صفحات الثقافةعزيز تبسي

عالم السيدة لويزا/ عزيز تبسي

 

 

-1-

يبدو هذا الشارع مهجوراً، بهدوئه المربك، الذي يشعر العابر بخلوّه وتبدّد أهله، لتتبقى بعض الحركات الشبحية على الشرفات الواسعة؛ الرأس المطلّ ليتفقد السيارة المركونة بمحاذاة الرصيف، اليد الممتدة لتنشر قميصاً مبللاً على حبل الغسيل، الستائر الداخلية التي تفتح بتردّد ثم تغلق بحزم. كأنهم يترقبون أناساً لا يأتون، أو يبتكرون طريقتهم في السيطرة على الوقت، ومراقبة التحولات في الخارج.

لكن لا بدّ من تدوين بليغ لاندفاعات شجيرات الياسمين وحنو زهيراتها، التي تكفيها رشقة هواء، لترتمي صريعة على الرصيف. ولأشجار الصنوبر التي تصارع ثقل أغصانها، والعبور المضطرب للغربان والحمام. ولألبسة داخلية بيضاء ترتجف بأمنيات دعاة السلام، ولأسلاك مولدات الكهرباء التي تتقاطع في الفضاء كأحجيات لا حلّ لها، للأرصفة التي تحولت إلى أجمات، بعد الانحناء المنهك، لأغصان أشجار وشجيرات ونباتات لم تعبر عليها مقصات الزراعين. لصوت متهدّج لامرأة يهوي كآنية خزف، من نافذة عالية، ليتحطم على الإسفلت، تخاطب أناساً على الطرف الآخر من العالم: “ليش ما عم تسألوا عليّ؟”، لوشوشات مخذولة تتسرّب من خلف الأباجورات الواطئة. ليسوا موتى، لكنهم يتدثّرون بالموت، كوسيلة للحماية الذاتية، يستلقون أرضاً ويقطعون أنفاسهم، كما يفعل الحطابون حين تباغتهم الدببة في الغابات.

– لكنه هادئ أليس كذلك؟

-هادئ لدرجة الشعور أننا في مقبرة فاخرة، تمنح الموتى فسحة للنوم المطمئن، وتفحص الأحلام بأناة.

– لكننا لسنا فيها.

– كل مكان قابل للتحوّل إليها.

لكن لا بدّ من رفع الرأس قليلاً، للتأكد من يقينية المكان، ليرى لوحة دُوّن عليها: الشاعر الأموي عمر بين أبي ربيعة.

كأن المشفى جلمود هوى من عل، أو انبجس من الأرض كدورق ينبوع واعد. باب المنزل على يمين مدخله المتقشف، اجتاز الممرّ المؤدي إلى الحديقة، ما إن وضع يده على الجرس، حتى سمع نباح كلب، نباح مهتاج متواصل. وصله صوتها من الأعلى : ” تفضل أهلا وسهلا”. لم تقل أهلاً وسهلاً.. قالت أهلا وسهلا، أبلغها أن لا يستطيع الصعود مع هذا الهياج الكلبي. أجابته أن هذا ليس أكثر من نباح مخبول، الكلب هادئ للغاية ومسالم. صعد بتوجّس وحذر الدرجات المؤدّية إلى المسطح الأوّل من الدرج، وتمهّل، جفّف جبينه المبلل، سمع صوتها ينهر الكلب ويطالبه الابتعاد.أكمل الصعود. رفع رأسه، فرآها واقفة أمام الباب المفتوح والكلب الأبيض يدور حول ساقيها، دافعاً خطمه نحو البلاط الصقيل.

قالت كأنها تريد التبرؤ من نباح الكلب، وتفسير هياجه في آن: “هذا الكلب ليس لي، أودعته عندي عائلة غادرت المدينة. كلما أفتح الباب أو يقرع الجرس يبدأ بالنباح الهائج. ربما ليذكرني بنفسه، وبضرورة عدم تركه كما فعل أصحابه، كأنما يقول لي “لا تذهبي وتتركيني كما تركوني”. ضحكت أو تصنّعت الضحك. لكنها وجمت باحتراس، كأنما عبرت ببالها لوهلة المصائر المشتركة، التي أمست تجمع الناس مع هذه الحيوانات. الناس الذين يتركهم أصحابهم، أهلهم، أحبتهم، كما يحصل في مفاضلات حقائب السفر بالطائرات. ليس فقط الطائرات لم تعد تحتمل حمولات زائدة. وهؤلاء المغادرون والمهاجرون لا يريدون حمولات زائدة.

لكن ما هي الحمولات الزائدة؛ آنيات مربى المشمش والكرز والورد صنعتهم الأمهات لأولادهم، لوحة “كانافا”، قطعة كروشيه، طبق نحاس.. أم أم مريضة؟ أب عاجز؟ أمسوا كلهم حمولات زائدة، شعوبًا فائضة عن الحاجة. اكتشفوا ذلك فجأة واكتشفوا كذلك الرغبة بالتخلّص منهم ومن أعبائهم التي يمنونهم بها كل يوم، وهم يتحدثون عن الزيادة السكانية على سبيل المثال، وما تفرضه من زيادة المتطلبات التي تتكفل بها الدول، فضلاً عن الأحاديث التي لا تنتهي عن دعم الرغيف والكهرباء والمياه والوقود.

– من حسن الحظ أنه ما زال هنا أناس يمكن الوثوق بهم وإيداعهم الأمانات. هذا الكلب محظوظ. قد لا يتوفّر الحظ لسواه، مع توالي هذي الأيام العصيبة.

شعر أن الكلام ليس في أوانه، سقط ثقيلاً، واستدركه بابتسامة كابتسامتها.

– مررت يوم الأحد، وأبلغتني الممرضة في صالة الاستقبال أنك لا تستقبلين في هذا اليوم.

– خصصت يوم الأحد للقاء العائلة.

وكان يعلم أنها الزوجة الثانية للدكتور “روبيرت جبه جيان”، ولم يثمر زواجهما أولاداً. أحسّت بما يفكّر به؛ لم يبق أحد سوى أخي وعائلته، وهم من يزورني يوم الأحد. أنا لم أعد أستطع الخروج من البيت…”أنا محبوسة هون”. ابتسمت بعدها، لتشعره بعجز هذا المحبس عن قهر إرادتها ونشاطها. أراد أن يقول لها “كلنا محبوسين”، كمحاولة للتأكيد على المصائر المشتركة، لكنه استبعد الحديث عن الحبس، ربّما لأن الكلام عنه، سيكون مدخلاً للحديث عن أشياء كثيرة قاسية، على من داخله ومصائرهم، وهذا ليس أوانه.

-2-

البيت متقشف بأساسه ودهان جدرانه والثريات الهابطة من أعالي الأسقف. بسجاده وطنافسه، بأسرّته ووسائدها وأغطيتها. تزيد العتمة التي يفرضها الانقطاع الدائم للكهرباء، ويعززها انسدال أغصان الأشجار على النوافذ، من حميمية المكان، كأنه كهف للقراءة والتأمّل والعزلة.

لكنه ثري باللوحات الجدارية التي رسمها الدكتور روبيرت، ومنها للرسام العالمي أرميناك ميسريان الذي اختار أسم أرميس، وثّق فيها بين عامي 1920-1930 مدينة حلب وجوامعها وأحياءها ومزاراتها. ومنها لفنانين آخرين.

زاخر بالكتب والموسوعات والمقتنيات التي تشير إلى الأمكنة المزارة في مسيرة الحياة الطويلة.

هذه غرفة الأولاد وهذه كتبهم وصورهم…تعني أولاد زوجها من زوجته الأولى فيوليت… كلّ الكتب باللغتين الفرنسية والإنكليزية، أغلبها روايات وقصص. وكتب في الفنون. اختار الولدان دراسة الفن والتفرّغ له؛ الأوّل معماري ومهندس ديكور أكمل تعلميه وتخصصه في جامعات بروكسيل. والثاني راقص باليه ومصمم لرقصاتها، درسها فنونها وقواعدها في أكاديمية لينينغراد. واختار كلاهما فرنسا كمكان لعملهما وإقامتهما. أما الابنة فدرست الأرشفة والمكتبات، وتعمل في مكتبة ومدرسة بمدينة بوسطن في الولايات المتحدة. قالت الأولاد، لكنهما الآن قد تجاوزا السبعين من عمرهما أو على تخومها. لم يختاروا دراسة الطب، ولم يختاروا المدينة التي لم يبارحها أبوهم وأمهم إلا إلى قبرهما في بلدة النبعين قرب كسب في الحواف الشمالية للساحل السوري. صعدا بعدها إلى الطابق الأعلى الذي أعدّه الدكتور روبيرت كمكتبة وقاعة مطالعة، وأطلق عليه اسم زوجته الأولى.

-3-

الشرفة في خلف البناء تطلّ على حديقة المنزل، وحدائق وشرفات المنازل المجاورة. في الأسفل مسبح مستطيل مغطّى بسقف من القرميد. استخدمه الدكتور للسباحة الصباحية، التي بقيت رياضته اليومية لحين وفاته.

جلسا صامتين على كرسيين أمام الطاولة التي تتوسط الشرفة: “وماذا عن عمل المشفى؟”. “نعمل في الحدود الدنيا، معظم الأطباء الذين عملوا به هاجروا، والناس لا يأتون إلى المشافي إلا وهم على حواف الموت”.

شربا عصير التوت المبرّد بمكعبات الثلج، تذاكرا في “القدر الأرمني” الذي تجاوز حدود قومه منذ الزمن الفلسطيني والأحوازي والكردي، ليتدحرج ككرة من نار بين الشعوب المضطهدة. تذكّر وهو يهبط الدرج، أنه لم يسألها عن مصير المشفى، ومشروع طب العيون الذي افتتحه الدكتور “روبرت جبه جيان” في منتصف القرن الماضي. استوقفه دوّي قذائف متتابعة. فتنبه لمصيره ومصير العائدين قبل المغيب إلى بيوتهم.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى