صفحات المستقبل

عبد الرحمن الكواكبي.. الاستبداد يلاحق رفاته/ كريم شفيق

 

 

 

في مدينة الموتى بمقابر الغفير، يرقد جثمان عبد الرحمن الكواكبي (1855 – 1902)، على سفح جبل المقطم، شرق القاهرة. شهد ضريحه تعديات جمة وإهمال متعمد، أدى إلى سرقة سوره الحديدي وبناء مقهى على تخومه، في ظل التوسعات العمرانية وشق الطرق الجديدة؛ ما تسبب في تسرب كثير من الشكوك حول ضياع معالم المقبرة حيث اختلطت مع من بجوارها، وتحطم واجهته المكتوب عليها أبيات شعر حافظ إبراهيم الذي رثاه بها.

لم تكن آثار الإهمال تتوقف عند تجاهل الصيانة والترميم قط، اللذين أُنجزا بتعجل وعشوائية، أديا إلى الإخفاق في تحديد قبره، الذي يتوسط ضريحين آخرين؛ فحظي صاحب القبر على يمين الكواكبي ببيتي شعر حافظ إبراهيم. لكنها تجاوزته إلى قيام الحكومات في فترات متتابعة إلى نقل رفات الكواكبي عدة مرات لأسباب مجهولة.

وفيما يبدو منطقيًا أن يظل الكواكبي يواصل معاناته في المنفى والترحال القسري، بيد عهود الاستبداد والقمع التي لا تكف عن اعتداءاتها اليومية عليه، يعاني التهميش والملاحقة ومحاولات إخفاء تراثه وتصفية أفكاره وآراءه؛ لكن المفارقة الحقيقية، أن يعكف وزير الثقافة المصري، حلمي النمنم، على مشروع ترميم ضريح الكواكبي، التي تجعله يتردد بين موقعين شديدي التناقض والسخرية، وكأنه يتفادى بذلك الترميم إحياء أفكاره وإخمادها داخل أسوار مزينة تستر عورات النظام بقمعه وتسلطه، بينما تظل الأفكار التي عنى بها المفكر النهضوي، لإصلاح وتقويم السلطة المستبدة من دون ترميم وعناية، ويجري تشويهها والتنصل منها.

“الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني”. تبدو تلك العبارة التي يذكرها عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، موجزة وشديدة التكثيف كما تخلو من تلك البلاغات اللغوية التي تضعف المعنى، ولا تحتمل تأويلات غير الذي عمد إلى التصريح به من دون تلفيق أو مواربة.

ليس ثمة مستبد يمكنه بناءً حكمًا مطلقًا وأبديًا، يفرض من خلاله سلطة قمعية على سلوك المواطنين (الرعية)، بهدف تطويعهم ومصادرة كل حقوقهم الإنسانية وتقييد شروط التغيير التي قد يسعون إليها، إلا ويعتمد على مرجعية دينية، تبرر سياساته وانحيازاته، وتعصمه من النقد والمسائلة. بالتالي، تصبح شرعيته السياسية متماهية مع سلطوية دينية، التي تجعل من مجرد معارضته السياسية، خلافًا في الدين ذاته وخروج على ثوابته.

لذا، اعتبر أن الاستبداد في السياسة يستمد جذوره من التعسف في فهم الدين وإنتاج مقولات خارج سياقاتها التاريخية، تخاصم العقل والإنتاج العلمي والمعرفي. فكان أحد خياراته المنحاز لها، هو الدفاع عن الدين كوجه حضاري، يدعم العقل والحرية ويضحى نقيضًا للاستبداد والظلم. فالإصلاح السياسي يمر عبر بوابة الإصلاح الديني، وحل معضلة التجزئة الطائفية التي يعاني منها المجتمع العربي الإسلامي وذلك من خلال تقديم العقل والوحدة الإنسانية في فهم الدين بناء على المصلحة وخدمة تقدم البشرية.

يعد الكواكبي أحد رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر، ممن دافعوا عن الحرية وكرسوا كتاباتهم لنقد الاستبداد وأدبياته وتفكيك ظواهره، والحد من تأثيراته، وخاض في كتاباته دورًا تنويريًا لتحرير الدين من السياسة وقطع الحبل السري بين الفقيه والسلطان، عبر تصفية الدور النفعي والأيدولوجي، الذي يلعبه الدين في مواقعه الدفاعية والتبريرية، وتخليصه من صراعات السلطة والحزبية، وفض النزاع الملتبس بينهما، وغلق دوائر العنف باسم الدين والتكفير.

فكانت كتاباته الصحافية التي انطلق في نشرها في جريدة “الفرات” الحلبية، منذ عين محررًا بها، تعنى بنقد الولاة والسلاطين والحكام وفضح فسادهم واستبدادهم وظلمهم، منحازاً للفئة المغلوبة والمستضعفين المهدر حقوقهم. ومن ثم لاحقته المصادرة وتم إغلاق منابره الصحافية مثلما حدث مع جريدتي “الشهباء” والاعتدال”، اللتين لم تتحمل الخلافة العثمانية كتاباتهما النقدية وأفكارهما النهضوية آنذاك، بالإضافة إلى تصديه للتخلف والجهل وتحريض الناس على التفكير والمقاومة، ضد الخرافات التي تتخذ من الدين حجة تخدم الحكم المطلق، ولا تسفر عن التقدم والنهضة العربية التي كان يدعو إليها، حيث كان يطالب بخلافة عربية تقوم على أنقاض الخلافة التركية والثورة على الأتراك.

“أبو الضعفاء”. هو اللقب الذي حازه الكواكبي عندما اشتغل في المحاماة في حي الفرافرة، في حلب، منذ تجمد نشاطه الصحافي بعد غلق صحيفتي “الشهباء” و”الاعتدال”؛ فدرس الحقوق، وسعى من خلال دوره الجديد أن يواصل جانبًا من نشاطاته السابقة في الحصول على حقوق المظلومين والدفاع عنهم ضد السلطة؛ ما اضطره للسفر خارج دوائر النفوذ المباشر للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني لتفادي بعض المشكلات التي تتسبب فيها معارضته والمضايقات التي لم تكف عن ملاحقته، فوفد إلى القاهرة.

تشير جملة الأفكار التي طرحها الكواكبي إلى راهنيتها في الواقع؛ حيث ما زالت المجتمعات العربية ترزح تحت وطأتها وتعاني نفس العوامل المؤدية للتخلف والجهل والقمع والاستبداد. وهو ما يشكل انسدادًا تاريخيًا يعوقها عن تجاوز محنتها التاريخ منذ بدأت تطرح التساؤل التقليدي عن أسباب تقدم الغرب وتخلف العرب. وفي الأدبيات الفكرية التي تركها، يؤكد أن الاستبداد هو نقيض السياسة، ويؤكد على مبادئ الشورى الدستورية التي تقيد الحاكم ولا تجعله يحكم بالهوى من دون معارضة وحساب.

وهنا تتبدى بلاغته في المعنى من دون إفراط؛ فيعتبر أن الاستبداد هو: “التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى”. لكن السياسة هي “التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة”. وبذلك، كان تأكيده الملح على فرض ما أسماه بـ”الشورية الدستورية”، والحياة الدستورية التي تخرج العرب من التردي المجتمعي والأفول التاريخي الذي يهيمن على واقعهم.

عرج الكواكبي في أطروحاته النقدية على المكونات والحواضن الاجتماعية والفكرية التي تساهم في تمدد وانبساط الاستبداد والحكم المطلق وقبضته القوية، باعتبارها المصدر الذي يمنحها الشرعية ويؤكد حقوقها في الهيمنة والسيطرة والبطش، دون رادع أو عقاب.

فثمة علاقة عضوية بين المستبد ومجتمعه يجعل من الاستبداد والتنكيل قيم رائجة ومقبولة ويجد من يدافع عنها ويستدعيها ويؤيد بقاءها واستمراريتها. فاعتبر أن “العوام قوة المستبد وقوته، يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريمًا؛ وإذا قتل منهم لم يمثِل يعتبرونه رحيمًا؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ”.

ففي هذا الخطاب النقدي فكريًا وسياسيًا، لا يتوانى الكواكبي عن فضح تلك العلاقة المشوهة بين الحاكم والمحكومين، عندما تصبح مكانة الأخير أدنى أمام السلطة، كحال كل الأنظمة التوتاليتارية، التي يصبح فيها الحاكم الممثل الشرعي عنهم ويخضع الأفراد لمرتبة وجودية أدنى، لا يخرجون فيها عن طاعته ولا يمثلون سوى إرادته. وبالتالي، فرض شروط عبودية واضحة تنتزع منهم كافة الحقوق، وتنمحي فيها الفروق بين البشر وتتعطل مواهبهم وتتلاشى خصوصية الفرد، التي تنتهك تحت وطأة فرض الرقابة على سلوكه وضميره وفكره.

جيل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى