صفحات الرأيعلي جازو

عبء حقائق مجرّدة وصورها المتعالية/ علي جازو

 

تنبع الحقيقة، وسرعان ما تتحول إلى سلطة قارّة ذات سطوة مهيمنة، من كونها قادرة على تبديد الأوهام بسبب ضعف الأخيرة لا خطئها، وحتى الأوهام الجيدة والصالحة منها تخسر صوابَها أمام جدار الحقيقة الصلب.

إنه لأمرٌ بديهيّ، وإنْ كان غير فعّال، لكن هذه البديهة تغدو شأناً غامضاً وعسيراً حينما يجرى تنزيلها مجرى الواقع الخام الذي أنشأ الحقيقة أول مرة، أو كان من جملة أسباب نشوئها. ثمة إذاً الحقيقة المستقلة، بعدما يتم تجريدها عن وقائع جثوية (من جثّة) والحقيقة السائلة – الحاضر السائر الذي ندعوه اعتباطاً بالواقع اليومي، ومنه يُشتقّ الفكر الموضوعي الخائب وصورتها التي تدعم نجاحه المزيف.

هكذا ربما تبدو الحقيقة ضرباً من التجريد القاسي الذي ينفذ إلى قلب أشياء ما عادت تشبهه أو تكون جذره النامي، وتبقى الأشياء – الحوادث متروكة وحدها، كما لو أن الحقيقة بسبب قوتها الفاضحة، بعد أن شبعت قامت، ثمّ رمتْ عظام الوليمة على قارعة الطريق، وبهذا تحتقر غذاءها الحيويّ وسبب حياتها في الوقت الذي تحوله إلى نفاية!

لكنْ ثمة الحقيقة بوصفها معطى فردياً جديداً قرابة السنوات العشر الأخيرة، وقد غدا هذا المعطى صورة أسلوبية ذاتية رائجة وسهلة التناول، تتناقض مع قيمتها الفعلية المفيدة؛ ذلك أن الوسط الاجتماعي، مشلولاً ومعتقلاً وناهباً بعضه بعضاً، هو المحرّك ومحل الاختبار اللذان يزودان طلاب الحقيقة ليجدوا مكاناً لقدميها على عقولهم مما يسمح لها بالتحرك والتحول في آن واحد.

لكننا نعلم أن القوة تبقى منتجة الحقائق، بما هي محض عنف قاهر، وقد استتبّت وحيدة بين أدوات أخرى وصانعة لحقائق أفلحت في إضعاف الوسط الاجتماعي وتذريره وكبته من حيث هي تود إطلاق سراحه؛ فالأخير قد احتوى نتائجها ولا يملك من القوة المقابلة ما يصدّها كي ينزلها المكانة الرفاتية (من رفات) التي تستحقها حيث يمكنها أن تتبادل مع الحياة تحيات الحياة اليومية.

والحال إن أناساً لاهثين، ككلاب صيد طيعة وخدومة ونجيبة، من يوم لآخر ومن حلبة لأخرى، لا يجدون وقتاً لشأن آخر سوى سعار أجسادهم المضطربة، وهذا ما يفضي إلى الإيمان بالحقيقة كدرع، لا لكونها مزيفة وغير نافعة، بل لكونها عبئاً فوق طاقة التحمّل، ومن الأفضل تحويله إلى قناع حامٍ بدل كسره مرة واحدة وأخيرة.

يمكن أيّاً كان أن يشعر بامتلائه بالحقيقة السارحة وقد صارت موضة تتخطى الألم، إذا ما سرت من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، لا العكس. فمن يمشي وهو يفكّر في خطواته ليس كمن يمشي وعيناه مصوّبتان نحو السماء.

تقدم كثير من الوقائع الآن على نحو صوريّ قبيح، وهي تلتقي مع الحقيقة كما يلتقي المشهد مع الصورة المجترة والعرض الشرس مع الطلب المعوز. تنقل الأخبار أخبار الأحداث لا الأحداث نفسها. النقل مستحيل على هذا النحو، لكن الوهم ناجح ومطلوب، فحالما تنتهي المذابح يسارع المصورون الواقعيون إلى تحطيم معناها. شكل الحقيقة الصورية هذا ليس سوى غطاء تبريريّ على حاجة الضمير كي يميل برأسه الناظر إلى مكان آخر، لئلا يتحول إلى جزء من الصورة – الحدث.

نحن في ميدان المقايضة المتنافسة إذاً، ويمكن أي شيء أن يحل محلّ أي شيء آخر. تأخذ الصورة بما هي حقيقة عن حقيقة واقعية مكانة أسمى من المادة التي تحملها. إنها ناقل صافٍ وسامٍ لم يتسمّم بما حمل واستعمل، وبذا تبقى حياته نقية فيما حياة سنده تتحول إلى حطام مشوّه.

توحّد العروض الدارجة من مستويات إدراك متفاوتة وشديدة الابتعاد من بعضها بعضاً. إنها بهذا التوحيد تميل إلى ما مالت إليه كلّ سلطة شمولية. يجرى تزييف الواقع باسم حقيقة مجردة ومتعالية، ثم يجرى جلب الحقيقة هذه نفسها إلى ساحة العرض التي لا تُقفل على شيء ولا تمنع عنها شيئاً. يمكن العين أن ترى في حجرة موصدة، حتى إنْ كانت عمياء، غير أنها لا تتحكم ولا تحكم؛ ذلك أن محاصرتها بما لا تريد وربما لا تعرف عنه أيّ شيء، تجعلها رهينة ما لا ترغب، ويتحول اختيارها الممدوح إلى نوعٍ من امتناع متحجّر لأي اختيار ممكن.

كيف جرى تحويل الحقيقة إلى كابوس؟ وكيف تجرؤ الصورة أن تعمم الكابوس كما لو كانت تحتفي به، وتشجع بالتالي على اعتماده أصلاً وفرعاً!

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى