صفحات العالم

عام على إعلان دولة الخلافة –مقالات مختارة-

الظاهرة الداعشية: الجوهر لا المظهر/ صبحي حديدي

لا تُعدّ ولا تُحصى الجرائم التي ارتكبها تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد سقوط مدينة الموصل، وقبلها أيضاً؛ سواء في العراق، أوّلاً، أم في سوريا، وأمكنة أخرى، بعدئذ. ولم يعد عسيراً إدراك معادلة الخدمات المتبادلة بين «داعش» وأنظمة الاستبداد والفساد العربية، إنْ في البلدان التي شهدت انتفاضات شعبية، أم في تلك التي ما تزال تنتظر. فإذا اختار المرء أياً من فظائع هذه المنظمة، ضدّ البشر أو الحجر، فإنّ من اليسير أن تتضح واحدة من أهمّ خصائص «داعش»: أنها ظهيرة الطغاة في الأرض.

غير أنّ هذا الاعتبار ليس هو الأجدى اليوم، بعد مرور عام على نجاح «داعش» في اجتياح مدن وبلدات كبرى، ومحورية لاعتبارات شتى، في العراق كما في سوريا. والمطلوب، الأهمّ والأشدّ إلحاحاً، هو التبصّر على نحو أدقّ، والتعمق أكثر، في العوامل المختلفة، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أتاحت صعود «داعش»، وتتيح وضعها في القلب من معظم سيناريوهات التخريب والتفكيك والتقسيم، فضلاً عن التجهيل والاستغلال والتحريف، التي يتعرّض لها الاجتماع الوطني في كلّ من العراق وسوريا… في انتظار جغرافيات أخرى قادمة. وبعض أنجع الوسائل في سبيل صدّ هذه المنظمة الإرهابية الظلامية، وردّ جرائمها إلى نحور قادتها ومنظّريها، وكذلك إلى سادتها ومحرّكيها ممّن يتقنعون خلف أستار شتى؛ هي الذهاب نحو الجوهر والجذر، وليس الاكتفاء بالمظهر والسطح، في تفكيك الظاهرة الداعشية.

على سبيل المثال، كيف يتوجب أن تُقارن مسؤولية رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، مع مسؤولية خلفه حيدر العبادي، في تأمين حاضنة السخط الشعبي التي تغذت عليها «داعش»، وأحسنت استغلالها، واختراق مكوناته؟ بدل الالتفات إلى مشاكل العراق الداخلية المتزايدة، وعلى رأسها توتر علاقات الحكومة مع شرائح شعبية عريضة، ليس مع الشارع السنّي في طول العراق وعرضه، وكذلك مع الأكراد، فحسب؛ بل، كذلك، مع فئات واسعة من الشيعة، جماعة مقتدى الصدر أوّلاً، ثمّ السيستاني، وشرائح التكنوقراط والليبراليين… بدل ذلك كله، لجأ المالكي، واقتفى العبادي أثره على نطاق واسع، إلى إعادة إنتاج سياسات مقيتة تكفلت بتأجيج المزيد نيران الاستياء الشعبي.

وبدل تكريس جهود الحكومة لخدمة المواطن العراقي، وتوظيف قسط من عائدات النفط لتحسين مستواه المعيشي؛ سارع المالكي، واقتدى به العبادي، إلى ترحيل مشكلات العراق الداخلية نحو الخارج، والاتكال على دول التحالف وكأنّ اجتثاث «داعش» لا يبدأ من اقتلاع جذورها في تربة العراق أوّلاً. أو كأنّ العبادي، بعد سلفه، تناسى كيف دخلت «القاعدة» إلى العراق عن طريق أجهزة النظام السوري، بادىء ذي بدء؛ وأنّ «داعش» هي الجنين الذي تخلّق عبر تلك الترتيبات التي ساهمت فيها الأجهزة الأمنية الإيرانية أيضاً. وكما في العراق، كذلك في سوريا، يُراد منّا أن ننسى ذلك الزمن، القريب، الذي شهد اتهام المالكي للنظام السوري بالوقوف خلف الأعمال «الإرهابية» في العراق، ومطالبة الأمم المتحدة بتشكيل محكمة، أو على الأقلّ لجنة تحقيق دولية، لمحاسبة منفّذي التفجيرات الذين أرسلهم «البعثيون» و»التكفيريون» جماعة النظام السوري… حسب تعبيرات رئيس الوزراء العراقي ذاته!

سحر انقلب على الساحر، الحاكم المستبدّ والفاسد، في العراق كما في سوريا؟ نعم، ولكن ليس هذا فقط، لأنّ «داعش» مسؤولية الاحتلال الأمريكي للعراق، والسكوت الدولي على جرائم الحرب في سوريا، ومغازلة إيران، ومباركة جرائم إسرائيل في غزّة، إلى آخر سلسلة طويلة من الأسباب المترابطة. وتلك، قبل اعتبارات المظهر، هي ضرورات الجوهر الأعمق التي أتاحت صعود «داعش»، وسهّلت بقائها، و… تمددها.

 

 

 

 

“داعش” زمن وليس اسماً… وذبذبات يرسلها “خليفة” متوهم/ حازم الامين

كان يكفي شكل الجريمة التي ارتكبها ياسين الصالحي في ليون، لنقول، وليقول معنا القضاء الفرنسي، أن الرجل عنصر في «داعش». فالصالحي قطع رأس مديره في العمل والتقط صورة لنفسه حاملاً الرأس، وأرسل الصورة إلى صديق فرنسي له يُقاتل مع «داعش» في سورية.

ليس للصالحي أي سوابق، وسجله وفق الشــرطة الفرنسية نظيف، لكنه وفق جيرانه «رجل غامض ومنعزل، ولا أحد في الحي يعرف شيئاً عن ماضيه، رغم أن أطفاله الثلاثة كانوا لطفاء، وكانوا يلعبون مع أطفال الحي في شكل ودي».

«داعش» لم يقدم للصالحي فقط الموديل الذي عليه أن يعتمده في ارتكاب الجريمة، قدم له زمن الجريمة، وصديقاً فرنسياً يقاتل في سورية لكي يرسل له الصورة.

وهذه كلها عناصر يمكن الركون إليها للقول أن الصالحي عنصر في «داعش» من دون أن يكون مرتبطاً به. فعل قطع الرأس والتقاط صورة له كافيان للانضمام إلى هذا الزمن «الداعشي»، وصديق فرنسي يقاتل هناك سيتولى تثبيت هذا الزمن وربط ليون الفرنسية بالرقة السورية. ولا داعي هنا للبحث عن «أمير» حرّض على الجريمة أو دفع القاتل إليها.

والحال أن مرتكب مجزرة مدينة سوسة التونسية تمتّ سيرته إلى هذه القطيعة بصلة أيضاً، ذاك أن الشاب راقص «بريك دانس» سابق، ولم يسبق أن سافر إلى خارج تونس، والشكوك حول علاقته بجماعة «أنصار الشريعة» مقتصرة على إشارات افتراضية، كقوله لأمه أن منفذ جريمة متحف تونس «أخ مجاهد أتمنى له الجنة». لكن الشاب كان خارج الرقابة الأمنية، وصوره على الشاطئ تكشف عن جسدٍ ألف حياة الشواطئ وثيابها وعوالمها، وما البندقية في يده، والتي التقطت صورته وهو يحملها بعد ثوان قليلة من ارتكابه المجزرة، سوى جزء من مشهده البحري ومن جسم مرِن ومتكيف. وهنا أيضاً لا قيمة غير أمنية للبحث عن صلته بـ «داعش»، ذاك أن الشاب عضو في التنظيم، وهو وإن لم يتدرب في معسكراته ولم يندرج في خلاياه، إنما فعل ما طلبه منه «الخليفة».

وطلب «الخليفة» ضمني ومُرسل على شكل ذبذبات تصل إشاراتها إلى عمق النفس، مفرقة بين الفتى وأمه، وبينه وبين زوجته، ودافعة الجسم الراقص خطوة أبعد من الرقص، مستعينة على ذلك بما ألفناه من انهيارات عادية.

ثم إن الأسبوع الفائت حمل إلينا ما هو أكثر من ذئاب متوحدة أقدمت على أفعال فردية انضمت عبرها إلى «زمن داعش». فقدرة «دولة الخلافة» على ضم الجماعات البعيدة على نحو افتراضي لا تقل عن قدرتها على الوصول إلى الأفراد.

في سيناء المصرية والبعيدة من جغرافيا الخلافة سجل التنظيم اختراقاً كبيـــراً. الأمر كـــان أشبه بتحول التدفق إلى طــوفان. «داعش» في كل مكان.

في الكويت أيضـــاً، وفي السعودية قبلها بأسبوع، وهذا كلـــه ليـــس بعيداً من تقنية مصادرة الزمن بما يكفل ضم الجريمة ومصادرتها.

أي اقتراب منطقي من هذا الطوفان، ومن هذه الوقائع غير المتصلة سيقود إلى استنتاج غير واقعي يتمثل بأن ما جرى لا صلة لبعضه ببعضه، وأن فعلة جماعة سيناء لا تشبه فعلة ذئب ليون، وأن راقص الـ «بريك دانس» التونسي لا تربطه أي علاقة بمفجري المساجد في الكويت والسعودية. وحده «داعش» كزمن وكافتراض ما يجمع بين كل هذه الانهيارات. وهو جمع ليس وهمياً، فهو يستمد متانته من قوة الانهيارات في محيطه، من عمق الفصام التونسي، ومن عجز فرنسا عن الإحاطة بمهاجريها، ومن غربة بدو سيناء ومن صحرائهم.

و «داعش» كاسم أيضاً صار جزءاً من هذه اللعبة. التنظيم الذي لم يكن هو من أطلق على نفسه هذا الاسم، والذي كرهه وعاقب من تلفظ به من رعايا «خلافته»، ها هو الآن ينعم به. ما تبعثه العبارة والأحرف الأربعة التي تشكله من صور ومشاهد وأفعال تحول إلى ضابط للوقائع وموجه لمعانيها.

لو لم يكن لـ «داعش» هذا الاسم لكنا احترنا بالفعلة التي ارتكبها الصالحي. لا يعني أننا اليوم نحيل الفعلة على اسم، إنما نحيلها على ما راكمه هذا الاسم من أفعال. أي أننا نضمها إلى منظومة وإلى سياق وإلى زمن. وما كان بمستطاعنا أن نفعل ذلك من دون توفر الاسم بأحرفه الأربعة التي لم يُحبها الخليفة، على رغم أنها ساعدته على مد خلافته وتوسيعها.

طوفان «داعش» ليس وهمياً، والذبذبات القاتلة التي يُرسلها الخليفة ليست هذياناً. هي تماماً ما يُحول راقص «بريك دانس» إلى قاتل، ويجعل من لياقته، التي اكتسبها خلال تطويعه جسمه وتمرينه لكي يستجيب للموسيقى، طاقة على القتل والإمعان في القتل. ومن أين وصلت صورة الرأس المقطوع للصالحي، وفكرة تصبيره وإرساله عبر «واتس آب»؟ وكيف لجماعة سيناء أن ترسل كل هذا الرعب من دون أن يكون عنوانه «داعش»؟

والذبذبــــات هي تلك اللعبــة التي يعيـــد فيهـــا «الخليفة» إدراج الرغبة الأصليـــة فــي القتـــل في سياق مشهــدي. فالجريمة لا يـمكن أن تنتمـــي إلى «داعش» وإلى زمنــه من دون مشهدها. جـــريمة الصــالحي كانت عادية لولا صورة الرأس المـقطوع، ومجــزرة الرزوقي كان يمكن «أنصار الشريعة» أن تتبناها لولا آلاف الصــور، ولولا صــدورها عن «راقص سابق». واللافت أن صور سيناء العامة وغير القريبة أضعفــت المضمــون «الـداعـشــي» للحــدث هنـاك.

«الخليفة» يُدرك سهولة المهمة. ثمة انهيار كبير يمكن عبره الوصول إلى كل مكان، ولا شيء يربط بين الواقعة والأخرى سوى أنها تنتمي إلى زمن واحد. و«داعش» أدرك أن المهمة تقتصر على مصادرة الزمن وعلى إعطائه اسمه. فليقطع الصالحي رأس مديره، وليرتكب الرزوقي مجزرته على شاطئ سوسة. وفرنسا التي سبق أن أرسلت أكثر من ألفي «مهاجر» إلى «داعش»، وتونس التي فاق عدد «مجاهديها» في سورية أعداد ما أرسلتهم أي دولة أخرى، والخليج، وقد أكرم المجتمعات بالانتحاريين، سيكونون على موعد مع «الخلافة» ليست بصفتها وقائع وجغرافيا، بل بصفتها زمناً يضم إليه انهيارات لا يمكن أن يضمها غيره.

الحياة

 

 

 

داعش “المنتصرة/ سلامة كيلة

الكل يعلن الحرب ضد داعش، وهي تتمدد وتتوسع، وتنشط محققة انتصارات في مناطق شاسعة في شرق سورية وشمالها، وغرب العراق وشماله، فقد أخذت الرمادي وبيجي، بعد أن قيل إنها طُردت من محافظة صلاح الدين في العراق، وما زالت تفاجئ بالسيطرة على مناطق جديدة. وفي سورية، احتلت عين العرب، وقاتلت طويلاً فيها، ومن ثم طُردت، لكنها عادت إليها، بعد أن كانت احتلت تل أبيض، وبعد أن طُردت منها عادت، وسيطرت على الحسكة، بعد أن كانت قد سيطرت على تدمر. وتقدمت في الجنوب باتجاه اللجاة وجبل العرب، كما تقدمت نحو حلب، وقطعت النفط عن مناطق عديدة هناك. وأيضاً تقدمت نحو حمص، بعد أن كانت تحاول التوسع في القلمون.

وامتدت عملياتها إلى فرنسا وتونس والكويت والسعودية، وتقاتل في ليبيا، وتحاول الوصول إلى أفغانستان، بعد أن كانت من حصة “طالبان”، بعد أن رحل تنظيم القاعدة عنها، بعيد تبرير احتلالها.

أمر لافت، خصوصاً وأن كل الكلام عن “الجهاديين” يشير إلى متطرفين مهمشين مفقرين، ويتسمون بالسذاجة العالية. يتسمون بقلة المعرفة، والميل الانتحاري، بهدف الحصول على حوريات الجنة، في وضع يشير إلى حالة من التهميش المجتمعي والحضاري. فئات متخلّفة أصولية، ينحكم وعيها لبنى قروسطية، ومنطق شكلي مطلق، ونزوع “روحاني” كبير، تقبع تحته حالة من حالات الهوس الجنسي. كيف لفئات من هذا النمط أن يفعلوا كل هذا الصراع العسكري المتفوق، وتحقيق الانتصارات التي تعجز عنها الجيوش العربية؟

شملت الحرب ضد داعش عشرات الدول، وخصوصاً أميركا بكل تفوقها العسكري، خصوصاً في مجال الطيران والصواريخ و”السيطرة على الجو”، كما قالوا في الحرب ضد العراق، وكما توضّح بالفعل. والنظام السوري الذي يقول، إنه يقاتل داعش، على الرغم من أن المعارك كلها تبدأ من هجوم داعش على قواته. وتركيا التي تقول إنها تحاصرها. والنظام العراقي الذي “يخوض الحرب ضدها”، لكن قواته تنسحب قبل تقدّم داعش، كما حدث في الموصل والرمادي وبيجي وغيرها، وإيران التي تحشد “الحشد الشعبي” لمقاتلة داعش.

كل هؤلاء “يخوضون” الحرب ضد داعش، وهي تتقدم وتتوسع وتسيطر. كيف نفسّر ذلك؟ إنها تقوم مقام “دولة عظمى”، تقاتل كقوة عظمى! وتهزم قوى عظمى وقوى إقليمية! على الرغم من أنه، قبل التدخل الأميركي، استطاعت كتائب مسلحة (مثل جبهة ثوار سورية) أن تهزم داعش في الشمال السوري، وأربكت الأمر تغطية جبهة النصرة على داعش، ومن ثم قتالها جبهة ثوار سورية وحركة حزم وغيرها، تلك الكتائب التي قاتلت السلطة وقاتلت داعش. قوى شعبية بسيطة استطاعت طرد داعش، ودول لا تستطيع ذلك؟

هذا وهم. ما يجري ليس قتال داعش، ولا أحد يقاتل داعش عدا قوى الثورة. على العكس، الكل يستخدم داعش في تكتيكات تتعلق بمصالح كل طرف. بمعنى أن الدول التي “تقاتل” داعش تغطي على تمددها وتوسعها، وتدفعها إلى التوسع هنا أو هناك، وفق التكتيك الضروري لخدمة تلك الدول. هذا مختصر الأمر.

أميركا تلعب بداعش من أجل المساومات مع إيران تحديداً. ولهذا، تغطي على توسعها، وتقصف بعيداً عنها، إلا في حالات نادرة. وتتشارك مع السلطة في حماية التوسع، بما يربك الثورة ويشلها، ويسهم في الضغط على أطراف أخرى، مثل تركيا. وتركيا تلعب بها، لأن ما يؤرقها هو ما يمكن أن يفعله أكراد سورية، ولهذا تساعدها على الضغط على المناطق الكردية. والنظام يساعدها على التقدم لوقف توسع الثورة، وإرباك نشاط الكتائب المسلحة، على أمل تحويل الصراع إلى صراع بين الطرفين. وإيران تستغل الأمر، لتعزيز وضع القوى الطائفية التابعة لها. ودول أخرى تدعم لتكريس الفوضى.

الكل يعلن أنه يحارب داعش، لكنه في الواقع يتحارب عبر داعش، ويحارب الثورة بداعش. فقط هي ضد الثورة، وهم كذلك ضد الثورة، وكل ما يجري إنهاك طويل لتدمير الثورة، وتحقيق المساومات على جثتها. لكن، لا.

العربي الجديد

 

 

 

داعش.. انهدام في الحضارة/ برهان غليون

لا يشك أحد في أن داعش يشكل، اليوم، تهديدا خطيرا لأكثر من جماعة وطرف، على المستويات، المحلي والإقليمي والدولي، وأنه ليس من الممكن مواجهته، ووضع حد لتهديداته، من دون تعاون عدد كبير من الأطراف، داخل المنطقة المشرقية وخارجها. لكن، من الواضح أن التركيز الكبير على خطره لم ينعكس في أي خطط جدية مشتركة لمحاربته، أو حتى لاحتواء نموه وتهديداته. ولذلك، لا يزال، على الرغم من الإجماع الدولي الذي أثاره ضده، يتمدد ويشن هجمات متوازية على أكثر من جبهة، ويشكل، أكثر من ذلك، مصدر إغراء وإغواء لآلاف الشباب، منزوعي الهوية في الشرق المعدم، وفي الغرب الغني، على حد سواء.

هل داعش منتج عربي وإسلامي؟

بخلاف ما تشيعه الصحافة والإعلام العالميان، داعش ليس منتجاً عربياً أو إسلاميا بالدرجة الأولى، حتى لو أن عربا ومسلمين هم من يملأون صفوفه، وأن شعوبهم هي التي تدفع الثمن الأفدح لانتشاره وجنونه. كما أن مشكلته لا تختصر في مسألة الإرهاب والتطرف فحسب، ولا يمكن مواجهته، كما تأمل دول التحالف الدولي، بتحييده عن جميع القضايا الأخرى، السياسية والاجتماعية والدينية والجيوسياسية.

“يمد داعش جذوره في عمق المشكلات الوطنية والدولية والاجتماعية غير المحلولة، أو التي تركت تتعفن من دون حل”

يمد داعش جذوره في عمق المشكلات الوطنية والدولية والاجتماعية غير المحلولة، أو التي تركت تتعفن من دون حل، وهو ينمو في ثنايا وتناقضات السياسات المحلية والدولية لنظام العالم الذي ولد، بعد نهاية الحرب الباردة، وما ارتبط به من انتهاكات خطيرة، بقيت من دون رد، وقوّضت مفهوم حكم القانون، على مستوى الدول ومستوى الإقليم والمجتمع الدولي معاً، وشجعت على استسهال التضحية بالقيم والمبادئ الإنسانية المكرسة في مواثيق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، وفي الدساتير الوطنية، في كل مكان. وكان لهذه الانتهاكات الدور الأكبر في زرع روح الكراهية والحقد والانتقام والعدمية عند أعداد كبيرة من سكان العالم، ممن فقدوا الأمل بحياة طبيعية كريمة، وعانوا من ظلم الأجهزة الأمنية، ومن استهتار الدول المجهضة، أو أشباه الدول التي تولت التحكم بشؤون الجماعات وتسييرها، بحقوقهم، وفشلها في تقديم الحد الأدنى من الأمان والاستقرار النفسي والمادي لملايين البشر، والذين وجدوا في حفنة من المغامرين والخارجين على الدين والشريعة والقانون المعول الذي يسمح لهم بالتعبير عن مشاعرهم، وهدم الهيكل بأكمله على رؤوس الجميع.

ليس هناك مثال أكثر تعبيراً عن انهيار الآمال التي علقت على نهاية الحرب الباردة، مما حصل ويحصل في سورية والمشرق. فقد رفع زوال الاستقطاب الدولي والنزاع التاريخي الذي ارتبط به بين نظامين متخاصمين، يطمحان إلى الهيمنة العالمية، من مستوى توقعات الشعوب والمجتمعات، وجعلها تعتقد أن حقبة جديدة من بسط السلام والأمن والتعاون الدولي واحترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي قد ولدت، وأن القضايا المعقدة التي أوجدتها الحرب الباردة، أو ساعدت على تعفنها، ومنها قضية فلسطين، لكن ليس وحدها، سوف تجد، أخيراً، الحل المناسب لها بتعاون الدول وتفاهم الشعوب.

لكن العقود الأربعة التي أعقبت انهيار جدار برلين، بحروبها ونزاعاتها وتدخل الدول الكبرى بشكل أو آخر، وما حدث في أفغانستان وإيران والعراق والبوسنة وبلدان إفريقية عديدة، من مذابح جماعية وعمليات إبادة موصوفة، وما يحدث في سورية وليبيا والمشرق عموما اليوم، ومنذ خمس سنوات، من مجازر وجرائم وصلت إلى حد استخدام الأسلحة الكيماوية، قد أسقطت كل الأوهام، وأظهرت أن ميثاق الأمم المتحدة الذي التزمت به الدول، وأقر حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق المدنيين بالحماية وبالتضامن ضد جرائم الحرب والإبادة، لم يكن سوى حبر على ورق، وأن عمليات القتل المنظم والمبرمج وعمليات التطهير القومي أو الطائفي أو الديني لم تصبح أبداً من الماضي، ولا يكاد مرتكبوها يخشون أي عقاب، بينما يقف المجتمع الدولي مكتوف اليدين، عاجزاً عن القيام بأي رد فعل عملي. هذا يعني أننا على الرغم من الضجيج الإعلامي والبيانات الدبلوماسية واللقاءات والمؤتمرات ودعوات التعاون والحفاظ على السلام والاستقرار، لا نزال نعيش في مجتمع دولي تحكمه القوة، ويكاد يعترف رسمياً بحق الفتح والغزو.

“داعش الابن الشرعي لتقويض حكم القانون واستسهال هدر حياة الإنسان والتضحية بالملايين لأتفه المصالح، وتمريغ كرامة البشر بالوحل”

لا يمس تقويض معنى القانون والتضامن الإنساني منظومة الأمم المتحدة العاجزة وحقل العلاقات الدولية فحسب. نجد صورة أكثر سوداوية له في حقل العلاقات الإقليمية في أكثر من منطقة وقارة. وهنا، أيضاً، تبرز حالة المشرق والشرق الأوسط عموما حالة استثنائية في الاستهتار بحقوق الشعوب وأمنها واستقرارها والمحافظة على مستقبل أجيالها. ولا تكاد توجد هنا حدود لإرادة السيطرة والعمل بجميع الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية والدينية، من أجل كسر التوازنات القائمة وتقويض حياة المجتمعات واستقرارها، وسرقة مواردها، بما في ذلك أرضها وتراثها، إلى درجة لم تعد تخشى فيها الدول الطامحة في زيادة وزنها ونفوذها من الإفصاح عن إرادتها و”حقها” في بسط سيطرتها على هذه الدولة أو تلك، أو إلحاقها بشكل علني بها، أو محو الحدود وإعادة بناء إمبراطوريات بائدة تعود إلى (ما قبل التاريخ). كما أن الشعوب التي أملت أن نهاية الحرب الباردة سوف تخفف من الضغوط الخارجية، وتسمح بولادة موجة جديدة من التحولات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لم تجد أمامها سوى تعزيز النظم المافيوية، والمزيد من التسلط والنهب والقهر وخرق القانون، أو تعليقه بشكل رسمي، من خلال قانون الطوارئ، وأخيراً في تنظيم حروب أهلية وبرمجة القتل المنظم وحصار التجويع والدمار الشامل الذي تقوم به أنظمةٌ، كانت تحظى بدعم الغرب وروسيا والصين، في الوقت نفسه، ولا تزال. واليوم، يقف الشرق الأوسط كله في طريق مسدود، وعلى شفا حرب طاحنة، تهدد بالقضاء على مستقبل المنطقة بأكملها، إن لم تكن قد قضت عليه بالفعل.

 

داعش وتقويض حكم القانون

داعش ليس ثمرة وجود آلاف الأفراد المتعطشين لسفك الدماء والخارجين على القانون في بلدانهم، والناقمين على السلام والأمن الدوليين، والمطلوب قنصهم وتصفيتهم، فحسب. إنه الابن الشرعي لتقويض حكم القانون واستسهال هدر حياة الإنسان والتضحية بالملايين لأتفه المصالح، وتمريغ كرامة البشر بالوحل، وإخضاعهم بالقوة، وإذلالهم بالعنف والاحتيال. وفي الوقت نفسه، الرد الصاعق عليه بسياسات أكثر همجية، تجعل من الهدر المسبق لحياة الإنسان، وتقويض الأمن والسلام والاستقرار في العالم، المبدأ والغاية والمصير والقانون. هذا يعني أن داعش ليس ابن الماضي، وما بقي في تراث الشعوب من قيمه البدائية، ولا ابن القرن الماضي وخبرته الاستعمارية الأليمة وحساباته المعلقة. إنه الوجه الهمجي لنظام حضارتنا القائم اليوم، وتناقضات مبادئه وممارساته، وقد تحول إلى دولة مسخ، وصار يحلم بإرساء أسس مدنية وحضارة مبدأها الاستهتار بحياة الإنسان. هو ابن الخوف والرعب الدائم الذي كتب على ملايين البشر بسبب تغول الدول الأكبر، وطمع الدول الطامحة إلى العظمة في تعزيز أمنها على حساب أمن الآخرين ووجودهم، وتجاهل مصالح وحيوات ملايين البشر الذين تركهم نظام نيوليبرالية العولمة الجديد على قارعة التاريخ، من دون أمل ولا مستقبل. إنه الانهدام الأخطر داخل (نظام العالم الجديد) الذي وعد بمستقبل زاهر، ولم يأت إلا بمزيد من الظلم والقهر والاستهتار بحقوق الناس وهدر حياتهم وحرياتهم. داعش هو الخلاصة المكثفة لسياسات الغزو والإبادة الجماعية والتهجير والحكم بقانون الطوارئ والأحكام الاستثنائية، والفساد المالي، ومراكمة الثروة وسرقة الموارد وهدرها على حساب التضامن الإنساني وحريات الأفراد وحقوقهم، والرد الوحشي عليها، في الوقت نفسه.

من الطبيعي أن يكون هذا الانهدام في الحضارة الأعنف والأعمق في الشرق الأوسط على قدر المظالم والاختلالات والتفاوت في الحقوق والمصالح والثروات وتناقض الوقائع مع الآمال والتوقعات: انهداما في الروح والعقيدة والمذهب، وانهداما في العلاقات الوطنية والاجتماعية، وفي الدولة، فكرة ومؤسسة، لصالح المليشيات المتطرفة وغير المتطرفة الدينية والقومية والعشائرية والطائفية، وفي منظومة العلاقات الإقليمية التي تحدد قواعد تعامل الدول مع بعضها في المنطقة، واحترام كل منها سيادة الأخرى، وفي علاقة المنطقة بأكملها بالمجتمع الدولي الذي انسحب تماما من المشرق، وتركه فريسة صراع القوة المجردة، وحروب الاستنزاف والموت الجماعي المبرمج. وأخيراً انهداما في منظومة حقوق الشعوب والإنسان التي أقرت المساواة والعدالة والأخوة والتضامن الانساني ضد حروب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات المتكررة للحق والقانون. يكفي أن نتابع ما يجري منذ سنوات في سورية وليبيا واليمن وغيرها، وما يكتب حول مصيرها وتقسيمها أو اقتسامها ومستقبل شعوبها، حتى ندرك أننا لا زلنا نعيش في القرون الوسطى، وأن “قانون” القوة المجردة والعنف البدائي وحده الذي يقرر، اليوم، وفي هذه المنطقة، مصير الأفراد والجماعات والدول والأقاليم.

لأن الحكومات المسؤولة تدرك أن داعش ليس مسألة تطرف وإرهاب فحسب، وإنما هو أكثر من ذلك، ولا يمكن مواجهته من دون معالجة الثغرات الخطيرة في بنية نظام العالم الراهن المنتج كل أشكال الهمجية، للجوع والفقر والخوف والتشرد والموت، مثل ما ينتج السلام والأمن والرفاه والرخاء، إن لم يكن أكثر، والذي يراكم من الخيرات بمقدار ما ينتج من النفايات والبؤس، النظام الذي يدعي تأسيس حكم القانون والتضامن الإنساني، ولا يتردد في فرض نفسه بالقوة المجردة والتدخلات الهمجية والاحتيال. أقول، لأنها تدرك صعوبة حل مشكلة داعش، مع الحفاظ على السياسات الفاسدة نفسها، فهي تحجم عن أي التزام جدي بمواجهة داعش، وتترك الأمر للشعوب المعدمة، بعد أن قوّضت توازناتها ومزقت نسيجها سياسات السيطرة والسطو والتهميش والابتزاز التي كلفت بها عملاءها المحليين الصغار. باختصار، إنها تتخلى عنها للإرهاب، وتحكم عليها بالحرب الدائمة والدمار والموت.

“شيطنة داعش هي أفضل وسيلة لتبرير الهرب من مسؤوليات مواجهته، ورمي المسؤولية على الآخرين، أولئك الذين كانوا، ولا يزالون، ضحاياه الحقيقيين”

شيطنة داعش هي أفضل وسيلة لتبرير الهرب من مسؤوليات مواجهته، ورمي المسؤولية على الآخرين، أولئك الذين كانوا، ولا يزالون، ضحاياه الحقيقيين. هكذا يتحول داعش إلى خطيئة أصلية قادمة من خارج التاريخ والعالم والعقل، كعفريت خرج من قمقم الدين من دون إنذار، لا قبل لأحد ولا لدولة في مواجهته، أو حتى وضع حد لشهوة القتل التي تسكن أعضاءه. ولا يهدف التركيز المتزايد عليه كأجندة شبه وحيدة للسياسة الدولية، مع غياب أي مبادرات عملية لوقف تمدده، إلا إلى تجنيب السياسات الفاسدة التي تكمن وراء ولادته ونموه الصاعق أي نقد، وإلى الحفاظ من دون تغيير على ضيق أفق الأجندات القائمة على تعظيم المصالح القومية ومنطق الهيمنة وتراكم الثروات والمكاسب الفئوية، على جميع المستويات المحلية والوطنية، الإقليمية والعالمية، على حساب الآخرين.

داعش هو مختصر ثقافة الأنانية والعنف والقهر والإكراه ومستنقع إعادة إنتاجها في الوقت نفسه. إنه الثمرة المرة للاستقالة الجماعية والتخلي عن قيم التضامن الإنساني وهدر الحياة الإنسانية والكرامة البشرية. ليس مستغرباً بعد ذلك أن نجد بين الدول من يطالب بالتحالف مع النظم البدائية والهمجية نفسها التي كانت وراء نشوء داعش، وأحيانا خططت له، لوضع حد لتمدده، مع التأكيد على أن أحداً لا يعرف متى يمكن القضاء عليه، بل في ما إذا كان ذلك ممكناً حقاً.

العربي الجديد

 

 

 

“الدولة الإسلامية” في الواجهة المخيفة مجدداً/ حسن شامي

لا نعلم إذا كان تنظيم «الدولة الإسلامية»، أي «داعش»، يستحسن عقائدياً الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى على إعلان دولة الخلافة. فلم يرد حتى الآن أي تقرير أو نبأ عن احتفال بهذه المناسبة. هذا مع العلم أن في وسع التنظيم أن ينهل من ترسانة تخريجات شرعية وفقهية أقرّت، بعد لأي وجدالات حامية، بفضائل «البدعة الحسنة» التي شرّعت الاحتفال بالموالد من دون أن تقتصر على المولد النبوي الشريف، إذ شملت الكثير من الأولياء وساهمت في غير بلد إسلامي عريق في «طقسنة» الحياة الاجتماعية والثقافة الدينية.

لا يعدم «داعش» العثور على شيوخ يفتون بما هو أكثر من ذلك وبسهولة لا تكترث بمحاذير الفقهاء التقليديين المتجذرين في بيئاتهم الاجتماعية. مع ذلك لم يصلنا شيء من قبيل اعتبار الاحتفال بمرور عام على دولة الخلافة بمثابة بدعة حسنة.

مع ذلك بدا لكثيرين أن الذكرى السنوية العتيدة هذه تزامنت مع سلسلة مجازر وقعت في الوقت ذاته في أمكنة مختلفة، في فندق في مدينة سوسة التونسية حيث تم الإجهاز على 38 شخصاً غالبيتهم العظمى من البريطانيين، وفي الكويت حيث جرى تفجير مسجد شيعي مما أودى يحياة 27 شخصاً وجرح قرابة الثلاثمئة، وفي فرنسا حيث أقدم رجل على قتل رب عمله وقطع رأسه ثم غلّف عملية الانتقام بشعائرية داعشية أرفقها بصورة «سيلفي» مع الرأس المقطوع وأرسلها إلى صديق يقاتل في سورية. ذروة «الاحتفال» كانت في شمال سيناء المصرية حيث شن عدد كبير من مقاتلي تنظيم «أنصار بيت المقدس»، جماعة «ولاية سيناء»، التي تعتبر فرعاً مصرياً لـ «داعش»، سلسلة هجمات استهدفت في وقت واحد مراكز ومواقع للقوات المسلحة والشرطة المصرية. ما حصل في سيناء هو فعلاً حرب بدأت تتخذ شكلاً تصعيدياً بعد مقتل عشرات الجنود والضباط واستخدام الجيش المصري سلاح الطيران لقصف مواقع «داعش» والإعلان عن مقتل عشرات الجهاديين. يمكن أن نضيف إلى هذه التشكيلة من المجازر الإقدام على قطع رأس امرأتين في سورية وتفجير مساجد ومراكز للحوثيين في صنعاء بما في ذلك مجلس عزاء نسائي.

الشريط المصور الذي بثه تنظيم «جيش الإسلام» في سورية عن إعدام 18 مقاتلاً من «داعش» رداً على عملية مشابهة يشي، من ناحية أخرى، بقابلية انتشار النموذج الداعشي في استعراض الفظاعة بتقنيات تصوير وإخراج من الطراز الهوليودي معطوفةً على لغة شديدة التبسيط.

ينبغي وضع الحالة المصرية على حدة. فالمعركة الدائرة في شمال سيناء تأتي في أعقاب اغتيال النائب العام وعلى خلفية نزاع مفتوح بين السلطة وتنظيم «الإخوان المسلمين» وصدور أحكام بالإعدام تطاول مئات من قيادييه وكوادره. هناك أوجه شبه مع الحالة الجزائرية في التسعينات، لكن الفوارق كبيرة أيضاً.

لنقل إن جهاديي سيناء وربما غيرهم يسعون إلى «جزأرة» الوضع المصري لتغليب لغة الاستئصال العاري على ما عداها. العملية الوحشية التي حصلت في فرنسا لا تحمل دمغة داعشية صريحة، فهي أقرب إلى تظهير انتقام فردي داخل مشهدية عنف إسلاموي عريض ومرئي يجتذب الراغبين في نجومية عنف تطهيري وجذري. أما عن مجزرة السياح في سوسة ومقتلة المصلين في مسجد الإمام الصادق في الكويت، فلدينا بلاغان داعشيان ينبغي التوقف عند لغتهما. فقد جاء في بيان على «تويتر» لجماعة «جند الخلافة» التي تنشط في الجزائر وقد بايعت «داعش»: «انطلق جندي الخلافة الفارس الغيور أبو يحيى القيرواني [اسمه سيف الدين الرزقي] مستهدفاً أوكاراً خبيثة عشعشت فيها الرذيلة والكفر بالله في مدينة سوسة». ورأى البيان أن الرزقي «وفّقه الله للنكاية بالكفار نكاية عظيمة أردت منهم قريباً من 40 هالكاً ومثلهم من المصابين، معظمهم من رعايا دول التحالف الصليبي التي تحارب دولة الخلافة». في ما يخص تفجير المسجد الشيعي في الكويت أكد «داعش» مسؤوليته عن التفجير. وتحدّث بيانه عن «انطلاق أحد فرسان أهل السنّة في عملية نوعية». وهذا الفارس هو «الأخ أبو سليمان الموحد ملتحفاً حزام العز الناسف مستهدفاً وكراً خبيثاً ومعبداً للرافضة المشركين في حي الصابري بمنطقة الكويت».

يظهر من تشابه أبرز المفردات في البيانين الصادرين عن جماعتين تنشطان في فضاءات بلدان مختلفة أن الفروسية هي الصفة المشتركة لفاعلي المقتلتين. ونجد في الحالتين توصيف «الوكر الخبيث» لأمكنة تواجد الأعداء. ومع أن الفارق كبير بين فندق سياحي يضم العديد من الأوروبيين وبين مسجد يؤمه مصلّون شيعة، فإن هذا الفارق الهائل، في نظر الكثيرين، يفقد أي اعتبار بسبب تماثل الهوية السلبية واشتراك الطرفين في تهديد نقاء الجماعة. الفندق السياحي وكر للرذيلة والكفر يهدد الجماعة من الخارج. أما المسجد الشيعي فهو معبد للرافضة يهدد الجماعة من الداخل. وإذا أضفنا مفردة «الغزوة» وشيوعها في أدبيات الجهاديين تتكون لدينا صورة عن كيان الخلافة المنشود ودولته: جماعة من دون مجتمع، ودولة مطابقة لسلطة المتغلب. الأمة المنشودة هي عصبية مهددة على الدوام داخلياً وخارجياً. من يستند إلى هذا النوع من التعليل التعويذي يسهل عليه توليده داخل الجماعة المنسوبة إلى هوية عقائدية واحدة.

فصول المعارك المتجددة دورياً بين الفصائل الإسلامية المتفرعة من «القاعدة» ومشتقاتها وأشباهها، ليس في سورية فقط بل في غير بلد، هو قرينة على غياب أي تحكيم سوى الغلبة والعنف الذي يصاحبها لفرض الطاعة والولاء.

بات لـ «داعش» فروع كثيرة منتشرة في العديد من الأمكنة. يخيل لنا للوهلة الأولى أنها مشروع قادم من جوف مجتمعات إسلامية تعطل فعلها التاريخي. هذا ما يعد به على أي حال دعاة «داعش» ومناصرو السلفية الجهادية. فكرة الخلافة نفسها تبدو استئنافاً لمسار تعرض لانحراف قسري. لكن فقر التعبير وتقلص البعد الروحي والإنساني إلى حد الانعدام غالباً يجعلاننا نرجح أن تكون الظاهرة ثمرة من ثمرات التفكير التقني الشائع والمسيطر في أيامنا. وهذا ما يجعل «داعش» وفروعه أشبه بشركة إسلامية متعددة الجنسيات. سوق العنف مزدهر لاعتبارات كثيرة. «داعش» وأمثاله يضخون من خلال شعارات عقيدة دينية مزعومة الشرعية المطلوبة لمختلف أنواع الفتوة المقطوعة الصلة عن أي سند روحي وصوفي.

الحياة

 

 

 

 

حول وحدة الدولة السورية/ عبد الجليل زيد المرهون

ما الذي تعنيه سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة تدمر، بعد أسابيع من سيطرة “جبهة النصرة” على إدلب، وذلك بالتوازي مع تطورات الجنوب السوري؟

هل نحن بصدد منعطف تاريخي على صعيد وحدة الدولة السورية؟ وما هي صلة الأحداث الراهنة بمسار التفاعلات الإقليمية مع الشأن السوري؟ وبعد ذلك، هل ثمة معنى أو مغزى للتسويات السياسية، ومع من يُمكن للسلطة السورية أن تعقد مثل هذه التسويات؟

بداية، تجدر الانطلاقة من تعريف الحدث السوري ذاته، في مضمونه وماهيته الأولى، الفعلية أو الافتراضية.

هذا الحدث جرى تعريفه بداية على أنه مسار تغييري أو إصلاحي، تفاوتت تقديرات المحللين حول آفاقه. ولكن دون الحديث عن آلياته وسبل إنجازه.

ومنذ البدء، اختلط ما هو واقعي ومنطقي بما هو مثالي بعيد عن الواقع ومنفصل عن سنن التغيير وشروطه وأحكامه. كما جرى القفز، في الوقت ذاته، على الآليات المنطقية للعمل الوطني، وتم تعزيز المضمون الأمني للأحداث الدائرة. وجرى لاحقا تأطير هذا المضمون والسهر عليه، ومنحه كل مقومات الديمومة والاستمرار.

وعند هذا المنعطف، أضحى من الصعب تعريف الحالة السورية استنادا إلى المصطلحات والمفاهيم ذات الصلة. وكمحصلة، خسرت سوريا وتضاعفت معاناة أهلها. لكنها ظلت، على الرغم من ذلك، محافظة على إطارها وهويتها الجامعة، تماما كما فلسفة وجودها الناظمة.

ودعونا الآن نعود إلى سياق التطورات وبعض دلالاتها.

لا يشك أحد فيما تُمثله مدينة مثل إدلب أو الرقة أو تدمُر في حسابات السوريين. وعلى الرغم من ذلك، لابد من التفريق، على مستوى التحليل، بين ما هو قيمي ووطني عام، وما هو ذو صلة بتوازن القوى والميزان الإستراتيجي عامة.

إن السؤال الذي فرض نفسه أولا على السوريين، وكل المعنيين والمراقبين، هو: هل بات القُطر السوري مهددا بالتقسيم؟

الجواب: كلا. لماذا؟

أولا، ليس هناك من تشكيل سياسي أو عسكري قادر على إدامة سيطرته على محافظة أو مدينة كبيرة إلى أجل غير مسمى، والدليل هو ما يجري الآن في الرقة، وما جرى في أرياف دمشق وحمص. وإدامة هذه السيطرة يلزمها تدخل خارجي، من شأنه أن يقود إلى حرب إقليمية، بل هو على الأرجح سيقود إلى ذلك.

ثانيا، ليس هناك من القوى الدولية أو الإقليمية من يُمكنُها رعاية مشروع تقسيم علني للدولة السورية، حتى وإن دعمت سرا جماعات تمارس التقسيم على أرض الواقع. إن هذه القوى تدرك، دون ريب، أن مجازفة بهذا الحجم الكبير والخطير قد ترتد عليها على نحو وخيم وغير محمود.

ثالثا، إن من يتحدثون عن خطر التقسيم يفترضون ضمنا أن ثمة تجانسا ووئاما قائما بين التنظيمات المسلحة المسيطرة على هذه المدينة أو تلك وبين السكان القاطنين فيها. وهذا افتراض يصعب إثباته على نحو محايد.

رابعا، لا تتمتع أي من المدن أو المحافظات السورية، الخاضعة للتنظيمات المسلحة، بالمقومات الأساسية التي تؤهلها لتشكيل دولة مستقلة.

وعلى مستوى المفاهيم، من المفيد التأكيد على حقيقة أن مدينة زائد مدينة لا تساوي وطنا بل مدينتان. وقد نكون بصدد ثلاث مدن أو أربع. الوطن، أي وطن، يتكون من شعب وأرض وهوية، وابتداع الكانتونات والدويلات من رحم الوطن هو مشروع انتحاري وخيم العواقب، يقفز على مشتركات الجغرافيا والتاريخ والحضارة. وقبل ذلك وحدة الاجتماع السياسي الوطني. وعلى الجميع التأمل جيدا في تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، وهي ليست منا ببعيد. وهذا خير من الاستغراق في الوهم.

وخلاصة القول في هذا الشأن هي أن من يراهن على تفتيت سوريا، وتمزيق وحدتها الترابية، هو بالضرورة لا يجيد قراءة الواقع، واستيعاب دينامياته، والعوامل المؤثرة في سياقها الكلي الناظم. ولذا لا يُمكنُه أن يكون رابحا، حتى وإن كسب عشر معارك متتالية.

على صعيد البعد الخاص بالميزان الإستراتيجي، من الواضح أننا أمام مشهد أكثر تعقيدا مما قد يبدو لأول وهلة.

بداية، ما جرى تحقيقه مؤخرا من قبل تنظيمات مسلحة في إدلب، ومناطق أخرى، يُمثل مكاسب آنية. وقد يكون ثمن التمسك به باهظا. وهو ربما أتى على حساب مكاسب أخرى سبق أن حققتها هذه التنظيمات. وهذه قاعدة الحرب التي يدركها كافة العسكريين، حيث يتعلمونها في السنوات الأولى لانتسابهم للكليات الحربية.

وعليه، لا يُمكن لأي جهة الاعتداد كثيرا بكسب معركة هنا أو هناك، خاصة وأننا بصدد مسرح عمليات يمتد على مساحة واسعة من الأرض السورية، وتدور فيه مئات المعارك المتزامنة.

وبالعودة إلى مسألة الميزان الإستراتيجي، فإن دراسة ذلك تستوجب، على الصعيد المنهجي، مستويين من التحليل: الأول ذو صلة بالتعادل الحسابي للقدرات. والثاني يرتبط بالإطار الخلفي للقوة، الذي يسمى أيضا مصادر القوة الأولية.

يشير التعادل الحسابي إلى حجم القوات والعتاد لدى الأطراف المختلفة، وطبيعة الانتشار ونوعيته، وعناصر أخرى ذات صلة ببيئة المعركة. وترتبط بالتعادل الحسابي مسألتا توازن القوى والردع، وهما قضيتان منفصلتان كمفهوم، لكنها متلازمتان في حسابات الدفاع.

كذلك، فإن توازن القوى لا يعتبر اصطلاحا رديفا للميزان الإستراتيجي، وعادة ما يجري الخلط بين هذين المصطلحين.

في الحالة السورية، ليس ثمة تعادل حسابي على مستوى القوات أو العتاد. كما تتباين كثيرا درجة التكامل بين الأسلحة لدى كل فريق. وتبدو الكفة مائلة لمصلحة الجيش السوري والتشكيلات العسكرية الرسمية الرديفة له.

وعلى صعيد الإطار الخلفي للقوة، أو مصادر القوة الأولية، تبدو الكفة أيضا مائلة في الاتجاه ذاته. وهذا أمر مفهوم وبديهي، إذا كان الأمر يتعلق بالمقارنة بين السلطة (أو الدولة) والمجموعات المعارضة. أو لنقل تلك التي تصطدم بها عسكريا، كما هو في الحالة السورية.

وعليه، فإن الميزان الإستراتيجي، في سياقه الكلي، مازال لمصلحة الدولة السورية، وذلك بلحاظ كل من التعادل الحسابي ومصادر القوة الأولية. وهذه هي الخلاصة العلمية التي يُمكن للمحللين الإستراتيجيين الخروج بها، بمعزل عن المواقف والخيارات السياسية والأيديولوجية للقوى والأطراف المختلفة.

على صعيد علاقة التطورات الأخيرة في الساحة السورية بتفاعلات المحيط الإقليمي ودوره، يُمكن القول إن هذه التطورات قد أشرت لتعاظم هذا الدور، واتجاه بعض القوى فيه لتعزيز المضمون الأمني للأزمة على حساب مضمونها السياسي، والذهاب به إلى أقصى الحدود التي يُمكن أن تحتملها. وهذه هي سياسة الحافة -كما يجري تعريفها- أو حافة الهاوية. وهي أشبه بمن يقف على صخرة تطل على واد سحيق، دون أن يدرك بأنها قد تهوي به إلى هذا الوادي رغم كل احتياطاته المفترضة. وهذا إن كان أصلا ثمة وجود لهذه الاحتياطات.

إن سوريا تمر اليوم بمنعطف، قد يكون الأكثر حساسية في تاريخها الحديث. وعلى قوى المجتمع الدولي أن تبادر للدفع باتجاه تسوية سلمية للأزمة، حفاظا على استقرار الشرق الأوسط والأمن الدولي. وعلى هذه القوى أن تدرك بأن بلقنة الشرق خيار لا يُمكن للعالم تحمله

” هذا الوضع، الذي نحن بصدده، يشير إلى تعاظم الاتجاهات السالبة على مستوى تفاعلات النظام الإقليمي الشرق أوسطي.

والنتيجة هنا تكاد تتماثل مع السبب، بمعنى أن المرء بمقدوره القول إن سوريا تدفع ثمن تدهور تفاعلات هذا النظام وغلبة مضامينها الصراعية. كما يُمكنه أيضا القول بأن الأزمة السورية قد دفعت باتجاه تسخين هذا النظام وتأزيم تفاعلاته البينية.

ويشير وضع الشرق الأوسط الراهن كذلك إلى ارتفاع منسوب التقاطب الدولي في ساحاته. بل إن هذا التقاطب لا نظير له منذ ثلاثين عاما على أقل تقدير.

وإذا كان صحيحا القول إن التقاطب الدولي له تجلياته الإقليمية المختلفة، فإن الصحيح أيضا هو أن الساحة السورية تشهد اليوم قمة هذه التجليات. وقد يكون من الصعب الاستنتاج بأن الأزمة السورية دمرت بيئة النظام الدولي، إلا أنها دفعت، بكل تأكيد، باتجاه رفع منسوب توتراته، وشكلت أحد أسباب الإطاحة بفرص الوئام فيه.

وبعد ذلك كله، ماذا عن فرص التسوية السياسية، وبين من يُمكن أن تكون هذه التسوية؟

لاريب، أن هذه التسوية قدر لا مفر منه بالنسبة لكل السوريين، مهما طال بهم أمد النزاع والصراع. واليوم، ثمة رعاية أممية لمشروع المصالحة الوطنية، ورغبة في إنجازها. ونقصد بذلك تحديدا، مبادرة المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، التي يُمكن الانطلاق منها نحو تسوية أوسع أفقا ونطاقا.

وإذا كانت رغبة الأمم المتحدة ثابتة وأكيدة على هذا الصعيد، ولا جدال فيها، فإن القضية تبقى متأثرة حكما بمقاربة القوى الدولية والإقليمية، وما إذا كانت راغبة حقا في إنجاز تسوية سياسية، بدلا من إدامة الوضع الراهن.

إن سوريا تمر اليوم بمنعطف، قد يكون الأكثر حساسية في تاريخها الحديث. وعلى قوى المجتمع الدولي أن تبادر للدفع باتجاه تسوية سلمية للأزمة، حفاظا على استقرار الشرق الأوسط والأمن الدولي. وعلى هذه القوى أن تدرك بأن بلقنة الشرق خيار لا يُمكن للعالم تحمله، أو التكيف مع تبعاته. وإن من شأن هذا الخيار أن يضع أوروبا خاصة على كف عفريت. ويرمي، في الوقت ذاته، بتداعياته الأمنية والاجتماعية على نطاق دولي أوسع مدى.

الجزيرة نت

 

 

 

 

تنظيم الدولة يعبث بالواقع الجيوسياسي الجديد: مشاريع توحيد الأكراد والدروز أجواء تقاسم ومحاصصة وعين أردوغان على الموصل/ بسام البدارين

عمان ـ «القدس العربي»: الحركة النشيطة التي يظهرها منذ ثلاثة أسابيع تقريبا الزعيم الكردي مسعود البارزاني وهو يطرح مشروعه بعنوان (توحيد الأكراد) لها ما يبررها ويسوغها في الواقع بعد ان دخلت القوى الإقليمية الأساسية في المنطقة في مزاج المحاصصة والتقسيم الذي فرضته على الجغرافية السياسية معادلة بقاء وتمدد دولة الخلافة الإسلامية.

البارزاني وبعد ترتيب أوراق حزبه الداخلية في السياق بدأ يوجه الرسائل لبعض عواصم المنطقة وعبر قواته العسكرية فرض في الميدان واقعا موضوعيا يجعل مصيره أو مصير أكراد شمال العراق مرتبطا بمصير أكراد سوريا.

تجلى ذلك في النشاط العسكري الكردي الذي قاده عن بعد أركان حرب البارزاني وتمكن من طرد قوات تنظيم الدولة من عين العرب السورية ومن مشاغلتهم أيضا في الحسكة.

غرفة العمليات الأمريكية المقامة في عمان لتنسيق عمليات التحالف الدولي المناهض لتنظيم الدولة بدأت تتلقى رسائل وبرقيات ومعلومات ومعطيات مختلطة مرة من الأكراد ومرة من الدروز.

لم تكن صدفة بالتأكيد تلك الظروف التي دفعت البارزاني للبحث عن حصة الأكراد بعد الاهتمام بتوحيدهم بالتزامن مع مبادرة توحيد مماثلة تبناها بنشاط باسم الدروز وبني معروف الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط .

كلاهما جماعة جنبلاط ومجموعة البارزاني موجودان على نحو أو آخر اليوم في غرفة عمليات التحالف كما تؤكد مصادر «القدس العربي» ضمن معطيات ترتيب الأوراق للحفاظ على الحصص العرقية والطائفية إذا ما انتقلت عملية التقسيم الجغرافي تحديدا من مرتبة المزاج العام السياسي إلى مستوى النفاذ الميداني على الأرض.

لذلك وكما قالت «القدس العربي» في تقرير سابق لها، يعمل الفرقاء في التحالف الدولي المناهض لتنظيم الدولة على تخصيص صنفين من الأسلحة، الأول فعال ونشط وحديث ومتطور سيخصص للدروز والأكراد والصنف الثاني أسلحة فردية ستوزع ضمن برنامج تسليح العشائر السنية في العراق وسوريا خوفا من انتقال أسلحة متطورة يمكن ان تسلم للعشائر السنية إلى المنظمات الجهادية مثل تنظيم الدولة وجبهة النصرة.

بعيدا عن حسابات التسليح وغرف العمليات يرصد المراقبون سباقا مهووسا نحو المحاصصة والتقاسم في ظل أمزجة التقسيم تفاعلا مع ايقاع جغرافي فرضته ليس حركة تنظيم الدولة على الأرض في الواقع، ولكن قدرته – أي تنظيم الدولة- على مشاغلة عدة أطراف عسكرية في الوقت نفسه في الرقة أو في الأنبار والرمادي أو حتى في محيط درعا والسويداء ضد الدروز وجبهة النصرة.

الايقاع الجغرافي الجديد الذي يفرضه تنظيم الدولة ساهم في توحيد بعض الأقليات في المنطقة وعزز مناخات التقسيم، فالدوائر السياسية الأمنية تحديدا في الأردن والسعودية بدأت تلتقط الرسائل من مسعود البارزاني الذي يلوح بإعلان وشيك لدولة درزية موحدة بين هوامش المهلة الزمنية التي يمنحها لغرف العمليات.

في المقابل نشط جنبلاط ورفاقه في إحياء مشروع توحيد الدروز وحمايتهم وبصورة يمكن ان تقودهم لاحقا لإعلان إدارة ذاتية تنفصل عن بقية الإدارات.

مثل هذه الطروحات التي لم تعد سرا في كل الاجتماعات المغلقة، دفعت بالتوازي رجال أعمال وقادة عشائر عراقية في منطقة الأنبار لتفعيل خطوط الاتصال والتنسيق مع الدولة الأردنية حتى وصل الأمر إلى عقد لقاءات تنتج عنها مبادرات تعلن عدم ممانعة أهالي الأنبار وعشائرها الانضمام للدولة الأردنية إداريا اذا تطلب الأمر.

وهو موقف يتخذ بخجل حتى الآن وبصورة أقل حدة ووضوحا من قبل قادة عشائر موالون للأردن في محيط محافظة درعا جنوب سوريا.

ما يصل من رسائل من بعض قادة الأنبار ودرعا يقدم مساهمة فعالة ونشطة في وضع سيناريو باسم توسيع المملكة الأردنية الهاشمية شرقا باتجاه الأنبار وشمالا بإتجاه درعا، الأمر الذي يمكن التمهيد له بإعلان مناطق آمنة تحت عنوان إعادة توطين اللاجئين السوريين في درعا أو منع حصول حالة لجوء إنسانية للعراقيين في الأنبار.

هذا المنطق التسابقي نحو اقتناص الأحداث واستثمار وتوظيف واستغلال ما تحدثه قوات تنظيم الدولة من عبث في الجغرافية السياسية يدفع عواصم المنطقة لمراقبة المعطيات التركية تحديدا، لان إعلان دولة كردية موحدة سيغذي حسب مصادر أردنية وسعودية مطلعة جدا رغبة تركيا أردوغان في البحث عن مصالحها أيضا.

وهي الرغبة التي يتم التعبير عنها بين الحين والآخر بمنع حصول حسم عسكري ضد تنظيم الدولة في العراق وشمال سوريا وهي التهمة التي تروج دوما ضد انقرة.

وسط بعض المحللين الاستراتيجيين لا يوجد ما يمنع تركيا في حال انتشرت فوضى ومناخات التقسيم والانقسام الطائفي القبلي من المطالبة أو احياء المطالبة بحصتها من الأرض العراقية وهو التساؤل الذي يطرحه سياسي مخضرم من وزن رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري وهو يسأل: ما الذي يمنع تركيا من المطالبة بالموصل العراقية مادامت مناخات التقسيم تفرض ايقاعات فوضوية على الجميع؟

المصري استمع مرة لملاحظة عابرة عن وجود بند رمزي في الموازنة المالية التركية منذ سنوات بدون قيمة مالية حقيقية تحت اسم الموصل..

لاحقا توثق المصري من هذه المعلومة، ويعتقد كبار المثقفين السياسيين ان توظيف فوضى الجغرافيا وفقا للايقاع الذي يفرضه تنظيم الدولة لن ينتهي عند حدود وسينتج ويولد العديد من الطموحات عند اللاعبين الإقليميين الكبار.

يفترض وفقا للمنطق السياسي المشار إليه ان تتعزز مثل هذه الطموحات عند الأكراد والدروز والأتراك وحتى الأردنيين في ظل الوقائع الجديدة التي ستفرضها على المنطقة الاتفاقية النووية النهائية بين الولايات المتحدة وإيران وهي اتفاقية يفترض حسب الفهم الخليجي وتحديدا السعودي ان تحول طهران إلى مركز تحالف رئيسي للولايات المتحدة، مما يقلص الأهمية الاستراتيجية للنظام الرسمي العربي وتحديدا منظومة النادي الخليجي.

النظام الرسمي العربي وإسرائيل هما الخصم الأبرز اليوم للتوافق الإيراني الأمريكي، وعامل إسرائيل التي ستشاغب على الجميع للنفاذ من الواقع التقسيمي الجديد لا يمكن إسقاطه من الحساب خصوصا وان شخصيات بارزة ومن بينها المصري بدأت تطلق العنان لتحليلات معمقة عنوانها المخاوف من ان يدفع الشعب الفلسطيني حصريا ثمن تقسيمات سايكس- بيكو الطائفي الجديد في المنطقة.

 

 

 

 

 

عام على إعلان دولة الخلافة: هجمات التحالف على تنظيم الدولة في سوريا رفعت من شعبيته/ رائد الحامد

لا يمكن الفصل بين المشهدين العراقي والسوري بعد ان فرض تنظيم الدولة واقعا جديدا أطاح بموجبه بالحدود الإدارية القائمة بين البلدين منذ قرن كامل، وفرض جغرافية مشتركة زادت من تعقيد المشهد في عموم الساحة السورية.

في العراق، يحتكر تنظيم الدولة السلاح السُنّي بشكل مطلق، ولا توجد هناك فصائل مسلحة أخرى تقاتل الميليشيات الشيعية والقوات الأمنية، وهو ما سهل من مهمة التنظيم في تكريس وقائع تساهم في استمراريته، أما على الجانب الآخر من الحدود، فهناك أكثر من مئة فصيل من مختلف التوجهات الفكرية، والتنظيمية، يقاتلون نظام الرئيس بشار الأسد، ومع هذا يستمر تنظيم الدولة في تحقيق إنجازات عسكرية مهمة، مثل سيطرته مؤخرا على مدينة تدمر، وبعض أجزاء مركز محافظة الحسكة، والتقدم في جنوب دمشق وغيرها من الريف الحلبي.

وفيما يخص تنظيم الدولة في سوريا، نشأته، وبقائه، يتحدث الإعلامي السوري المرافق للفصائل السورية، غالب طعمة أبو الجود، لـ «القدس العربي» قائلا: «تمتاز التنظيمات الإسلامية ببنية هرمية منضبطة، وتتسم بطابع جدّي في نصرة قضايا الأمة وإزالة كل أشكال الظلم. ويقترن هذا بخطاب إعلامي مؤثر معتمدين على الدين، والموروث العقائدي ذي الطبيعة الساحرة لعقول الشباب، وصغار السن، بما يرسخ خطابها وييسر قبوله لدى جمهور التنظيمات الأخرى».

ويضيف قائلا: «يركز تنظيم الدولة على تدريب كافة جنوده ليصبحوا قادة، وهؤلاء عادة يتقدمون المقاتلين في الصفوف الأولى، وهو ما يفسر كثرة أعداد القادة الذين يُقتلون في المواجهات، وسهولة تعويضهم، وهذا من أهم عوامل الجذب للشباب الملتزم بمقولة (صدق دعوتنا باستشهاد قادتنا) وهي مما تتغنى بها الفصائل ذات الطابع الجهادي، وهي المقولة التي جسدها تنظيم الدولة حقيقة وواقعاً». ويختم قائلا: «هذا من الأسباب الأساسية لاستمرار تنظيم الدولة، ورسوخه، في أماكن تواجده، وتمددّه ونجاحاته في طريق تحقيق الهدف المرسوم».

تتنافس الفصائل السورية على كسب المزيد من الاتباع، «ويلعب عامل الدعم المالي الخارجي دورا كبيرا في زيادة أعداد الملتحقين بهذا الفصيل، أو ذاك، ويقوم علماء دين ومنظمات أهلية مرتبطة بهم بتقديم الدعم للفصائل السورية، وكان التركيز منذ الأيام الأولى للثورة السورية على الفصائل والكتائب الإسلامية، حتى بدت الثورة وكأنها ثورة إسلامية بامتياز، لكن بمرور الوقت أثبت قادة تلك الفصائل الإسلامية سوء إدارتهم للجانب المالي، فيما بقي تنظيم الدولة يمول نفسه ذاتيا، وهو ما أكسبه احترام السكان المحليين الذين لا يحترمون أي فصيل يقايض موقفه بموقف الجهات الممولة»، كما يقول قائد كتيبة فجر الحرية، عمار الأشقر، لـ»القدس العربي».

يعتمد منهج تنظيم الدولة في الأساس على محاربة «الغرب الصليبي»، وقتاله حول العالم، وهو يرى، «ان تبني العالم الغربي لمعايير مزدوجة في التعاطي مع قضايا العرب والمسلمين، زاد من القبول الاجتماعي للتنظيمات التي ترفع شعار قتال الغرب الذي صنفها كتنظيمات إرهابية، ما ولد شعورا لدى معظم المقاتلين بصواب منهج تنظيم الدولة الأكثر تطرفا في مواجهة الغرب، وهذا عامل من عوامل بقاء التنظيم وازدياد حالات الانضمام إلى صفوفه».

يوفر تنظيم الدولة في مناطق سيطرته معظم متطلبات الحياة المتاحة، «ويعيش الناس حياة أفضل من غيرهم في مناطق سيطرة الدولة، وهناك هجرة ملحوظة إلى مدينة الرقة، وهو ما يعكس نموذجا مغايرا لمناطق سيطرة الفصائل والكتائب الإسلامية، حيث تستشري حالات فساد مالي كبير بسبب فساد الكوادر التي تساهم في إدارة تلك المدن من قبل قيادات وكوادر بعض فصائل الجيش السوري الحر والكتائب الإسلامية المعتدلة، هذا وغيره يعد سببا من أسباب بقاء التنظيم، وصعوبة هزيمته طالما تمتع بقبول اجتماعي واضح يحول دون خلق بيئة اجتماعية معادية له، وهي الأهم في معادلة الصراع، حيث لا يمكن لقصف التحالف والنظام ان يهزمه دون ان تكون لهما قوة فاعلة على الأرض، وهو ما لم يتوفر على الأقل في المدى المنظور». كما يقول الناشط الإعلامي، أبو معاذ، من مركز مدينة الحسكة في الشمال السوري.

هناك رأي عام يسود أوساط المجتمع الدولي بكفاية الضربات الجوية لإسناد القوات التي تقاتل من أجل هزيمة تنظيم الدولة، وردا على هذا، يرى الشيخ أبو سليمان الحسن، أحد قادة الثورة في أيامها الأولى، «وهي فكرة خاطئة، فمجتمعنا العربي والمسلم، يرفض التعاون مع الآخرين ضد أبناء بلدهم، كما يرى ان ما يقوم به التحالف العربي والدولي في سوريا والعراق إنما هو عدوان يستهدف السُنَّة دون غيرهم، وهذا ما أكسب تنظيم الدولة المزيد من التأييد في الوسط الاجتماعي العام من رؤية شعبية ترى ان أي طرف تحاربه أمريكا إنما هو طرف على عقيدة دينية سليمة»، كما يقول.

 

 

 

 

بعد عام على سقوط الموصل: العشائر ترفض عودة الشيعة والأكراد/ عبيدة الدليمي وعبد الله العمري

اعتقد كثير من العراقيين، وغيرهم، ان سيطرة تنظيم الدولة على مدينة الموصل بعد الانهيار الكبير في القوات الأمنية ستكون وقتية، وسوف لن يلبث التنظيم طويلا حتى يعود إلى معسكراته في صحراء الأنبار. كما برزت العديد من الآراء التي استهانت بقدرات التنظيم وعكفت على تبني نظرية المؤامرة، ومن بينهم قادة سياسيون ومحللون وباحثون، رأوا ان سقوط الموصل هو نتيجة مؤامرة على الرغم من موجة من القتال الأعنف لأربعة أيام متتالية تسببت في هزيمة القوات الأمنية، وانهيار معنوياتها في سيناريو شبيه بانهيار القوات المدافعة عن بغداد خلال ساعات قليلة من وصول القوات الأمريكية إلى مشارفها.

فبعد يومين من سقوط مدينة الموصل، تَمّ تشكيل الحشد الشعبي، بموجب فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني، وهو غطاء، أو إطار، تضع من خلاله قوات الحشد الشعبي السكان السُنَّة أمام خيار تفضيل البقاء تحت سيطرة الدولة الإسلامية على عودة القوات الأمنية الشيعية إلى مدنهم ثانية. وهو سبب جوهري يؤدي حتماً إلى عزوف غير المستهدفين مباشرة من قبل تنظيم الدولة الإسلامية عن الالتحاق بقوات الحرس الوطني أو الحشد الشعبي.

تؤكد الكثير من الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ترحيب السكان المحليين بمقاتلي الدولة الإسلامية، على الأقل في الأسابيع الأولى لخروج الموصل عن سيطرة الحكومة المركزية، وفرض الدولة الإسلامية سيطرتها عليها بعد أربعة أيام من القتال الشرس، ويعود هذا حسب ما يرى مصدر عشائري بارز في عشيرة الحديديين في الموصل في اتصال مع «القدس العربي»، إلى «واقع معاناة السُنَّة طيلة سنوات الاحتلال، واستمرار هذه المعاناة على يد الحكومة المركزية بعد الانسحاب، والنهج الطائفي لها، خاصة خلال فترتي حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي لم يعد ثمة خلاف على طائفيته حتى في أوساط السياسيين الشيعة أو الإدارة الأمريكية».

عن بعض الأسباب التي تقف وراء احتفاظ تنظيم الدولة بقوته في الموصل، ومحيطها، رغم كلّ الحملات العسكرية، والإعلامية، يرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية عمر الفلاحي، ان ذلك يعود إلى «تميز سكان الموصل بالتزامهم الديني، واحترامهم للعلماء ومكانتهم الدينية والاجتماعية، وهي جوانب مهمة سهلت مهمة تنظيم الدولة الإسلامية في إدارة المدينة، وتطبيق ما تراه حدودا شرعية تتولى أمر تنفيذها مجموعة من العاملين في ديوان الحسبة، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ويضيف، ان «الموصل وأهلها عانوا طويلا من الاضطهاد الطائفي الذي مارسه الجيش العراقي، كما هو الحال مع البيشمركة الكردية العنصرية التي قضمت الكثير من الأراضي العربية التابعة للموصل، وضمتها إلى إقليم كردستان، وبالتالي فان التنظيم استغل هاتين المعضلتين المزدوجتين لطرح نفسه بديلا ثالثا عن الحالتين، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير».

كسب البيئة الاجتماعية من عوامل نجاح أي تنظيم في البقاء، واستمرار قوته، وقد استطاع تنظيم الدولة تجيير «الخلافات الاجتماعية والطائفية والقومية، وتناقضاتها، لصالح مشروعه، ففي الحرب الطائفية، وضع نفسه حاميا لسنة العراق والشام، وفي الصراع القومي تغلغل في داخل القرى والمدن العربية التي ظلت تعاني من سطوة البيشمركة الكردية، لهذا نحن اليوم أمام قيادة سياسية قادرة على استغلال الصراعات المختلفة، وتوظيفها لمصلحة نجاح مشروعه الذي يكافح من اجله»، كما يقول الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية عمر الفلاحي.

لعبت مدينة الموصل على مر التاريخ أدوارا مهمة في حقب مختلفة، ولم يترك تنظيم الدولة نشاطاته في المدينة، وتركيزه عليها بشكل أكبر، واتخاذها القاعدة الأهم لنشاطاته بعد تراجعه في الأنبار في العام 2007، حتى تاريخ دخوله إليها في العام الماضي. ومع سياسات القوات الأمنية المعروفة بنهجها الطائفي، «اكتسب التنظيم بيئة صديقة تعزّزت أكثر»، كما يقول أستاذ قسم التاريخ في جامعة الموصل سابقا، هاشم حميد، في حديثه مع «القدس العربي»، ويضيف مؤكدا على مرونة اتبعها التنظيم في شؤون إدارة المدينة مع «عدم تهاونه في جانبين اثنين، الشرعي والأمني، وقد أعلنت عشائر عدّة بيعتها للتنظيم، واستعدادها للقتال إلى جانبه ضد أي قوة تحاول اقتحام الموصل، كما ان العشائر الأخرى التي لم تبايعه تتبنى الموقف نفسه في الدفاع عن المدينة، وعدم السماح مستقبلا بحكمها من قبل الشيعة، أو الأكراد تحت أي ظرف كان».

ويختم أستاذ قسم التاريخ في جامعة الموصل سابقا، هاشم حميد، حديثه مع «القدس العربي» قائلا: «الموصل هي ثاني أكبر مدن العراق، وشعور أهلها، وعموم أهل السُنَّة، ان بغداد لم تعد كما كانت، وانها لم تعد عاصمة لبلدهم العراق، وهي ليست بيد أهلها، إنما بيد الغرباء عنها، هذا وغيره ولّد قناعة لدى أهل الموصل، مفادها ان السنة بعد سيطرة الدولة الإسلامية على مدينتهم بات لهم وزن واعتبار، وأنّ مدينتهم أصبحت عاصمة لأقوى كيان ناشئ، وهو أمر يتماهى مع تاريخ الموصل وأهلها المعروفون باعتزازهم بالهوية الموصلية، وتقديمها على ما سواها، لذا أرى انهم سيدافعون عنها مهما بلغت الأكلاف، ومهما حاول بعض أبنائها تجنيد ضعاف النفوس للقتال إلى جانب الشيعة، والأكراد، والتحالف الدولي، لاستعادة المدينة، فمعظم السُنَّة ليسوا مستعدين للتعاون مع الحكومة العراقية، والولايات المتحدة، ضد الدولة الإسلامية إلاَّ من قبل قلّة منهم لأغراض شخصية، أو دفاعا عن أنفسهم من تهديدات الدولة الإسلامية بسبب ماضي تعاونهم مع قوات الاحتلال في مجالس الصحوات العشائرية، أو الفصائلية».

 

 

 

 

 

بعد عام على سقوط الموصل: التنظيم يتفوق على منافسيه بالصراع على العقول قبل الميادين/ وائل عصام ورائد الحامد

بعد سقوط الموصل، وادراكا منها لتهديد جدي لمصالحها، دفعت الدول العربية المعنية باتجاه تشكيل التحالف الدولي، بالتنسيق مع الدول العربية الأخرى، والغربية، بقيادة الولايات المتحدة وبإسناد عربي رسمي لمواجهة الدولة الإسلامية، والحد من اتساع رقعتها الجغرافية باتجاه الأردن، والسعودية، ودول الخليج، وهو ما قد يشكل خطراً على المصالح الغربية، وتهديداً جدياً لها حول العالم. إلاَّ ان تصريحات لمسؤولين غربيين، ووقائع ميدانية ملموسة تؤكد على صعوبة القضاء على التنظيم الذي تحالفت ضده عشرات الدول لمساندة القوات الأمنية العراقية، وقوات الحشد الشعبي الشيعية، ومقاتلي صحوات العشائر السُنيَّة.

بعد أقل من شهر على سيطرته على الموصل، شن التنظيم هجوما كبيرا على المناطق العربية المجاورة لحدود إقليم كردستان، وهي المعروفة باسم المناطق المتنازع عليها، انطلاقا من مدينة الموصل التي تعد بمثابة العاصمة التي أعلن منها أبو بكر البغدادي دولة الخلافة الإسلامية، «لكن اعتماد التنظيم مبدأ اللامركزية في إدارة مناطق نفوذه، لم يبوأها تلك المكانة السياسية، لكنها ظلت المنطلق الأساسي لشن الهجمات، وهو بذلك أقنع السكان المحليين وقوفه إلى جانبهم في التصدي للتهديدات الكردية بالاستحواذ على المناطق العربية لضمها إلى إقليم كردستان تمهيدا لإعلان دولة كردية مستقلة تمتد إلى مناطق في شمال سوريا، حيث يستمر التنظيم بذات مهمة التصدي للمشروع الكردي على الأراضي السورية، وحماية المناطق والمدن العربية بما يؤدي إلى تقويض المشروع الكردي، وهو ما أدى إلى وقوف العرب إلى جانب التنظيم، مما أعطاه قوة مضافة ساهمت في الحد من احتمالات بناء قوة محلية قادرة على هزيمة التنظيم»، كما يقول المحلل المهتم بشؤون المقاومة العراقية، محمد العمري، لـ «القدس العربي».

من جانب آخر، يرى «ان الصراع هو صراع إرادات، وعقول، قبل ان يكون صراع ميادين. فالتنظيم يهزم القوة المهاجمة على أصعدة عدّة قبل ان يهاجمها عسكريا، وهذا يعود إلى تفوقه في الجانب الإعلامي والسياسي، كما هو تفوقه المعروف في الجانب الفكري والمنهجي، على باقي مناهج الجماعات الإسلامية، بسبب ما يعكسه من صورة ثبات على العقيدة، وتقدم أعلى قياداته الصفوف الأمامية للجبهات، وهي صور تغري المزيد من المقاتلين الأجانب للانضمام إليه دون غيره من التنظيمات والجماعات، والمقاتلون الأجانب هم عنصر قوة في أي فصيل يتواجدون به، وهو ما يحدث في العراق وسوريا، وفي ليبيا واليمن وأفغانستان، والقوقاز مؤخرا».

التدريب عالي المستوى على القتال، والاستعداد للتضحية والموت، ميزة يتفوق بها مقاتلو الدولة الإسلامية على غيرهم، سواء أكانوا من مقاتلي القوات الأمنية، والأخرى المساندة لها، أو من مقاتلي الفصائل المقاتلة على اختلاف مشاربها، كما يلعب عامل الخبرة القتالية لقادته، ومقاتليه الممتدة إلى أكثر من عشرة أعوام، عاملا مضافا إلى قوة التنظيم وقدراته، هذه وغيرها من بين أسباب أخرى يرى الضابط السابق في الحرس الجمهوري، محمد حمد، «انها عوامل قوة التنظيم الذي تعكف مراكز دراسات وأبحاث حول العالم، على دراسة استراتيجياته العسكرية للنفاذ إلى بعض مكامن الضعف التي يمكن الدخول من خلالها لهزيمته، وهناك صعوبات جدية في الوصول إلى استراتيجية مقابلة لمواجهة استراتيجيات التنظيم الذي يتميز بوجود قيادة اكتسبت خبراتها من معارك خاضتها بنفسها، وهو على خلاف ما يتم تصويره في وسائل الإعلام، بأنّ التنظيم يقوم على توريط الشباب، وزجهم في معارك تؤدي بهم إلى القتل، فهناك مثلا، مهندس كهربائي، أو مزارع، يقود أخطر معارك التنظيم، ويحقق إنجازات عسكرية مهمة، فالمقاتلون، كما أرى، مستعدون لتنفيذ أوامر البغدادي مستدلين بشرعية دينية يدينون بها تقودهم إلى الطاعة في ما لا يتعارض مع محددات وثوابت الشريعة الإسلامية، وهو نمط من العقيدة القتالية لا نجده عند أغلب أعداء التنظيم، وخصومه، لهذا استطاع التنظيم التمدد في مساحات شاسعة، ربما ان غالبيتها هي مناطق خالية من السكان، لكنها بالتأكيد مهمة من الناحية العسكرية، ومهمة أيضاً من ناحية تأمين الدعم اللوجستي، ويمكن النظر إلى تلك المساحات الخالية كمحطات انطلاق لخطوات لاحقة في إطار سعيه الدؤوب للتمدد وفرض السيطرة على أكبر رقعة جغرافية متصلة».

يختم الضابط السابق في الحرس الجمهوري، محمد حمد، لـ «القدس العربي» قائلا: «كلما تمدد التنظيم، وفرض سيطرته على مساحات جديدة، كلما نتجت عنها منطقة رخوة في منطقة أخرى من مناطق خصومه، لهذا يباشر فورا في ضرب تلك المنطقة الرخوة بقوة تضاعف وقع الإنجاز العسكري، وتزيد من تداعياته السلبية على خصومه».

التقليل من أهمية التنظيم، وقدراته القتالية المتنامية، وعدم فهم استراتيجياته، هذا وغيره أدى إلى «تمكن التنظيم من البقاء لعام كامل في مناطقه، والسيطرة على مناطق أخرى، كمدينة الرمادي، وأيضا فقدانه مناطق مثل الدور والعلم وتكريت، لكن هذا أيضاً فرضته عوامل الخلل في التوازنات العسكرية بين التنظيم الذي يقاتل لوحده، وخصومه المتمثلين بسبعة جيوش في العراق وسوريا، كالجيشين العراقي والسوري، والحشد الشعبي والصحوات والميليشيات الشيعية، وفصائل الجيش السوري الحر، وأيضا الكتائب الإسلامية المعتدلة منها والمتشددة، مع تحالف دولي تقوده أقوى قوة عسكرية في العالم، ومع هذا نجح في الحفاظ على معظم مناطق سيطرته، وإدارتها بشكل أكثر نجاحا من إدارة الحكومة المعروفة بالفساد المالي ومعدلات الجريمة العادية والمنظمة، وهو ما تخلو منه مناطق نفوذ تنظيم الدولة تماما»، كما يقول الناشط الميداني، عمر فواز، من احدى مدن الأنبار، ويختم قائلا: «تنظيم الدولة اليوم في نظر عموم السُنَّة هو خط الدفاع الأخير عن وجودهم وقيمهم وممتلكاتهم ومناطقهم».

 

 

 

 

 

 

 

إرهاب بلا حدود ولكل بلد “داعشه”/ عبد الوهاب بدرخان

جمعة بعد جمعة يفسد «داعش» صلاة الجماعة لمسلمين أصبح واضحاً أنهم، الى أي مذهب ينتمون، لا صلة لهم على الاطلاق بـ «اسلام» هذا التنظيم الإرهابي. من القديح والدمام في السعودية، إلى صنعاء في اليمن، وأخيراً في الكويت، أظهر «داعش» أن لا حرمة عنده للمساجد، ولا حرمة لشهر رمضان المبارك. بل لا حرمة للآمنين في تونس أو في مصر وليبيا أو في فرنسا. لا يمكن أن يكون هناك دينٌ يبيح لمؤمنيه هذه البهيمية المنفلتة، فكل ما كان يروى عن الحرص «الداعشي» المزعوم على تطبيق صارم لـ «الاسلام»، كما يدّعيه، تنفيه ممارساته، ومنذ إطلالة شهر الصوم راح «داعش» يعرض وجوهاً أخرى من وحشيته، التي يبدو أنها لا تزال تخفي ما هو أدهى من شذوذات الإجرام ونزواته، إغراقاً وإحراقاً وذبحاً وإعداماً بالقذائف الصاروخية.

هناك سعي «داعشي» دؤوب إلى إشعال الفتنة، ورغم أنه يضغط على العصب المذهبي إلا أنه مكشوف، ولذلك فهو لن يحقق هدفه، فلا هو صاحب رؤية ولا هو مشروع تغيير. حتى لو كان هناك من يحقق أهدافه من خلال «داعش»، فالمؤكد أنه ليس بشير استقرار بل نذير خراب وانهيار على كل المستويات. وما يسمى «دولة الخلافة» مجرد اسم اتخذته عصابة لا تتقن سوى القتل وادارة الفوضى بالارهاب وأساليب الاحتيال وانعدام الرحمة والأخلاق. هذا في حدّ ذاته يلتقي مع مآرب لأطراف دولية واقليمية تكثر الكلام عن خطر المتطرفين والتكفيريين على استقرار المنطقة، ولا تتردد في مفاقمة الاضطراب. هذه الأطراف تتصرّف وكأن «داعش» جاءها كهديّة غير متوقعة تحمي مصالحها أو تُضيف اليها.

مع انتشار الاعتداءات خارج رقعة السيطرة التي أحرزها «داعش» في العراق وسوريا، أصبح بالإمكان القول إن هناك أكثر من «داعش»، أو أن لكل بلد «داعشه»، ما يوجب يقظةً قصوى ومراجعةً لكل الخطط والإجراءات الأمنية وعدم إهمال للشبهات حتى لو لم يُسجَّل لأصحابها أي نشاط حديث. فالعمليات الانتحارية الفردية في المساجد كما في السعودية والكويت، والهجمات الفردية أيضاً ضد رواد الفندق في تونس أو مصنع الغاز في فرنسا، تشير إلى وجود بنية إرهابية مدرّبة ومجهّزة ولديها تواصل مع قيادة ما في الخارج. ومن الواضح أن هذه «الخلايا النائمة» و«الذئاب المنفردة» قد أُوقظت ونُشّطت في الآونة الأخيرة، وهذا هو الصداع المقلق الذي تخشاه كل الأجهزة الأمنية بلا استثناء. «داعش» أصبح إرهاباً بلا حدود.

في السعودية، كما في الكويت، ما يصنع الفارق هو الموقف الشعبي، إذ يعبّر بكل حزم وعفوية عن رفض قاطع لمجاراة الإرهاب أياً كانت مراميه، فالمستهدف أولاً وأخيراً هو أمان المجتمع وتماسك نسيجه والعلاقات بين فئاته. والجميع يعلم أن أي قوى أمنية لا تستطيع التنقيب في نيات الأفراد وتوقّع ما يعتزمونه. في كل البلدان الغربية تكاد تكون هناك حملات يومية تقودها الاشتباهات بحثاً عن أشخاص يُحتمل أن يكونوا وقعوا في فخ العبث والضلال. ولا تستطيع الأجهزة في تلك البلدان ترك شكوكها فريسة الصدفة، بل تفضّل استباقها، والحادث الأخير في فرنسا أثار مجدداً الجدل حول الجاني الذي قالت السلطات إنه كان معروفاً لديها لكن سجله «النظيف» لم يستدعِ ملاحقته. وفي غمرة الغضب والاستنكار علت المطالبة بضرورة معالجة هذه المعضلة استباقياً، وسُمعت هذه المطالبة في الكويت، أما في السعودية فيدلّ الكشف عن شبكات للمشتبه بهم إلى أن السلطات أصبحت متمرّسة في مكافحة الإرهاب.

يُعتقد بعض المختصّين بأن تصعيد «داعش» عملياته في هذه الفترة مرتبط بمناسبتين: الأولى مرور عام على إعلان «دولة الخلافة»، والثانية إثبات أنه لم يضعف في مناطق سيطرته، وأنه لا يزال قادراً على التوسّع فيما يؤكد انتشاره خارج سوريا والعراق. وبعد مضي عام من المكاسب والهزائم، استطاع هذا التنظيم استغلال كل الثغرات وعوارض الخلل في استراتيجيات محاربته. ففي العراق تمكّن من ارباك محاربيه سواء كانوا في «التحالف الدولي» أو في حكومة بغداد، وفي سوريا يستفيد من النظام ومن صراعه مع مناوئيه. ولعل «داعش» يستطيع بسهولة القول إن أفضل حلفائه هم المستفيدون من وجوده وجنونه، وإذ أصبحوا هم معروفين، فإنه تمكّن من الحفاظ على غموضه، بل لعلهم يساعدونه على أن يبقى لغزاً مغلقاً، لأن هذا جزء من اللعبة الجهنمية التي يمارسونها من خلاله.

الاتحاد

 

 

 

 

 

 

 

محاربة “داعش” بـ”المعجزة الروسية”/ سميح صعب

تتساوى سوريا والعراق ومصر في تلقي هجمات التنظيمات الجهادية، لكنها حتى الان لا تقوم بجهد مشترك لمواجهة هذه الهجمات بما يؤسس لسدل الستار على المشهد الذي بدأت فصوله عام 2011. وبعد هجمات على مساجد في السعودية والكويت ومرافق سياحية في تونس وتكرار الهجمات في فرنسا، صار لا بد من مقاربة جديدة للاحداث، إذ لم يعد المستهدف نظاماً بعينه وبات الحديث عن الديموقراطية والاصلاحات، على رغم الحاجة اليهما، شيئاً

من الترف أمام آلة الموت والخراب الزاحفة على المنطقة بأسرها.

ولم يعد مفيداً الحديث عن السبب، لأن ما يجري تجاوز كل ما كان مرسوماً، ولم يعد ثمة شيء تحت السيطرة في كل المنطقة، باستثناء اسرائيل التي تنعم بالامن الذي يوفره لها الخراب من حولها. ولم تعد تركيا بمأمن على رغم كل عروض القوة والتهويل بالتدخل العسكري في شمال سوريا لمنع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، إذ باتت “لعبة الامم” أكبر بكثير من قدرة الرئيس رجب طيب اردوغان على الاحتواء والمناورة، فالاستحقاق الكردي يطوقه من الجنوب في الميدان ومن الداخل بصناديق الاقتراع. لا شك في ان اردوغان لم يكن يتحسب لمثل هذا اليوم في ذروة تغطرسه عام 2011.

ودول الخليج العربية التي دعمت الجهاديين باعتبارهم أقصر طريق لاطاحة النظام السوري، تجد نفسها وسط النيران، وتلتفت الى روسيا كي توفر لها سلماً للنزول عن شجرتي سوريا واليمن، بعدما تبين ان الرئيس الاميركي باراك أوباما لن يرسل جنوداً اميركيين ليقاتلوا نيابة عن أحد. وحتى الحرب على “داعش” و”القاعدة” تديرها واشنطن بالنفس الطويل وتعتبر ان المسألة أكثر تعقيداً بكثير من تحقيق نصر ميداني على الجهاديين، لتتجاوز ذلك الى “حرب الافكار” وهذه تحتاج الى “الصبر الاستراتيجي” الذي تتحدث عنه ادارة اوباما بعدما اكتوت الولايات المتحدة بحروب جورج بوش المبنية في فصلها العراقي على ادعاءات كاذبة.

ثمة سؤالان ملحان اليوم: كيف السبيل الى الخروج من الكارثة؟ وهل من الممكن بعد الحفاظ على البقية الباقية

من دول المنطقة؟ مما لا شك فيه ان الاتفاق النووي

الذي بات قريباً بين ايران والغرب من شأنه ان يؤسس لصفحة جديدة في العلاقات سواء بين الغرب وايران أم

في العلاقات البينية لدول المنطقة بما يخفف الصراع المذهبي الذي يغذي الجهاديين. كما ان لروسيا دوراً مهماً في صنع “المعجزات” التي باتت الامل الوحيد للصعود من الهاوية!

النهار

 

 

 

 

الدولة الإسلامية”… في الوطن والمهجر/ وسام سعادة

بخلاف نموذج «تنظيم القاعدة» الذي لم تكن له أساساً سيادة ترابية مستقرّة على أي امتداد جغرافي – سكاني من العالم، وان نجحت بعض فروعه لاحقاً في تحقيق سيطرات جغرافية لم تعمّر كثيراً، فقد نجح تنظيم «الدولة الاسلامية» في تثبيت نوع من السيادة الترابية على مساحة واسعة من سوريا والعراق منذ أكثر من عام، مخضعاً الملايين إلى سلطته، فتمكن من خلق نوع من «الكيانية الفراتية الجديدة» ولو تحت راية الخلافة العائدة.

قبل هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، كانت «حركة طالبان» تقدّم الملاذ لـ»الأفغان العرب» الذين جاهدوا معها ضد «تحالف الشمال»، رغم الاختلاف العقائدي البيّن بين «النيو – حنبلية» والسلفية الجهادية لهؤلاء العرب، وبين التركيبة الحنفية فقهياً والنقشبندية صوفياً لأكثر حركة «طالبان». وبعض هؤلاء «الأفغان العرب» كان ترك أفغانستان وباكستان لسنين طويلة ثم عاد اليها، كحال أسامة بن لادن بعد ابعاده من الخرطوم.

حارب الأمريكيون والأطالسة أفغانستان كما لو كانت تخضع كلها لسلطة تنظيم هامشي في تركيبة «الامارة الاسلامية» الطالبانية آنذاك. طبعاً هامشيته على الصعيد الأفغاني لا تلغي محوريّته كأوسع شبكة ارهابية، أو مصفوفة شبكات، عرفها التاريخ حتى الآن من حيث امتدادها عبر كافة بلدان العالم. سيتبيّن بسرعة لاحقاً، ان تصفية الجسم الأساسي من «الأفغان العرب» كما في تورابورا كان عديم الحيلة في مواجهة حركة متجذرة في الواقع الأهلي لقوم الباشتو على جانبي الحدود الأفغانية – الباكستانية. فـ»طالبان» لن تلبث أن تقود حركة التحرر الوطني الباشتوني مجدداً ضد الاحتلال الصليبي» والنظام الجديد في كابول، وستعود باكستان إلى دعمها في أفغانستان باعتبار ان حكومة كرزاي تمثّل نفوذاً هندياً في آخر الأمر، مع مواجهة عسكرية طويلة تخوضها اسلام اباد في الوقت نفسه ضد الفرع الباكستاني من «طالبان»، وضيق مباغت عندما يوجه الأمريكيون ضربات لهذا الفرع، من دون مراعاة الوطنية الباكستانية، أو حسابات العسكر والمخابرات، المركّبة والمتبدّلة والدقيقة.

الى اليوم، ما زال الشيخ أيمن الظواهري وكوادر «المركز القاعدي» في حماية طالبان – باكستان. ويمثّل «القاعديون» بدورهم مركزاًً ضاغطاً إلى جانب الأكثر تشدّداً ضمن «طالبان»، في وقت يشكّل فيه الملا عمر موقعاً وسطيّاً، بالأحرى. بالتوازي، هناك خوف طالباني، وقاعدي، متزايد، من نشأة فرع قوي لتنظيم «الدولة الاسلامية» في أفغانستان وباكستان وجنوب آسيا.

وهذا تفريع على ظاهرة أوسع: صار «تنظيم الدولة» بعد عام على «فتح» الموصل واعلان الخلافة، ينتشر في نطاقين وجوديين: الوطن.. والمهجر.

«الوطن» هو الكيان الذي يسيطر عليه مقاتلو التنظيم ويمتد من الموصل إلى الأنبار وتدمر مؤخراً. طبعاً، التنظيم لم يكتف بكنس الحدود الاستعمارية بين العراق والشام بل اعتبر الوطنية صنماً ينبغي تحطيمه، وهو وان كان يرتكز على محدد اثني «عربي – سني» يحاكي المرتكز الاثني «الباشتوني» لحركة «طالبان» الا انه لا يستعجل التصالح مع ذلك، ويصرّ على «كونيّة» الخلافة، و»كونيّة» الدولة. هذا في وقت يزيد فيه مراس مقاتليه في حروب الصحراء، وانتزاع التنظيم لقسم معتبر، لعله الأطول، من مجرى نهر الفرات، من السمة «الكيانية» لهذا الكيان «الوطني – اللاوطني» الجديد الصحراوي الفراتي، الذي يصرّ في الوقت نفسه على صون دولته كدولة «مهاجرين أولاً» وليس كدولة «أنصار أولاً» كما في حالة «طالبان»، النموذج المختلف في الثنائية اليثربية المستعادة (أبناء بلد يأوون مهاجرين).

أما «المهجر» فهو بالنسبة لتنظيم «الدولة» مهاجر شتى. خارج الكيان الفراتي الداعشي هناك شبكات موالية للتنظيم عبر العالم، لكن الأهم من ذلك،هناك امارات نامية هنا وهناك وتبايع «التنظيم» فيقبل بيعتها أو يتريّث. دعك من قصة مبايعة «بوكو حرام» النيجيرية للتنظيم، فهذه لم يأت ابو بكر البغدادي على ذكرها في آخر خطبة له. لكن هناك سلسلة «لله درّكم» مثل امارة في سرت الليبية، ومشروع امارة في سيناء، وشيء من هذا في اليمن، ولا يمكن اختزال المشهد الانتحاري الدموي التونسي في عدد القتلى فقط، بل هو ينبئ بتضخّم في عدد المنضوين تحت لواء تنظيم «الدولة» في تونس الذين يريدون أن يفهموا العالم بأنّ لا شيء يوقفهم عن ضرب أي هدف يختارونه في تونس اليوم. يستفيد التنظيم في تونس من تضعضع الشبكة الأمنية للنظام، في حين يتواجه التنظيم مع شبكة أمنية نظامية قوية إلى حد ما في دول الخليج، لكنه يراهن على ايجاد قاعدة متينة له فيها انطلاقاً من اثنتين: الفوز على الجميع في المزاد التعبوي المذهبي ضد الشيعة، واستغلال تعقيدات الحرب اليمنية ضد الحكومة السعودية ومجلس التعاون في نفس الوقت.

الى حد ما، تشبه هذه القسمة بين «داعش الوطن / وطن المهاجرين اولاً» و»داعش المهجر / انصار الدولة المهاجرة عبر العالم» قسمة عرفت في أيام الدولة الفاطمية، بين الامبراطورية الخاضعة لنظام الخليفة الامام وبلاطه وادارته، وبين «الجزائر» الفاطمية غير المتصلة بالمدى الجغرافي الفاطمي، والمتناثرة عبر أقطار العالم الاسلامي، انما المتصلة بالمركز القاهري للدعوة، من خلال داعي الدعاة وشبكة الدعاة. «داعش» أيضاً اليوم، مدى متصل ببعضه البعض في العراق وسوريا، وامتداد متناثر، لجزائر وامارات وشبكات عبر العالم.

محاصرة أو تقويض «داعش» صارت اذاً مسألة لها بعدان متمايزان إلى حد بعيد: واحد متصل بمحاصرة أو تقويض «داعش الوطن» وثانية متصلة بمحاصرة أو تقويض «داعش المهاجر». في الحالتين، الواضح انه قبل عام من تاريخه، لم يؤخذ أثر اعلان الخلافة «الراشدية الجديدة» بما يستحقه من خطورة، خطورة الجمع بين تركيبة «اثنية» عربية سنية «استقبالية» أو «خضوعية» لـ»دولة المهاجرين» القائمة بالفعل على أرض العراق والشام، وبين تركيبة كونية، أممية، «امبراطورية مضادة»، تختلف بنيوياً، باعتمادها ثنائية «وطن ومهجر»، وقلبها ثنائية «مهاجرون وأنصار» في الوقت ذاته، عن «تنظيم القاعدة».

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى