كثيرًا، لأن الكادر التعليمي بغالبيته عاجز وغير مؤهّل. بالمناسبة لم يزر معرضي من جملة الكادر التعليمي للنحت سوى الأستاذ عبد الله السيّد، وهو من القدامى.
وبعد عودتك، هل عثرت على لغة مشتركة بينك وبين جيل الشباب؟ هل ثمة فرق بين جيلك وجيلهم؟
بمقدور المرء تلمّس مشاغل الشباب من خلال أسئلتهم وقلقهم، وقد تبيّن أن معظمهم لم يستوعب ماهية المجال الابداعي، فكنت أركّز في حديثي على أهمية اغتراف المعرفة وكيف أنه لا يمكن أن تنحت أو ترسم شيئًا جيدًا ما لم تقرأ الفلسفة (وقد بدأت بقراءتها في الرابعة عشرة من عمري، وما زلت) والشعر والتاريخ والآداب عمومًا، ما لم تحاول تذوّق الموسيقى الكلاسيكية ما لم تتعامل مع المسرح والسينما والرقص، ما لم تحاول استيعاب ما في الفلك وباقي العلوم دون أن تنسى، وقبل كل شيء، هموم بقّال الحارة وكل من حولك. كنت أحكي لهم كيف كانت همومنا الثقافية واسعة أيام الدراسة، نتبادل الكتب والأسطوانات ونتحايل على الشرط المادي لمشاهدة مسرحية أو فيلم.
نفي اختياري
إذاً كيف تلمس الفرق بين الجيلين؟
سئلت في مناسبتين ما الذي جعل جيلنا يختلف عن الأجيال التالية؟ أجبت بصراحة أنني أنتمي لجيل كان لديه مشروع وحلم، وأن الحلم صار ممنوعًا في السبعينيات. أذكر حادثة وقعت في «يبرود» أوائل الثمانينيات عندما قرّرت مجموعة من المعلّمين القيام بحملة لشتل أشجار في جبال يبرود الجرداء، وكيف اعتقلتهم الجهات الأمنية لتفهمهم أن «القيادة» هي التي تقرّر ما يجب. لذا ما زالت غالبية الجبال جرداء!
يندر أن تجدي تشكيليًا شابًا يعنى بتثقيف نفسه، معظمهم يتصوّر أن حمل شهادة لا قيمة لها تجعلهم «فنانين»! حتى أن البعض لا يخجل من تلقيب نفسه «دكتورًا»!
بالطبع، يمكن أن نصادف طفرات لافتة للنظر، لكن غياب الأرضية الثقافية يغدو بيّنًا، ناهيك عن القاعدة الأكاديمية المتينة.
القاسم المشترك بين معظم أعمالك، هو حالة الكبت والنفي والتهميش والتغييب التي يعيشها المواطن العربي. وهذا كان واضحاً في معرضك الأخير في دمشق أيضاً. هل ترى أنك ربما تنبأت بإمكانية حدوث مثل هذه الثورات؟
عدت إلى مكمني الغرناطي في أوائل شباط 2011 مقتنعًا بأن الشباب في سوريا بحاجة إليّ، وقضيت بقية الشهر في صناعة الصناديق التي حوت أعمال 25 سنة من النفي الاختياري لأنقلها إلى البلد الذي تكوّن فيه الوعي وأنتمي إليه ثقافيًا لشغفي الشديد بتراثه، والقديم منه بخاصة. أذكّرك بأن طفولتي انقضت في أسفل خرائط العالم، في بوينس أيرس.
في السابع من آذار طلبت حاوية من شركة نقل بحري، أي قبل إعلان الحراك السلمي بثمانية أيام. فهل كنت متنبّئًا؟ لا أعتقد، يكفي أن تتجاوبي مع وسطك لتكوّني تصوّرًا عن الاحتمالات الممكنة.
أنا أومن بعمق بأن الحركة ناموس كل شيء في هذا الكون، لذا لا أستطيع الإيمان بأيّ مطلق خارج إطلاق الحركة.
بلادنا ليست بمنأى عمّا يجري في العالم وبخاصة العالم العربي الذي رزخ لعقود طويلة تحت أحذية أنظمة ديكتاتورية، فلا عجب من أن تثور الشعوب وأن يسقط حكّام. ليست قضية نبوءة، بل ضرورة الاستجابة إلى حاجة الناس للحرية والعيش بكرامة.
سئلت أكثر من مرّة، في مقابلات سابقة، عن علاقتي بـ«الوطن»، لأنهم يعرفون تفاصيل حياتي المتنقلة من الأرجنتين إلى سوريا إلى ما كانه الاتحاد السوفياتي ففرنسا ثم إسبانيا، سابحًا في ثقافات ولغات عدّة، أجيب بالعادة أنني لا أحب مفردة «الوطن» لأنني لا أستطيع الإيمان بالحدود، ناهيك عن تلك التي رسمها مستعمر غاشم! وأنني أجد «وطني» في أي رصيف من هذا العالم أستطيع السير فيه بكرامة.
سؤال بديهي يتبادر إلى الذهن: ما الذي دفعك إلى العودة في الوقت الذي غادر فيه كثيرون؟
لا بدّ لي من التوضيح: عندما هاجرت، سنة 1987 كنت أتوجّه إلى منفاي الاختياري هاربًا من انغلاق الآفاق أمامي، فأنا الموفد من وزارة التعليم العالي على أساس من مسابقة نجحت فيها بهدف العودة والتدريس في الكلية، منع تعييني بسبب تقارير أمنية. هاجرت لأنهم عاملوني وكأنني خطر على «الوطن»!
أنا لم ألاحق أو أسجن (ربما لأنني معارض محترف ومستقلّ)، كل ما في الأمر أنهم أغلقوا أمامي كل الأبواب والمنافذ ولم يفتحوا لي سوى أفق ضيق يتعارض مع ضميري.
غالبية المعارضين في الخارج، أقصد الناشطين السياسيين منهم، كانت شروطهم مغايرة لشرطي، والدليل أنني استطعت العودة بلا أية مضايقات.
قلت إنني معارض محترف لأن الشاغل الإبداعي يتطلّب أن تعارضي كل ما هو قائم وبصورة مستديمة، بما في ذلك، وبخاصة، محاولاتك الخاصة، فالرضى عمّا ننتجه يعني الموت. لا بدّ من الشعور بالإخفاق بعد كفّ اليد عن العمل.
عدت إلى سوريا لأستقبل حاوية أعمالي في بداية نيسان ومكثت ثلاثة أشهر انشغلت فيها بترتيب مشغلي في يبرود، ثم اضطررت إلى المغادرة صيفًا فالعودة منذ خمسة أشهر.
أعتقد بعمق أن ما جلبته من محاولات أكثر أهمية من شخصي، لأنني سأغيب يومًا ككل حيّ، وهي قد تبقى لأمد ما. ما لم تدمّرها المداهمات! فقد شهدت كيف دوهم بيت الوالدة الأرجنتينية العجوز ونهب كلّ ما قدّر ثمينًا بما في ذلك كومبيوتري الشخصي.
ماذا تعني بالنسبة إليك علاقة أجساد المتظاهرين بالفراغ المحيط بهم؟
هذا سؤال يروق لي لأنه على علاقة مباشرة بالنحت. باختصار: ما من وسط يحيط بالمرء القادر على الرؤية، وليس النظر، إلا ويؤثّر به، حتى وإن لم يع ذلك.
بعد عودتي الأخيرة حدث لعملي تبدّل لافت للنظر، لم أنتبه إليه إلا بعد انقضاء فترة من انغماسي بالعمل. كنت في السنوات الأخيرة من عزلتي الغرناطية أتمتّع بحرية شبه مطلقة على الصعيدين الفكري والعملي، فاستغرقت في إنجاز منحوتات من الحديد لم تصل إلى التجريد، ربما لأن التجريد الحقيقي، وليس المتداول عندنا عموماً، غير سهل المنال. ولأنني أسعى إلى التواصل مع الإنسان العادي ولا يهمّني من اعتاد الاستمناء الفكري. أما في سوريا فقد عاودت بصورة تلقائية وبدون تفكّر النحت التمثيلي (الفيغوراتيف) مع قدر من الأكاديمية غير قليل، مع تحويراتي الخاصة بالطبع.. وإلا توقّفت عن المعارضة!
جاء تحوّل الأسلوب عفويًا وبدون قرار مسبق، ربما لأن الباطن أدرك أنه يتوجب التوجه إلى جمهور لا يصل إلى تكويناتي المعدنية (اثنتان منها معروضة حاليًا في بيروت في إطار معرض التجمّع).
هل تتصوّرين ما هي «الموضوعات» التي عملت عليها بعد عودتي؟ ومعظمها منجزة بالرخام وأحجار أخرى.. كانت البداية بمنحوتة «الضيق»، وهي في معرضي الحالي في عمّان، تلتها منحوتة «الشهيدة»، ثم «المعتقل»، ثم ثلاث نسوة يقفن على قمة جبل ما وكأنهن في حالة حداد (وهذا أنجزته بحجر البازلت)، ثم موضوعة «الخلاف» ثم «امرأة تنتظر عند الباب» ثم «موعد» ثم «البرزخ»… تجدين أن كل هذه المحاولات على علاقة بما نعيشه.
ملحوظة: أكتب هذه الأجوبة على ضوء الشموع بسبب «التقنين». 42 سنة ولم تحلّ «القيادة» لا مشكلة الكهرباء ولا الماء… بين أخريات.
أعلن قبل أشهر عن تأسيس «رابطة الكتاب السوريين» وبعدها صدر بيان «تجمع التشكيليين السوريين». كيف ترى هذه الظاهرة؟ هل هي تعويض عما فاتكم طوال عقود، أم أنها دفاع عن دور المثقف والنخبة الغائب عن انتفاضة الشارع؟

أنا منتم لرابطة الكتاب السوريين الأحرار (لأنني أكتب أحيانًا) وعضو مؤسّس لتجمّع التشكيليين السوريين المستقلّين. والتجمّعان يعارضان تبعية التنظيمات القائمة في سوريا للنظام. نطالب بالتحرّر من أية تبعية كانت لأنه شرط أساس للإبداع.
شخصيًا أدرك أنه فاتني الكثير خلال عقود، وأن البلد فاته أن يستفيد من تجربتي كذلك. لذا يطالب الشارع بالحرية اليوم.
اعتزال
في عودتك أيضاً وعودة مغتربين آخرين، ثمة ما أثار تحفظ البعض. أي أنكم قضيتم في الخارج سنوات طويلة بينما كان الشارع يدفع وحده ثمن العزلة والتهميش.
لا يهمّني ما يراه الآخرون من إقدامي على هذه الخطوة أو تلك. الميل للثرثرة من طباع المجتمعات المتخلّفة، ونحن منها. لذا ضرورة العمل لها.
عدت إلى سوريا وسكنت في يبرود. هل هذا يعني أن السوري يشعر الآن أكثر من أي وقت مضى بحاجة ملحة ليكون في منطقته، بين أهله؟
يبرود مسقط رأس والدي وفيها عشت مراهقتي ومرحلة تكوّن الوعي بالأشياء. اختياري لها ليس مصادفة لأنني شبه واثق من أن لتيجان جبالها الصخرية، التي طالما تجوّلت فيها مصطحبًا كتابًا أو محاولاً الرسم، دوراً في تحسّسي للكتلة. وهو أمر اكتشفه الأساتذة السوفيات بعد نجاحي في اختباري القبول في معهد سوريكوف العالي للفنون في موسكو، إذ قالوا لي: أنت ترسم كنحّات ونصحوني بالنحت. أعتقد أنهم أصابوا.
ثم أنني عشت سنواتي العشر الأخيرة في غرناطة معتكفًا في المشغل والبيت، شبه منعزل عن كل شيء وعن البشر، أعمل ثمانية أيام في الأسبوع ولا أنتظر أن يرى أحد ما أصنعه.. وإن كان الأمر مؤلمًا أحيانًا. معظم ما جلبته إلى سوريا من أعمال لم يره سوى المقرّبين من عائلتي، لأنني كنت مستنكفًا كذلك عن عرض أعمالي.
الطريف، وإن كان ليس في الطرفة بشيء، أنني أسكن في مدينة ذي الوزارتين: لسان الدين بن الخطيب، وتبيّن أنني ذو المنفيين! فعادة يعاني المرء منفى واحدًا وأنا عشته في إسبانيا مثنى، أولاً المنفى عن بلد الأهل والثقافة والثاني منفى رفض العربي، وهو متأصّل في العقلية الإسبانية بعمق. يكفي أن يكون لك اسم عربي حتى يشيحوا عنك.
ذلك ما دعاني إلى الاعتزال، لكن دون انقطاع عن متابعة كل شيء ممكن.
عودًا إلى يبرود، ثمة واد صغير يسمّى «عين العصافير»، وهو منعزل عن المدينة وغير بعيد عنها، يملكه أخ لي ميسور وكان مهجورًا فوضعه تحت تصرّفي. فيه دار متوسطة المساحة أعرض فيه بعض أعمالي وحجرة خصّصتها للمشغل (أحتاج لعشرة منازل مماثلة لأعرض فيها أعمالي). قمت بترميم غرفة لبن أقطن فيها.
إنه مكان ملائم لتنظيم ورشات عمل للشباب، لكن الظرف الحالي لا يسمح بنشاطات من هذا القبيل. أسميته «مشغل عاصم الباشا للثقافة» لأنه منفتح على كل الثقافة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى