صفحات سوريةمعتز حيسو

عتبة التحول الديمقراطي ((الاستعصاء السوري))

معتز حيسو
تُشكّل البنية السياسية العامة،إضافة إلى الانعكاسات السلبية للتحرير الاقتصادي على المستويات الاجتماعية، المدخل الذي من خلاله يمكن أن نحدد سيرورة وصيرورة التحولات السياسية الكبرى.
إن التركيبة السياسية والبنيوية للقوى السياسية المعارضة تتقاطع وتتقارب في العديد من الأشكال والمستويات مع التركيبة السياسية للسلطة السائدة. وهذا يدفعنا للقول بتماهي التركيبين السياسيتين رغم التباينات الشكلية والظاهرية وحتى اللفظية، لكن تبقى البنية الداخلية لآليات التفكير ذاتها عند الطرفين، كونهما يقومان على هيمنة الفكر الأحادي وسيطرة الفكرة المطلقة التي تستند على مفاهيم التكفير وشيطنة الآخر معرفياً وسياسياً، حتى لو كان هذا الآخر في ذات الحقل السياسي.
لذا فإن غياب الفكر الديمقراطي لا ينعكس تأثيره على الممارسة السياسية داخل البنى السياسية (المعارضة) فقط ، بل يتطاول على كافة مستويات وتجليات البنى الاجتماعية. وهذا يدلل على إن التماهي بين البنية الذهنية للمعارضة وبنية السلطة السياسية القائمة على ثقافة الحزب والفكر والقائد والمصير واللسان الواحد،لا يعبّر عن إشكالية شكلانية، بل يعبّر عن أزمة فكرية وسياسية مفصلية تضع التحولات وسياق سيرورتها أمام امتحانٍ تصعب فيه الإجابة عن أشكال التجليات والمآلات المستقبلة للإنتفاضة الشعبية. ونؤكد على أن الترويج لمفهوم الديمقراطية بكونه الحامل الأساس والوحيد لمشروع التغيير، لا يتجلى بشكل واضح في الممارسة السياسية عند حملة مشروع التغيير الديمقراطي. هذا إضافة إلى أن بعض الأطراف تتجاهل ضرورة الحفاظ على كيانية الدولة السورية و استقلاليتها ودورها العربي، في ذات اللحظة التي تشتغل فيها دوائر صنع القرار العالمي على إعادة توضيب المنطقة من منظور مصالحها السياسية والاقتصادية الإستراتيجية المرتبطة بنيوياً مع المشروع الإسرائيلي،مغلفة أهدافها بالترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا يشكّل إحدى الإشكاليات في لحظة التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى. ويقابل غياب الديمقراطية عن الممارسة المعرفية و السياسية، رواج تفكير سياسي ميداني يعتمد على مفاهيم (الاجتثاث،الإعدام،القتل) وهذا يعكس آليات ثقافية فكرية سياسية اقصائية وثأرية..، وبداهة فإن العقل السياسي الذي يتأسس على هذه الآليات، يقع في كثير من التناقضات والإشكاليات ليس فقط في سياق علاقته مع خصومه السياسيين، بل في علاقته مع الأطراف ذات المصالح المشتركة، إذ أن تحويل الإعدام إلى مفهوم سياسي يتجاوز مقصوده في التظاهرات، يساعد في نقل العنف من اللاوعي إلى ساحة الوعي، ليتجلى ويتعمق في سياق التحولات الراهنة، أي أن التجليات العنفية، لا تعبّر عن عنف مضاد فقط ، بل تشكّل تعبيراً عن جذور ثقافة أحادية ظلت كامنة نتيجة للسيطرة الأمنية، لكن الانتفاضة الشعبية كسرت حواجز الخوف وساهمت في انكشاف مكونات الوعي الشعبي بأشكال مختلفة.
إن تجليات هذه التحولات في الفعل السياسي اليومي، يكشف عن خطورة المآلات التي يمكن أن ينزلق إليها الوعي الشعبي في ظل غياب دور القوى السياسية والاجتماعية العقلانية والموضوعية. إن هذه التحولات تنبئ عن مستقبل قاتم ومخيف، تتجلى تمظهراته في انتشار المظاهر العنفية على أسس مختلفة ومتعددة لا تقف عند حدود الطائفة والعشيرة، وهذه المظاهر يختزلها تبني مفهوم (القتل ـ الإعدام) الذي بات شعاراً سائداً. إن خطر تحوّل مفهوم القتل إلى وعي سائد، يرعب المتظاهر السلمي والمواطن الصامت من انزلاق المجتمع إلى صراع الكل ضد الكل، ويأتي هذا التخوف من انتشار ظاهرة التسلح، في اللحظة التي يتراجع تأثير العقلانية السياسية. وبعيداً عن الدلالات المفاهيمية واللغوية للكلمة بذاتها، فإن التحولات التي شهدتها البلدان التي نفذت حكم (الإعدام) برئيسها في سياق عمليات استئصالية ما زالت وستبقى لأجل لا يمكننا تحديده تعاني آثار ثقافة العنف وقهر الآخر وقمعه وحتى هدره وجودياً وكيانياً. وهذا يدلل على أن تجليات التباين والتناقض السياسي والمذهبي يمكن أن يشكّل مقدمات للانفجار الاجتماعي بأشكال ومستويات متعددة ومتداخلة. أي أن ثقافة ولغة العنف يمكن أن تهيمن على سيرورة الانتفاضة الشعبية وبالتالي مآلاتها، وهذا يستوجب العمل على ترسيخ مفاهيم المواطنة التسامح والمشاركة. ونشدد على أنه كلما استطالت وتعمقت ثقافة العنف في ذات الإنسان ووعيه، فإن التخلص منها يكون أصعب، وبذات الوقت فإنها ستنعكس على مراحل مستقبلية، تكون حواملها ميليشيات مسلحة تفتقد للعقلانية السياسية، ويمكن أن تكون حاملة لأفكار طائفية مذهبية… مدمّرة اجتماعياً. ومرد هذا التحول لا يمكن اختزاله فقط في الأشكال الثقافية التي نشهد تجلياتها في ساحات الحراك الساخنة فقط ، أي لا يكمن السبب الأساسي للعنف في البنية العقلية، بل نتيجة للممارسات السياسية للسلطة السياسية التي تعيد إنتاج ذاتها بالقوة والقمع وفق أشكال ومستويات متعددة ومتباينة. لهذا فإن مفهوم العنف الموجّه ضد الآخر لم يعد محصوراً فقط بمن يقبض على زمام السلطات السياسية والأمنية. لذا فإن عدم التوصّل إلى حلول سياسية في اللحظة الراهنة، ينبئ بولادة جنين القوة العمياء الذي سيهدد الأمن المجتمعي نتيجة لسيطرة الأنا الأحادية : إما أن تكون معي ومتماهي بي ونسخة عن ذاتي، أي يجب أن تتطابق معي، وأن تكون أنت أنا، وإلا الإلغاء والإقصاء والهدر. ومن الواضح بأن التحولات الراهنة تعمل على تمكين مفهوم التقديس والتأليه لشخص القائد وتفرضه على الآخرين ، متناسية تأثير الفكر الديني، وما يشكله تأليه شخص من تأثير في ذات الإنسان المتدين.
إذاً من الممكن أن يكون مستقبلنا القريب قائماً على التناقض في سياق سيطرة الفكر الأحادي. دون أن يعني هذا أن المجتمع على ذات الدرجة والشكل من الوعي. لكن السائد والغالب هو أن ثقافة الفكر الواحد واللون الواحد والعقل الواحد حتى الآن هي من يساهم في رسم آفاق المستقبل، وهذا يستدعي التأكيد على ضرورة العمل على تمكين الثقافة الديمقراطية التعددية. ومن الممكن أن يواجه هذا التحول صعوبات لا يستهان بها في ظل التشظي والتفتت والانقسامات العمودية والأفقية… مما يساعد على إعادة إنتاج الاستبداد بأشكال ومستويات مختلفة، وهنا يكمن سبب الرعب الذي يجب أن نعمل على تجاوزه. لكن كيف سيتم تجاوز هذا المنزلق؟؟
بداية نؤكد على إن بنية الاستبداد لا تعمل فقط على إعادة إنتاج ذاتها، بل تنعكس تأثيراتها على الوعي الشعبي وبنية الفكر السياسي البديل. وهنا يجب أن نشدد على أن ما يكتنف الوعي الشعبي من وعي أحادي يعبّر في سياقه العام عن ترابط وتعالق جدلي مع الفكر السياسي السائد، وكلاهما يشكّلان في ذات اللحظة سبباً ونتيجة. لذا يجب أن نشدد في هذه اللحظة بأن تجاوز الأزمة الراهنة يستوجب التأكيد على رفض لغة القتل والعمل على التخلي عن التوهّم بالقدرة على امتلاك الحقيقة المطلقة، لأنها تشكّل أحد أسباب أزمة الوعي، وتجاوز المفاهيم التي باتت تتسم بها المناخات السياسية الميدانية التي تقوم بجانب منها على مبدأ الاجتثاث ونفي الآخر من منطلق الوهم بامتلاك المشروعية الثورية. ونتسائل في هذا السياق لمصلحة من و لماذا يتم العمل على تمكين هيمنة الأنا الأحادية بتجلياتها المختلفة والمتباينة في سياق يتم فيه تغييب مفهوم المشاركة والعيش المشترك والمساواة والتفاعل والتناقض البنّاء على القاعدة الديمقراطية التي يجب أن تضمن تحقيق مبدأ المواطنة ؟؟؟.
إذاً يشكّل غياب تأثير الفكر السياسي الديمقراطي العقلاني الموضوعي مصدر خوفٍ من أن يعيد البديل السياسي إنتاج الاستبداد بأثواب ديمقراطية مخادعة ومضللة يمكن أن تساهم في إنتاج ثقافة العنف والإقصاء، وبالتالي توليد تناقضات اجتماعية تفتت وتشتت وتمزق وحتى تدمّر أو تفجّر البنى الاجتماعية التي هي بالأصل تحمل أسباب التناقض العمودي كونها وليدة الفكر الأحادي. ونؤكد بأنه كلما استطال عمر الأزمة السورية كلما ازداد حجم الدم المستباح، مما يعني استحالة استمرار سيطرة أي النظام السياسي في المستقبل إلا بالقوة، وهذا يعني استحالة الانتقال إلى نظام ديمقراطي بفعل تعمّق مفاعيل الأزمة في المجتمع، و يعني أيضاً تجذّر الانقسامات الإثنية والطائفية.. وتحويلها من حيز الإمكان إلى حيز الفعل السياسي، أي إن الاحتكار السياسي و ربط الوطن ومصيره بالعائلة والطائفة وشخص القائد ( شخصنة الوطن) يساهم في استطالة عمر الأزمة، و يعزز الهيمنة الأمنية والتكتلات المذهبية والإثنية والعشائرية… وهذا يساهم في سياق تقاطعه مع العوامل الإقليمية والدولية الراهنة بتحوّيل هذه التشكيلات، إلى تعبيرات سياسية يتم على أساسها بناء الدولة والدستور والمؤسسات…وهذا لا يعبّر بالمطلق عن المشروع الديمقراطي الذي يناضل من أجله الشعب السوري.
إن العمل الجاد لسد المنافذ التي تؤدي لتشظي المجتمع عمودياً، يكمن بالدرجة الأولى باستئصال و تجفيف التربة المولدة لثقافة العنف. وهذا يحتاج بداهة إلى تمكين الثقافة الديمقراطية التي يجب أن تتأسس على دعامتين أساسيتين: أولهما الديمقراطية السياسية التي يجب أن يضع مقدماتها العقلاء في المجتمع، سواءً كانوا مفكرين أو سياسيين، إذ أن التخلي أو إهمال إنتاج ونشر الوعي الديمقراطي التعددي… و إهمال دور وتأثير الحراك الشعبي في وضع الأسس والمقدمات النظرية والسياسية للثقافة الديمقراطية ووعي المواطنة، وعدم ربط مرجعية ومشروعية السلطة بالشعب سوف يقود بداهة إلى تنامي بذور الشقاق والتناقض، وبالتالي استحالة العمل على ترسيخ الفكر الديمقراطي بكافة أبعاده مستقبلاً. و حتى لو تأخر وقت العمل على هذا المستوى بفعل سيطرة مظاهر الأحادية السياسية القائمة على الاستبداد، لكن اللحظات الفارقة ولحظات التحول الكبرى تقتضي العمل المكثف على إنتاج الفكر الديمقراطي لبناء المجتمع القائم على الديمقراطية و تحسباً من وقوع الكوارث الاجتماعية، وهذا التحول يشكّل مقدمات التطور الاجتماعي و يمثل مطلباً اجتماعياً.
ثانياً: تمكين الديمقراطية الاجتماعية كونها تحقق العدالة الاجتماعية والمساواة والتوزيع العادل للثروة في سياق مشروع اقتصادي تنموي على قاعدة اقتصاد إنتاجي حقيقي ينهض باقتصاد البلاد، ونعلم بأن تخلّع و تهدّم المؤسسات المشكّلة لبنية الدولة تشكّل الخطر الأبرز في المستقبل.
إذاً تُشكّل الديمقراطية بمستوياتها السياسية والاجتماعية مقدمة للخروج من انسداد آفاق المستقبل، لكن هذا يقتضي وضع المقدمات الأساسية النظرية والسياسية والاجتماعية للمشروع الديمقراطي. ونشدد هنا بأنه بقدر ما يكون وعي المعارضة تحديداً والشعب عموماً وعياً ديمقراطياً فإن أشكال التحول ومآلاته ستكون ديمقراطية. ويصح العكس، أي بقدر ما تكون ثقافة المعارضة والمواطن ثقافة عنفية اقصائية وأحادية رافضة للآخر، فإن أشكال تجليات التحولات التي سنشهدها والمآلات التي ستنتهي إليه الانتفاضة الشعبية ستكون مولّدة للاستبداد وستعيد إنتاج الاستبداد بأشكال جديدة. ونؤكد على بداهة تقول بأن العنف يولّد العنف، وتراكم العنف يؤدي إلى الانفجار، وتمكين ثقافة الخوف اجتماعياً سوف تنتج وتولّد وعي الخوف عند الطرف الآخر.
ــ لكن ما يزيد من خوف الغالبية الشعبية هو سيطرة الإسلام السياسي على مقاليد السلطة السياسية، وهذا التخوف ليس قائماً أو مؤسساً على رغبة في إقصاء الإسلاميين، بقدر ما هو قائماً على الخوف من التطرف الإسلامي الذي أثبتت تجاربهم السياسية عجزهم عن تمثّل الديمقراطية السياسية، وبالتالي عدم قدرتهم على فتح بوابة الانتقال الديمقراطي وضمان حقوق المواطنة والتداول السلمي للسلطة في إطار مناخ سياسي يكفل المشاركة لكافة الأطراف السياسية والمدنية. ونشدد على أن مصدر ثقة وتمسك الإسلاميين بالديمقراطية من أجل بناء ( الدولة المدنية) ليس لأنهم يشكلون غالبية سياسية، وليس لقناعتهم بأن الديمقراطية تشكّل المخرج الحقيقي من التأزم والتناقض الذي يسيطر على المناخ السياسي العربي، بل لكونهم يمثلون أغلبية عددية. وقد علّمنا التاريخ بأن كافة التجارب السياسية التي اعتمدت على مفهوم أكثرية سكانية عددية دينية، مذهبية.. لم تستطع إنجاز نموذج سياسي ديمقراطي، بل قدمت تجارباً سياسية دينية اقصائية وتكفيرية لاعتمادها كلياً على التشريع الإسلامي (القرآن والسنّة). وخطورة هذه التجارب، أن من يقبض على زمام السلطة السياسية يحكم بكونه ممثلاً للسلطة الإلهية والتشريع الإلهي على الأرض، لذا فهو ينقل السلطة السياسية إلى الحقل المقدّس والعكس يجوز. إن القوانين التشريعية الشرعية التي يتأسس عليها القانون والدستور تُعتبر من وجهة نظر معتنقيها والحاكمين باسم الله والإسلام مطلقة الصوابية، ومن يعترض عليها يعتبر كافراً بالله. وهذا يعني بأن الفيصل في (الدولة الدينية المدنية المفترضة) هو القرآن والسنّة. ولسنا هنا معنيين بنقد أو نقض التشريع الإسلامي وتجلياته الاجتماعية والسياسية، بل التذكير بإشكاليات بناء دولة إسلامية تحت غطاء مدني، في لحظة تستوجب تمكين دولة مدنية علمانية ديمقراطية تعددية. وهذا يستدعي نقض الربط بين التشريع الإسلامي/ الدين/ والدولة سياسياً، وحتى لو ادّعت قيادات الأحزاب الدينية بأنهم سيعملون على بناء الدولة المدنية، لكن هدفهم الأساس يبقى إقامة ( دولة إسلامية تحت يافطة مدنية)، وهذا ليس غوصاً في النوايا، بل تثبّته التجارب الإسلامية من السقيفة وحتى اللحظة الراهنة التي يتوثب فيها الإسلاميون للقبض على زمام السلطة السياسية بعد انتصار الانتفاضات العربية، وبات الجميع يدرك بأن الأحزاب الإسلامية المتطرفة والسلفية، تعمل على إقامة الدولة الإسلامية التي يتم في إطارها تعميم الثقافة الإسلامية على المجتمع بكافة طوائفه وإثنياته ومذاهبه وفرقه.. وهذا يعني العودة لمفاهيم (الذمّية،الردة،الكفر،الإلحاد،الزندقة،الروافضة..)(وآخر مثال هو مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي ساهم في وضعه بعض رجال الدين) ومعنى ذلك إن العودة لهذه المفاهيم في سياق تعزيزها سياسياً، سوف يساهم في تعميق التخلف والتناقض الاجتماعي. وما نشدد عليه هو أن التجارب الإسلامية السياسية لم تكن منسجمة مع ما تروّج له من تعابير ومصطلحات ديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة لأنها تناقض فكرها وثقافتها الأحادية، إضافة لكونها تعتبر هذه المفاهيم بدع غربية وكفر بالله… وهذا لا يعكس بالمطلق موقفاً عدائياً من الأحزاب السياسية الإسلامية، بقدر ما هو تعبيراً عن واقع حال هذه الأحزاب، التي كانت وما زالت تلتزم بالديمقراطي حتى تصل إلى السلطة(لمرة واحدة)، لترتد بعدها إلى جذرها الثقافي الديني الرافض للآخر حتى يتطابق معها برفضه لذاته الثقافية وإلا سيبقى ذمياً، مرتداً، كافراً…ويبقى هذا التصور صحيحاً حتى ثبوت العكس.
لكن: هل يمكننا أن نعادي ثقافتنا الاجتماعية ووعينا الشعبي؟. إن وعي المواطن السوري وتحديداً المديني حتى لو كان إسلامياً يبقى أكثر تطوراً وارتقاءً، ولا يؤيد التجارب الإسلامية السياسية وتحديداً المتطرفة، وخصوصاً عندما نعلم بأن هذه الأحزاب، لا تمتلك مشروعاً اقتصادياً ينقذ البلاد من أزمتها، بل تعمل على فرض اقتصاد حر مندمج بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، وبذات اللحظة تعتمد فكراًَ سياسياً أحادياً إقصائياً معادياً للديمقراطية؟؟
ــ ما نود التأكيد عليه، هو ضرورة العمل على تمتين وتمكين الوعي المديني بكونه يشكّل الضامن من الانزلاق في السياق التفكير الديني التكفيري الإقصائي. ونشدد بأن المدينة تشكّل المكان الطبيعي للعمل الفكري والسياسي الأكثر مرونة وليونة وتطوراً، لهذا تكمن ضرورة استعادة المدينة لدورها الريادي في التحولات السياسية، لأن الترييف الذي شهدته سورية كان له أثراً بارزاً في تراجع دور الفكر والسياسة، مما أدى إلى انحصار النشاط السياسي على الأرياف وضمن الأقليات، ولا يعني هذا الغياب السياسي الكامل عن المدن.
ــ إن الهدف من استعادة المدينة لدورها الفاعل، وإبعاد الدين عن السلطة السياسية بعد أن أثبت التاريخ فشل تجارب الإسلام السياسي في قيادة الدول والمجتمع، وعجزها عن الإقرار بحقوق المواطنة دون ربطه بالهوية الدينية، وعجزها أيضاً عن توفير المناخ السياسي الديمقراطي، لا ينحصر فقط في المحافظة على الانتماء والتفكير الديني في سياق يضمن حرية الاعتقاد لكافة الفرق والمذاهب مهما تنوعت واختلفت بكونها حقاً مقدساً، لأنه يشكّل أحد المكونات الثقافية الأساسية. وهذا يستوجب عدم ربط الدين بالحقل السياسي، كونه لم ينتج إلا تعميق الطائفية السياسية والانقسامات المذهبية والفكر الأحادي الإقصائي التكفيري بأشد أشكاله تخلفاً وتناقضاً. ونشدد على أن تراجع تأثير ودور الفكر الديني مرتبط موضوعياً بمدى تطور الوعي الاجتماعي والتقدم الحضاري.
ــ وتأكيداً على ما سبق فإن واقع حال المجتمع السياسي السوري وقواه السياسية تعاني من التناقض والتنابذ بفعل تناقضاتها البنيوية وهيمنة وسيطرة الثقافة الأحادية التي تتقاطع وتتماهى مع بنية وشكل السلطة السياسية الاحتكارية الشمولية والأحادية… معتمدة أي السلطات السياسية على سلطة ولغة القوة، ناشرة ومعممة ثقافة الخوف الذي بدأت جدرانه تتصدع وتنهار. إن آثار هذه العوامل تنعكس على تجليات المشهد السياسي الراهن بالتفكك والتحلل الذي يمكن أن يطال كيانية مؤسسات الدولة، وبذات الوقت تنبئ بالتحلل والتفكك على المستوى القيمي، لذا نؤكد على ضرورة التمسك بالقيم الأخلاقية الضامنة من التفكك والتحلل الأخلاقي والوطني، أي يجب على المعارضة والمجتمع بآن واحد الوقوف على منصة أخلاقية لمواجهة ثقافة الإقصاء والقوة والعنف.
إذاً يجب التمسك بمبدأ التعددية الثقافية والسياسية والديمقراطية بوصفها قيمة معيارية، والعمل على تمكينها اجتماعياً، وهذا يشكّل الاختبار الأشد صعوبة، ونؤكد على أن المجتمع السوري وقواه السياسية والمدنية أمام امتحان يتحدد بـأنه إذا لم يتم تحديد المقدمات الديمقراطية الضامنة لحقوق المواطنة في سياق تجاوز الثقافة الأحادية الإقصائية التي تحمل نتائج اجتماعية كارثية، فإن البنى الاجتماعية مرشحة للانفجار من داخلها وعلى ذاتها وفق أشكال عمودية وأفقية. إذاً إن الانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي يفترض صراعاً مع الذات، وهذا يقتضي التخلص من كافة رواسب وأشكال الثقافة الأحادية الإقصائية التكفيرية والتخوينية، وتكريس ثقافة المواطنة والاعتراف بالآخر وتعميق لغة الحوار بكونها تشكّل المدخل لتأسيس المناخ الديمقراطي الذي يفترض الوصول إليه العمل على وضع المداميك النظرية والفكرية والمعرفية الأولية للديمقراطية.
ـ وربطاً مع ما تقدم فإن الواقع السياسي الداخلي يتقاطع مع مناخ سياسي إقليمي ودولي يقوم على التناقضات والتسويات بين القوى الدولية الكبرى التي تدرك أن سوريا تمتلك أهمية جيو سياسية على درجة عالية من الأهمية والحساسية، كونها تشكّل مدخلاً لكافة المشاريع المتصارعة على المنطقة وعلى الشرق الأوسط تحديداً. إن تعدد وتتداخل مفاعيل وعوامل صنع المستقبل السوري إضافة إلى اختلاط الأوراق السياسية لأسباب متعددة، تتجلى بتقاطع ازدياد حدة الضغوط الدولية، تفاقم شدة القمع، ازدياد حدة التناقضات التي تعاني منها المعارضة، غياب المناخ السياسي الديمقراطي، هيمنة الفكر الأحادي، تراجع تأثير العقلانية السياسية، زيادة تأثير الأطراف السلفية،وبشكل خاص المسلحة منها، زيادة انتشار ظواهر التحلل القيمي والتفكك المجتمعي…إن جميع هذه عوامل تساهم في زيادة حدة الاستعصاء السياسي،وتهدد بنشوب صراعات بينية يمكن أن تقود الدولة والمجتمع للتفكك والتشظي والانقسامات العمودية.
إن آفاق التغيير الديمقراطي السلمي يرتبط موضوعياً بمفاعيل وعوامل متعددة. لكن من الملاحظ بأن التحولات والتغيّرات الميدانية تنبئ بما يخالف ذلك، إذ أن بعض الأطراف لا ترى إمكانية تحقيق مصالحها في سياق التغيير السياسي الديمقراطي السلمي، أي إن المدخل للتغيير من وجهة نظرها يجب أن يكون بالقوة والقوة فقط. وهذا ما يزيد من قتامة اللوحة المستقبلية لسوريا. أي يمكن أن ينزلق المجتمع السوري في أتون صراعات متعددة الأشكال والمستويات التي يمكن حتى اللحظة تجنبها باعتماد آليات التغيير الديمقراطي السلمي الذي يأتي في سياقه المحافظة على تماسك كيانية الدولة والبنى الاجتماعية من التفجّر الداخلي.
أخيراً نؤكد بأن الديمقراطية والتغيير السلمي، يجب أن يكون السبيل المحدّد لسياق التغيير المستند على التعددية و ضمان حقوق المواطنة وتمكين ثقافة التسامح والحوار والاعتراف بالآخر وتمكين منطق المشاركة والابتعاد عن لغة الإقصاء وثقافة العنف. ونؤكد على أنه لن يكون للديمقراطية السياسية والاجتماعية أي إمكانية مستقبلية في حال التفكك والتنابذ والتشظي الاجتماعي وهيمنة النزعة الأحادية وتحلل الدولة الكيانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى