صفحات الرأي

عبث التاريخ بمشكلة كتاب التاريخ/ أحمد بيضون

 

 

في ندوة بيروتية أخيرة، عادت إلى بساط البحث مسألة كتاب التاريخ المدرسي، وهي، في لبنان، مسألة تكرارية تَبْرز لنا بين حين وحين من حيث نحتسب أو لا نحتسب. وهي تشبه بهذا بنية ما يسمّى التاريخ عندنا: إذ هذه قائمة أيضاً على استعادة الأحداث كلها حدثاً بعينه لا تني تردّد معناه الفعلي أو المزعوم. لم يكن كتاب التاريخ موضوع تلك الندوة إذن ولكن مسألة الكتاب المذكور وجدت لنفسها موطئ قدم في الندوة.

وحين أزمعتُ التدخّل في المناقشة باعتباري من أصحاب السوابق في هذا المضمار، وجدتُني أنتبه إلى أن الزمن الذي مرّ على بقاء هذه المسألة بلا حلّ (وهو ربع القرن الذي انقضى على الانتهاء المفترض لحرب لبنان) بات يوجب تجاوز الزاوية التي كنت أعتمدها لكلامي في كلّ مرّةٍ طرقتُ فيها هذا الباب.

كنت أُوضح، عادةً، أنني أعارض توحيد الكتاب وأؤيد توحيد المنهاج وأؤيد معه رقابة علمية وتربوية تزاولها هيئة مختصة رفيعة المستوى في وزارة التربية يناط بها اعتماد الكتب المعروضة عليها أو رفضها أو طلب تعديلها. وكنت أبيّن أن توحيد الكتاب مشروع يبطن وهماً مريحاً للسلطة الضعيفة هو وهم القضاء على مشكلة من المشاكل بضربة واحدة لا تقوم بعدها للمشكلة قائمة بعد عامٍ ولا بعد قرن. فالسلطة اللبنانية تخاف ألا تجد نفسها قادرة، إذا تركت الباب مفتوحاً لاستقبال الكتب الجديدة، على رفض أيّ كتاب يظهر له دعم من جانب جهة سياسية أو مذهبية مهمّة، وهذا مهما يكن الكتاب تافهاً أو خطراً. وذلك أن هذه السلطة – سلطة الدولة – باتت ترى نفسها الأضعف بين سلطات أخرى كثيرة عاملة في البلاد وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بمسائل تعني جماعة من الجماعات الطائفية أو تتواجه بصددها جماعات مختلفة.

فترى السلطة إذن أنها إن واتاها الحظّ ووفّقت في هذا النوع من المسائل إلى صيغة ترضي أهل الحلّ والعقد كافّة فإن عليها أن تسجد شكراً للعناية ثم لا تعود إلى فتح الموضوع أبداً. وهي قد أصبحت تجد في يدها الدليل الساطع على صواب موقفها هذا: وذاك أن ربع قرن من الجهد الموصول تارةً والمتقطع أخرى لم تفض بها إلى نشوة الخلاص المرتجى. هذا واللجان التي شُكّلت تباعاً لوضع المنهج والكتاب لم تكن خالية من الكفاءة المهنية وإن تكن الواحدة منها قد بدت، بتشكيلها الطائفي، أقرب إلى مجلس للملل منها إلى لجنة للتخطيط التربوي والتأليف المدرسي. وكانت العادة أن كل وزير جديد يجد نفسه مغرىً بأن يعتبر أنه قد عفا الله عمّا مضى فيرتأي تشكيل لجنة جديدة ليحقّ القول أنه كلما دخلَت لجنةٌ لعَنَت أختَها.

ولكن هذا التسليم بالضعف من جانب سلطة الدولة لا يوهم بالخروج من مأزق إلا ليفضي إلى اثنين. فإن التلميذ سيبقى محاصراً بمصادر غير الكتاب للمعرفة التاريخية، بينها معلّمه نفسه، تخالف التسوية البائسة التي مثّلها الكتاب ولا يقوى على مجاراتها هذا الأخير، وهذا أوّلاً. وإن المعرفة التاريخية معرفة متحرّكة يكثر فيها الجديد بشأن وقائع الماضي ويفترض أن تلمّ بالحاضر أيضاً وهو ما يقتضي إعادة نظر دورية في الكتاب… خصوصاً وأن حركة التاريخ الحاضرة، فضلاً عن الكشوف الجديدة في ميدان المصادر، كثيراً ما تملي هي نفسها مراجعة التقويم المعتمد لهذا أو ذاك من حوادث الماضي وأشخاصه، وهذا ثانياً. يدلّ على هذا، مثلاً، أن الحاجة إلى الكتاب الموحّد إنما غلّبتها الحرب (وإن يكن الشعور بها سابقاً لهذه الأخيرة) وأن التسليم حاصل بأن الرواية المدرسية للتاريخ بعد الحرب لن تكون هي نفسها الرواية الرائجة له قبلها وأن الحرب نفسها بما هي حدث مركّب حديث العهد قد استوى تقديمها وروايتها وتقويمها مصدراً بارزاً من مصادر العسر الذي ابتلي به مشروع الكتاب الموحّد من أصله.

ذاك تقريباً ما كنت أقوله حين يطرح على بساط ما موضوع التاريخ المدرسي الموحّد. في الندوة الأخيرة التي أشرت إليها شعرت أن كلامي هذا، وإن لم أكن أجد فيه اليوم ما يجانب الصواب، قد أصبح غير واف بالغرض. وذاك أن الزمن الذي انقضى من غير أن يفضي السعي المشكور إلى الحجّ المبرور قد جاء بجديد يمسّ أساس المشروع لا تفاصيله وحسب وأن تمادي الإعجاز عن الإنجاز يكشف، في ما أرى اليوم، جذراً للمشكلة يضرب في رؤية للتاريخ ولزمنه هي رؤية موحّدة فعلاً ولكنها، بوحدتها هذه، تنشر على الأفرقاء جملةً هذا العجز عن تحصيل الوفاق في مسائل تفصيلية مختلفة. ففي أطوار الواقع التعليمي، بمقدار ما ترسم معالمه مصادر المعلومات وأساليب الوصول إليها، أن الكتب المدرسية، بمعناها المعتاد، ومنها كتاب التاريخ، قد تفاقمت هامشيتها كثيراً بما هي حاملٌ من حوامل المعرفة، بالقياس إلى ما باتت تقدّمه الشبكة من كتل المعلومات ومن سبل البحث فيها والوقوف على ما تحويه من روايات للحدث الواحد متعارضة وتقويمات للواقعة الواحدة متغايرة، إلخ. فهذه كتل يتصاغر بإزائها محتوى الكتاب المدرسي ويعترض تنوّعُها كلّ جهدٍ لفرض ترسيمة واحدة تحكم نظر التلامذة في شؤون التاريخ وشجونه. وقد بلغ من سيادة هذه الوفرة في المادّة وهذا التنوع في وجهات النظر أن تعليم المادّة أصبح اليوم تعليماً لكيفيات التعلّم وتوجيهاً بين مسالك التقويم ولم يعد يسعه بحالٍ أن يكون فرضاً لرواية وحيدة أو لرأي فردٍ في أيّ شأن.

هذا يفرض على أصحاب المشروع اللبناني أن ينقلوا همّهم من الكتاب الموحّد وروايته العسيرة الولادة للتاريخ إلى طريقة في تدريب التلامذة على البحث وعلى نقد الروايات وعلى تقويم الأحكام التقويمية واكتشاف زوايا النظر ومفاعيلها. وهذه أمور يحتاج تعليمها، فضلاً عن إتقان طرائق البحث، إلى أمثلة تاريخية متحرّكة بين الموضوعات ومتراتبة لجهة البساطة أو التعقيد ويحتاج بطبيعة الحال إلى مناهج في التحليل النقدي للمادة التاريخية. يحتاج هذا التعليم إلى هذا كله ولا يحتاج إلى رواية ناجزة تغطي عهوداً شاسعة وبلاداً كثيرة وتقدّمها سلسلة كتبٍ مدرسية. هذا تغيير لا يسع لجنةً تعمل في التخطيط لتعليم مادّة من الموادّ وفي توفير ما يلزم له أن تتجاهله بعد اليوم.

يبقى أن ثمّة، في الحالة اللبنانية، أمراً خاصّاً يبقى كامناً تحت هذا التحوّل العامّ في طرائق التعليم وموادّه وأهدافه. ثمة مشكل أشرنا إلى وجوده في صورة التاريخ والزمن وفي الغاية التي تُفترض لهما هو المانع الأعمق لإفضاء اللبنانيين إلى رواية مدرسية يتقبّلونها لتاريخ بلادهم. إلى هذا المشكل نعود في العجالة المقبلة.

كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى