بكر صدقيصفحات سورية

عام على انقلاب تركيا: حزب العدالة في مواجهة مطلب العدالة/ بكر صدقي

 

 

بعد غد، السبت 15 تموز، يكون عام كامل قد مضى على المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا. عام حافل بالأحداث التي دمرت حياة عشرات آلاف الأتراك، بين اعتقال وطرد من العمل وهروب من البلد، وشملت مختلف فئات المجتمع وقطاعاته، الجيش والشرطة والتعليم والصحة والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، تحت سيف قانون الطوارئ الذي تم تمديده المرة بعد الأخرى، ليكتمل عام في ظلها.

وفي ظلها تم تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي جمع كل السلطات في يد رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، بواسطة استفتاء شعبي فازت فيه التعديلات بفارق شعرة، مقابل معارضة كبيرة بلغت نسبتها نصف المقترعين تقريباً.

وفي ظلها أيضاً مضى تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا، بعد توتر شديد، وصولاً إلى التنسيق الكامل بين البلدين في الشأن السوري، في إطار مفاوضات آستانة، وتوفير المظلة الروسية لعملية «درع الفرات» في الشمال السوري، مقابل توتر العلاقات مع أوروبا وفتورها الشديد مع الولايات المتحدة، بسبب دعم الأخيرة لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، وهي التي تعتبرها الحكومة التركية منظمة إرهابية وامتداداً لحزب العمال الكردستاني.

ومع اقتراب الذكرى الأولى للانقلاب العسكري الفاشل الذي تتهم الحكومة جماعة الخدمة بقيادة الداعية الإسلامي المعتدل فتح الله غولن بالوقوف وراءه، انتهت «مسيرة العدالة» التي أطلقها رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلجداروغلو، من أنقرة إلى إسطنبول، بتجمع شعبي حاشد في ساحة «مالتبة» في إسطنبول، في 9 تموز، أعلن فيه زعيم التيار العلماني الكمالي «مانيفستو العدالة» قائلاً إن هذه المسيرة وهذا التجمع الشعبي الحاشد هو البداية فقط، وليس نهاية الطريق. هو البداية لعمل سياسي – شعبي معارض هدفه الأول العدالة بما تعنيه من إزالة آثار «انقلاب 20 تموز» كما يسمي كلجداروغلو موعد إقرار قانون الطوارئ في البرلمان، بعد خمسة أيام على المحاولة الانقلابية الفاشلة. وربما كان الهدف النهائي الذي يداعب خيال المعارضة هو التغيير السياسي لسلطة حزب العدالة والتنمية الممتدة لعقد ونصف، بواسطة صناديق الاقتراع التي تأمل المعارضة بنتائج مغايرة منها في العام 2019، أو ربما قبل ذلك في حال تم اللجوء إلى انتخابات مبكرة كما يتوقع كثيرون.

وبدا أردوغان والحزب الحاكم مرتبكين وعاجزين أمام تحرك المعارضة. فقد بدأت ردة فعلهما على «مسيرة العدالة» بالاستهتار والتشكيك في احتمال اكتمالها ونجاحها في استقطاب الشارع، ثم انتقلا إلى الهجوم على حزب الشعب الجمهوري الذي يقود المسيرة، باتهامه باستخدام الشارع بدلاً من المؤسسات الرسمية، ثم باتهامه بمساندة الإرهاب ممثلاً بحزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن.. لينتهي الأمر بتناسي كل تلك الاتهامات وتخفيف النقد للمسيرة، وصولاً إلى المساهمة في إنجاح التجمع الشعبي في إسطنبول، من خلال ضبط الأمن وعدم السماح بوقوع أحداث عنف أثناء التجمع، وعدم اللجوء إلى سيف الاعتقالات والمحاكمات المفبركة. وهي نقطة تحسب لصالح الحكومة التي تصرفت بحكمة هذه المرة، خلافاً لسوابقها في التعاطي مع أي صوت معارض. وربما كان رائزها في ذلك عدم إعطاء ذرائع إضافية للمعارضة من شأنها تقوية شعبيتها بدلاً من إضعافها.

الواقع أن المعارضة، وحزب الشعب الجمهوري بخاصة، قد أصبحا تحت عبء مسؤولية كبيرة بعد نجاح مسيرة العدالة، فحواها السؤال: ماذا بعد؟ ما هي المبادرات القادمة التي يمكن للمعارضة أن تطلقها وصولاً إلى استثمار الزخم الشعبي المحقق، والمرشح للتصاعد، في نتائج سياسية ملموسة. ويمكن تلخيص هذه النتائج المأمولة في احتمالين: إما تشكيل ضغط على الحكومة يدفعها إلى تحقيق بعض أو كل مطالب المعارضة، وهي متركزة الآن في رفع حال الطوارئ وإطلاق سراح الموقوفين ظلماً باتهامات مفبركة حول صلتهم المزعومة بجماعة فتح الله غولن، وخاصةً الصحافيين ونواب البرلمان وأساتذة الجامعات؛ أو تحقيق نتائج في الانتخابات النيابية المقبلة من شأنها إنهاء تفرد الحزب الحاكم بالسلطة، وإفشال انتخاب أردوغان في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى بصورة متزامنة مع الانتخابات النيابية.

هل المعارضة التركية تملك مقومات تحقيق هذه النتائج؟ هذا هو السؤال الكبير المطروح اليوم. فإذا كان حزب الشعب الجمهوري قد خرج من عطالته التاريخية، وأظهر دينامية سياسية مفاجئة حتى لأنصاره، وتحول كلجداروغلو من رئيس حزب معارض محدود الشعبية إلى قائد معارض، فالفضل في ذلك يعود إلى رعونة الحكومة أكثر مما إلى مزايا الحزب المعارض الرئيسي. رعونة ناتجة عن أثقال خمسة عشر عاماً في السلطة كافية لاهتراء أي طبقة سياسية حاكمة، توجت بحالة من البارانويا بصدد مؤامرات مزعومة على الحكومة تهدف إلى الإطاحة بها بمختلف الوسائل، فباتت القضية الوحيدة للحزب وحكومته ورئيسه هي الاحتفاظ بالسلطة مهما كانت الوسائل أو الأثمان.

شعار العدالة بالذات الذي قاد كلجداروغلو مسيرته الناجحة تحته، كان القضية الرئيسية لحزب العدالة والتنمية عند تشكيله في مطلع الألفية الجديدة، ولعب الدور الأكبر في حمله إلى السلطة بأصوات ملايين المظلومين والمعنفين، حين كان حجاب المرأة المسلمة سبباً لإبعادها عن الجامعات والوظائف الإدارية، وكان رجب طيب أردوغان بالذات قد دخل السجن بسبب أبيات شعر تلاها في أحد الاجتماعات العامة، حين فاز الحزب الذي يقوده في الانتخابات.

أما اليوم، فنحن نرى ملايين المواطنين في تركيا يجمعهم شعار العدالة في مواجهة حكومة حزب العدالة (والتنمية) من مختلف التيارات والحساسيات الاجتماعية، العلمانية والكردية والقومية التركية والإسلامية. في حين أن الرئيس الذي أصبحت كل السلطة في يده، بات حبيس عزلته وتفرده، بعدما قام بتصفية رفاق الأمس في الحزب (عبد الله غل وأحمد داوود أوغلو وغيرهما) وحلفائه السابقين (جماعة فتح الله غولن والتيار الليبرالي) وأنهى عملية السلام مع كرد البلاد، فبات أسير حلفاء صغار بلا رصيد شعبي كالقومي دولت بهجلي والماوي دوغو بيرينجك، مستنداً إلى مؤسسة عسكرية فقدت كل هيبتها واستقرارها بنتيجة التصفيات الكبيرة التي تعرضت لها. تستعد الحكومة الآن لإطلاق احتفالات جماهيرية كبيرة في ذكرى إفشال المحاولة الانقلابية، وشعارها «الديمقراطية» مقابل شعار العدالة، وكأن تلك تتعارض مع هذه!

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى