صفحات الرأي

عالم عربي إفتراضي

زياد مكاوي

في مطلع القرن الحادي والعشرين، تطلق التكنولوجيا مجتمعات إلكترونية بديلة سوف تحدث تغييراً جوهرياً في طريقة حكم البلدان وتعزّز المساءلة التي تشكّل حاجة ماسّة ليس في المنطقة العربية وحسب إنما أيضاً على مستوى العالم بأكمله.

قبل بضع سنوات، حضرت اجتماعاً للمنتدى الاقتصادي العالمي في مراكش حيث اجتمع مندوبون من مختلف أنحاء العالم لمناقشة مستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونموها الاقتصادي، واستقرارها السياسي، والحاجة إلى استحداث أكثر من 50 مليون وظيفة للشباب الذين ينضمّون إلى القوة العاملة.

وقد كرّر جميع المتحدّثين، بالأسلوب الدرامي نفسه، الإحصاءات عينها: نحو 60 في المئة من السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم دون سن الخامسة والعشرين؛ واعتبروا أن هذه “الطفرة الشبابية” نعمة ونقمة على السواء، فإما تتحوّل ثروة ديموغرافية وإما قنبلة موقوتة. وتكهّنوا أنه إذا نجحت الحكومات في المنطقة في خلق بيئة مؤاتية للأعمال وتحفيزها، فسوف تقع ثورة في ريادة الأعمال، بما يؤدّي إلى استحداث ملايين الوظائف للشباب العاطلين عن العمل الذي يهيمون في شوارع القاهرة والرياض وطرابلس والجزائر وبيروت، وفي كل عاصمة ومدينة تقريباً من عواصم المنطقة ومدنها الكبرى.

وفيما رحت أنتقل من جلسة نقاش إلى أخرى، ويتكرّر الكلام نفسه على مسامعي، اتّضح لي أن هؤلاء المتحدّثين ليست لديهم حلول ليقدّموها وأنهم يكتفون بترداد ما هو بديهي: ثمة حاجة إلى استحداث ملايين الوظائف؛ تقع على عاتق الحكومات مسؤولية خلق الأجواء المؤاتية؛ وإذا لم يحصل هذا قريباً، فقد تكون العواقب وخيمة! كانت الحقيقة ساطعة مثل الشمس، فنحن لن نتمكّن من تحقيق أي من هذه الأهداف، وفكرت في نفسي في أنه من الأجدى بنا مناقشة العواقب التي ستترتّب عن هذا العجز، والتركيز على المسار الذي ستسلكه كرة الأحداث وليس على موقعها الراهن.

لسوء الحظ، لا تملك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نفوذاً اقتصادياً عالمياً من أجل “شراء” الدول الفاشلة في محيطنا. والكرة التي كان الجميع يركّزون أنظارهم عليها، اندفعت بسرعة نحو ما يُسمّى بالربيع العربي، هذه الموجة من الانتفاضات التي لا تزال تجتاح المنطقة بأسرها وتقتلع في طريقها الأنظمة الديكتاتورية القمعية والعقيمة والبائدة التي أنتجتها الحرب الباردة والاستراتيجيات الصهيونية المتقوقعة، وسعي العالم المتقدّم إلى السيطرة على موارد الطاقة التي اعتبرها حيوية لاستدامته الاقتصادية. والشباب حاملو الهواتف الذكية الذين حاول المندوبون في منتدى الاقتصاد العالمي إنقاذهم هم أنفسهم الذين قادوا هذه الثورات ونظّموا إيقاعها. إنه خليطٌ من طلاب الطبقة الوسطى المثقّفين والشباب المحرومين المستائين الذين ارتأوا أن يتحدّوا الاستاتيكو بجرأة وبطولة، على غرار إخوتهم في ألمانيا الشرقية الذين وقفوا في أعلى جدار برلين قبل أكثر من عقدَين.

ودخلنا في الفراغ، حيث ظهرت إلى الواجهة كل الأمور التي تفرّق بيننا، بتضخيمٍ من الإعلام غير المسؤول أو الذي تحرّكه دوافع معيّنة، وتعمّقت التصدّعات المجتمعية كافة وخرجت إلى العلن بقوة. وعلى وقع الانقسام والتخبّط لاستعادة الهويات الوطنية أو إعادة اختراعها، انجرف البعض خلف محاولة طوباوية مضلّلة لبلوغ نوع من أرض العجائب الثيوقراطية. فظهرت من جديد الاختلافات الدينية والتعصّب الديني، آفة هذه المنطقة التي تعتمل وتتقيّح في الخفاء، وتُشعل سريعاً شرارة الجنون والجموح الدموي، فانطلقت سلسلة من الأحداث التي تنحدر بالمنطقة نحو الجحيم.

يعاني العالم العربي من انعدام المهارات ومن العاهات الفكرية التي تبرز جليّة من خلال النتائج على الأرض، والفساد المستشري على نطاق واسع جداً، وقحط النتاج الفكري. لحسن الحظ، ليس هذا لعلّةٍ في تركيبتنا البيولوجية، إنما لعلّة في المنظومة. فنحن نفتقر، داخل بلداننا، إلى المهارات والخبرات الفكرية الضرورية لتحقيق المعافاة الذاتية والتصحيح الذاتي. نحتاج إلى المساعدة، وأنا أنصح بشدّة بالاستعانة بهيئات حاكمة أكثر خبرة أو مسؤولين أكثر تمرّساً من بلدان مثل سنغافورة أو اسكندينافيا أو حديثاً دبي، لإدارة الجزء الأكبر من آليات الحكم عندنا.

لماذا يجب أن يكون وزراؤنا وكبار موظّفي الخدمة المدنية في بلداننا من حاملي الجنسية الوطنية؟ لا بل أسوأ من ذلك، يُعيَّنون في حالات كثيرة لأغراض سياسية من دون أن يتمتّعوا بالمؤهلات الكافية للنهوض بأعباء المنصب. على حاملي الأسهم في المنطقة، إذا صحّ القول بلغة الأعمال، أن يفكّروا جدياً في طرد الفرق الإدارية واستبدالها بأشخاص يتمتّعون بالمستوى الأفضل من الكفاءات والمؤهلات بغض النظر عن جنسيتهم. وإلا ستتّسع الهوة الاقتصادية والاجتماعية أكثر فأكثر بين العالم المتقدّم والدول القومية في منطقتنا، وسوف تتسارع هجرة الأدمغة، أو بالأحرى نزيف الأدمغة، وتتبدّد معه فرص وقف الدوامة الانحدارية.

سال حبر كثير في الكتابة عن الديموقراطية ووصفها بأنها أكثر من مجرد صندوق اقتراع، وبأنها تحتاج إلى الدعم من خلال وضع إطار مؤسسي وتحفيز الوعي المدني، كي تتمكّن من تحقيق الفاعلية المطلوبة. بيد أن الإطار المؤسسي والوعي المدني ضعيفان في أفضل الأحوال، لا بل غير موجودين في معظم الحالات في منطقتنا، بما يؤدّي إلى اختطاف العملية الانتخابية وتشويهها من قبل شخصيات شعبية قد تكون صادقة في نياتها في حالات نادرة إلا أنها تفتقر على الدوام تقريباً إلى الكفاءة، وتستغل التشنجات المذهبية أو القبلية. غياب الكفاءة على مستوى القيادة سيئ بما فيه الكفاية في الديموقراطيات الراسخة حيث تتوافر آليات ومؤسسات لصون الخير العام، مثل الناخبين المثقّفين والإعلام الحر والقضاء المستقل، فما بالكم في منطقتنا حيث لا وجود لهذه الآليات والمؤسسات منفردةً أو مجتمعةً؛ عندنا يصبح غياب الكفاءة مهلكاً.

قد يُخيَّل إلينا أن الأنظمة السلطوية الريعية في بلدان الخليج أبلت أفضل بكثير من نظيراتها المسمّاة “ديموقراطية” في الأعوام الأربعين الماضية على صعيدَي التنمية الاقتصادية وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين. لكن السؤال الآتي يطرح نفسه: هل ستستمر الأمور على هذه الحال عندما ينفد الفائض النفطي ولا تعود تلك الدول قادرة على تمويل اقتصاداتها الريعية؟

يبتلع الدِّين المسيَّس والأصولية الدينية، سواء كانت يهودية أم مسيحية أم إسلامية، آمال الأجيال المقبلة، ويُحوّلهم ضحايا أو مهاجرين. لا بد للأمور من أن تأخذ مجراها؛ لقد تسلّمت الدفعة الأولى من قادة الربيع العربي، مع فرقهم الإدارية التي تفتقر بشدّة إلى الكفاءة، مقاليد الحكم المهترئة، ويتخبّطون في مواجهة مسائل لا يملكون المؤهلات اللازمة للتعامل معها في وقت تبلغ فيه الضغوط الاجتماعية والاقتصادية مستويات غير مسبوقة.

غالب الظن أنهم سيفشلون وسيحاولون كسب الوقت عبر الإمعان في إفساد المنظومة التي ناضلوا كثيراً من أجل إصلاحها. وعلى غرار أسلافهم، سوف يسوِّغون سيطرتهم على السلطة وممارساتهم التي تجنح أكثر فأكثر نحو السلطوية، كما يحصل الآن في العراق ومصر، بحجّة أن ما يفعلونه يصب في مصلحة الشعب وتحسين أحواله، وفي نهاية المطاف سيُطرَدون من مناصبهم.

إذاً أين ستستقر الكرة في المرحلة المقبلة، وماذا يجب أن نفعل بها؟ ليس مفاجئاً أن الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية شكلتا أداتَين أساسيتين في الجهود الرامية إلى إطاحة الأنظمة. ستظل التكنولوجيا تقف في المرصاد للمساعي التي تبذلها أي حكومة أو مسؤول أو نظام لسحق إرادة شعبه. لا يمكن وقف التدفق الحر للمعلومات، فكما المياه، سيتمكّن دائماً من أن يشق طريقه ليصل إلى جمهوره. يستحيل وقف الموجة التي أطلقها الربيع العربي، ومحاولات إعادة عقارب الساعة إلى الوراء سيكون مصيرها الفشل. تطالب شعوب المنطقة بالمساءلة؛ لن تصمد حكومةٌ أو حزب سياسي أو أيديولوجيا، بما في ذلك الأيديولوجيات الدينية الرائجة حالياً، إذا كانت تفتقر إلى الكفاءة، وما ينجم عنها من فشل في تلبية الحاجات الاقتصادية الأساسية لشعوبها. بعد بضع سنوات، ستحتاج الأنظمة المنهارة والمفلسة إلى قادة أكثر كفاءة وتنويراً يخرجون من رحم البلدان العربية، إنما أيضاً من قلب الدياسبورا العربية التي اندمجت في البلدان المضيفة؛ قادة يتمتّعون بالنضوج والمهارات السياسية اللازمة ويحافظون على تعلّقهم العاطفي بأوطانهم الأم.

في مطلع القرن الحادي والعشرين، تطلق التكنولوجيا مجتمعات إلكترونية بديلة سوف تحدث تغييراً جوهرياً في طريقة حكم البلدان وتعزّز المساءلة التي تشكّل حاجة ماسّة ليس في المنطقة العربية وحسب إنما أيضاً على مستوى العالم بأكمله. نعيش في عالم تختفي فيه الحدود أكثر فأكثر، حيث أصبحت الجغرافيا أقل أهمية من التواصل. يقال إن الحياة تحاكي الفن؛ ولذلك قد يكون الحل المتاح لنا في الوقت الحالي إنشاء عالم عربي افتراضي يربط بين ملايين العرب الذين يعيشون في كل مكان، وقوامه شبكات مترابطة في المجالات المهنية والسياسية والثقافية والاجتماعية وفي قطاع الأعمال، تتشاطر المبادئ العلمانية الديموقراطية حيث تسود حرية الإنسان وكرامته، وحيث المؤهلات والمجهود والمساءلة هي المعيار؛ عالم عربي افتراضي مثقّف يستطيع إسماع صوته من خلال صناديق الاقتراع، وينتظر كي يأتي يومٌ يصبح فيه الواقع مطابقاً للمشهد الافتراضي، وهو آتٍ لا محالة.

خبير في الشؤون المالية والمصرفية

    ترجمة نسرين ناضر

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى