صفحات سوريةفاروق حجّي مصطفى

عام على الثورة السورية


فاروق حجي مصطفى

ودعت الثورة السورية المثخنة بالجراح عاما كاملا مملوءا برائحة الدم ومثقلا بقصص الثوار وعذاباتهم. لم يكن عاما عاديا بالنسبة للثورة، كما أنه لم يكن عاديا بالنسبة للناس الذين صاروا قوة جبارة ومصدرا ملهما لبقاء الثورة واستمراريتها. والحق أن ما يحدث مع الثورة السورية يختلف بكل المقاييس عما حدث مع الثورات العربية من حيث القتل والتشريد والعذاب والدم… إلخ.

في الثلثين الأولين من عمر الثورة، استطاع هذا الشعب أن يجذب أنظار الجميع، معتمدا على سلمية ثورته، حيث لم تكن لدى هذا الشعب العظيم أي نية لعسكرة ثورته التي أخذت أكثر من منحى.. وفي الثلث الأخير منها ونتيجة لأخذ الثورة أبعادا إقليمية ودولية، حملت الثورة أكثر من وجه. لكن لا يهم. من المنطقي أن تكون لكل ثورة أخطاؤها. إلا أن صدى الثورة طغى على الأخطاء. الأخطاء من قبل بعض الأطراف المعارضة لا تلين من عزيمة الشعب الذي يصر على نجاح ثورته مهما كانت الأثمان.

نتذكر في بداية الثورة كيف كنا نراقب الثورة اليمنية، ونبدي إعجابنا بإرادة الشعب اليمني، ونتساءل كيف لا تنزلق هذه الثورة نحو العسكرة مع توافر السلاح. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم لا يستخدمون aالسلاح (تقتني كل عائلة في اليمن السلاح، ولا تستغرب إن سمعت أنه لا يقتصر على السلاح المتواضع الخفيف؛ بل الأسلحة الثقيلة، وأن ثمة عائلات تملك مقدرات تسليح تعادل مقدرات دول).

مفاد ما سلف أنه كانت هناك رغبة لدى ثوار سوريا في أن لا ينزلقوا نحو العسكرة، وهم على يقين تام بأن عسكرة الثورة تعني مقتلها. هذا الخيار سيخدم النظام أكثر مما يضره حتى وإن كان الثوار يفتقرون إلى موارد ومصادر الاستمرارية. لكن ما الفائدة؟ حدث ما كنا نخشاه. لم يعد الحديث عن عدم المراهنة على العسكرة والمراهنة على العامل الإقليمي والدولي يفيد بشيء.

لكن على الرغم من ذلك، فإن ثمة حقيقة تقال: رغم ما حدث، فإن الثوار والمنتفضين ما زالوا يستمرون بموارد ضحلة في ثورتهم وبشكل أكثر ضراوة.

استطرادا.. الثورة كشفت حقيقتين؛ الأولى: كم أن إرادة الشعب السوري قوية، وباستطاعة هذا الشعب أن يفدي بأغلى ما يملك لأجل الحفاظ على الكرامة. أما الثانية: زيف ادعاء المواقف الدولية والإقليمية التي ما إن تدعي شيئا حتى تفعل نقيضه.

ولذلك كان من الأولى للثورة السورية تصديق هاتين الحقيقتين؛ في الأولى الإصرار على الرهان على مقدرات الشعب الذي لا يمل من طلب حقوقه ولديه قوة للتضحية بالمال والأرواح. وفي الثانية أن لا تعتمد على ما يصدر من قرارات من المجتمع الدولي على الرغم من أهميتها.

لكن ما العمل؟ إن ثمة دولا في الحقل الإقليمي والدولي، ساهمت بشكل أو بآخر، وأثرت على بعض الاتجاهات لتلبيس عسكرة الثورة؛ الأمر الذي خلق للنظام حجة وغطاء للقمع والمواجهة مع الثوار. لم تقف هذه الدول عند هذا الحد، إنما امتد الأمر لتستخدم الثورة ودم الثوار أوراقا انتخابية ودعائية، ونتيجة لذلك، تحولت الثورة من ثورة ذات دلالة داخلية سورية، إلى ثورة ذات دلالة إقليمية دولية.

ولعل هذا ما يؤكده تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» عن سوريا الصادر في 5 مارس (آذار) 2012؛ إذ قال: «كان الفاعلون الخارجيون غير فعالين في أحسن الأحوال، وساهموا في صب الزيت على النار في أسوأ الأحوال. اختار كثير منهم النظر إلى الأزمة، بداية، عبر مؤشر مصالحه الاستراتيجية الإقليمية (من يربح ومن يخسر في حال سقوط النظام) ولم يفعلوا شيئا يدفع باتجاه عملية انتقالية تفاوضية».

وفي السياق ذاته، يرى ذالك التقرير أن «الاستقطاب الدولي المتصاعد يتيح للنظام مساحة مناورة تسمح له بتبني مقاربة، محكومة بالفشل على المدى البعيد، قوامها مزيج من إصلاحات محدودة وقمع متصاعد؛ ويفضي هذا الاستقطاب إلى العسكرة الشاملة للمعارضة، الذي من شأنه إشعال حرب أهلية شاملة، وترجيح احتمالات الحرب الإقليمية بالوكالة التي قد تضرم نارا هوجاء شديدة الخطورة». مما يؤكد أن بعض الدول استخدمت بذكاء ودهاء سياساتها، عبر البروباغاندا، ثوراتنا كما لو أننا نعمل لأجل إنجاح سياساتهم. ولعل هذا ما يعرفه المراقب للثورة عند مقاربته العلاقة مع تركيا وتصريحاتها بصدد الثورة السورية، خاصة في انتخاباتها البرلمانية.

قد تكون بعض الدول، خاصة بعض الدول العربية؛ أرادت بصدق أن تكون داعما للثورة، وكانت تتألم بسقوط الشهداء (المدنيين والعسكريين)، إلا أن هناك دولا عديدة نظرت إلى ثورتنا بعيون مصلحية براغماتية حتى وإن كانت على حساب نزف دم الناس وعذاباتهم. متناسيةً أنه «ثمة ضرورة أخلاقية وإنسانية للمبادرة إلى العمل، أكبر من مصالح أي دولة وأبعد من أي حسابات استراتيجية»، على حد تعبير الأميركي الليبرالي من أصل عراقي كنعان مكية.

صحيح أن ثورة تونس العملاقة حققت إنجازات سياسية مرضية إلى حد ما، ولو استثنينا تصرفات بعض الإسلاميين خاصة المتطرفين منهم الذين لا يتوانون عن قمع الناس وإرغامهم على التمسك ببعض التقاليد التي لم تعد مقبولة في العصر الحالي، فإن هذه الثورة رفعت من شأن تونس وصارت الآن تلعب دورا مستنيرا لعدد من القوى الثورية. إلا أن الثورة السورية لا تقل أهمية وزخما عن ثورة تونس.. الثورة السورية تتحدى المستحيل لكي تغير وجهة نظر المحلي والإقليمي والدولي عن حقيقة سوريا ومكوناتها المجتمعية والسياسية والثقافية.. لتؤكد أن هذا الشعب يستحق الأفضل دائما!!

* كاتب كردي سوري

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى