صفحات الثقافة

عثرنا على المدخل، لكن أين يقع المخرج؟


فاروق يوسف

“لو كنت مكانه لتنحّيتُ عن الحكم”، جملة قالها حاكم عربي عن زميل له، هو الآن عضو في نادي الحكّام المرحَّلين. جملة من هذا النوع لا تقال إلا في لحظة سهو، بالرغم من أنها تبدو أشبه بنصيحة. فالأمور لا تُقاس بهذه الطريقة. وكما يقول المثل الشعبي، فالذي يده في النار ليس كمن يده في الماء.

ما عاشه القذافي وهو يتنقل مذعورا من بيت إلى بيت ومن زنقة إلى زنقة في سرت، مدينة أهله المباشرين، لا يمكن أن تختزله شهادة أحد مساعديه، ممن رافقوه حتى الرمق الأخير. غالباً ما يكون اليوم الأخير وقتاً مرجأً، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالمصير. في الظروف الطبيعية يحضر الموت فجأة. يغلق المرء عينيه لينام. في حالة الزعيم الليبي الراحل كان الموت قد صنع مسافة مناورة ومخادعة. هي أشبه بتلك المسافة التي يراها الجنود في مناطق الاشتباك المباشر. لقد فات أوان التراجع. الوراء لم يعد موجوداً. يمكننا أن نكون على يقين من أن ثقافة الحاكم العربي كانت قائمة دائما على حرق السفن. سفنه وسفن من يتبعه وسفن من يعاديه. كان هناك شعار رفعته الحكومة العراقية في ثمانينات القرن الماضي يقول: “لا تراجع. العراقي يتقدم”. كان المرء يرى اللافتات التي كُتب عليها ذلك الشعار في كل مكان. في الوقت نفسه كانت الحياة في العراق تشهد تراجعاً سريعاً على كل المستويات، بسبب الحرب التي كانت مشتعلة على الحدود الايرانية، وهي الحرب التي استمرت ثماني سنوات وراح ضحيتها مئات الالوف من القتلى وخرج العراق منها مثقلاً بديون لا طاقة له على سدادها بعدما دخلها بفائض مالي قُدِّر بخمسة وستين مليار دولار في حينه. كانت الحياة تتراجع فيما كان العراق يتقدم. بالنسبة الى حاكم عربي، ما من تناقض بين الحالتين. منطق الحكم يقول إننا نمضي إلى الأمام، لأننا لا نزال أحياء ولأن العرش لا يزال في مكانه. هل كانت فكرة الهرب بالنسبة الى القذافي هي الأخرى تعبيراً عن الرغبة في المضي إلى الأمام؟

 نصف الشعب وقد هلك

لو تفحصنا تلك “النصيحة” المريبة التي قدّمها حاكم عربي الى زميله جيداً لاكتشفنا انها لا تنطوي على أي نبوءة. إنها تتحدث عن واقع حال في صيغته النهائية. لقد تأخر الوقت بعدما ارتدى الجميع ثياب القتال واتخذ الحوار بين الحاكم والمحكوم طابعاً دموياً. ولكن ماذا يحدث لو كان ذلك الحاكم قد حلّ محل زميله فعلاً؟ لا تحتاج  الإجابة إلى مخيلة شاعر أو فلكي أو جغرافي. سيقاتل الحاكم الناصح حتى الموت، ثقة منه بأن يومه المؤجل لم يحن بعد. بل إنه لن ينظر إلى من ينصحه في لحظة المواجهة المصيرية التي يمر بها إلا باعتباره عدواً أو جاهلاً فن السياسة أو مكلفاً من جهة أجنبية ايصال رسالة. وكلها احتمالات ممكنة تدعو إلى الارتياح. وكما أرى، فإن فعل حرق السفن هو فعل استباقي يمهد من خلاله الحاكم لشقّ دروب المتاهة التي سيمشي فيها الجميع: الحاكم ومعارضوه وما بينهما الشعب الذي غالباً ما تأسره الحلول التي تحضر فجأة، من غير تمهيد مسبق. وكان السياسيون العرب (حكّاماً ومعارضين) دائماً دهاة في ابتكار هذا النوع من الحلول التي تعبّر عن معنى مشوّش لمفهوم البطولة الفردية. “سنخرج سالمين حتى لو اختفى نصف الشعب”. لا تهمّ هنا الطريقة التي سيختفي بها ذلك النصف. المهم أن يظهر القائل ثقة لافتة في أنه سيكون موجوداً بعد تلك المجزرة. من يسقط في دروب تلك المتاهة سيكون آجرة يحملها معهم الأحياء لبناء وطن المستقبل. هكذا يشكل الوطن مفهوماً لم يكتمل بعد. لغوياً هناك فرق كبير ما بين أن نبني على أرض الوطن وأن نبني أرض الوطن. في الجملة الثانية يكون الوطن قيد الإنشاء ويكون الإنسان مجرد فكرة غامضة عن مواطن لم يُخلق بعد. ما يجب أن نلاحظه أن المحكوم وهو يسعى إلى الخروج سالماً من المتاهة، إنما يسعى إلى تقليد الحاكم في تمثيل دور اللاعب الجاد الذي لم تعد التسلية مصدر متعته الوحيد الذي يشدّه إلى اللعبة التي يمارسها. هناك حرب حقيقية يدخل إليها المرء ليستعيد من خلالها صفاته الإنسانية التي كانت لتكون موجودة لولا تغلغل العدو في بعض دروب المتاهة.

كنوز تضيع

مع ذلك، فإن لحظة التيه تبدو مستبعَدة. معها لن تستقيم معادلة الحكم التي استقرت في الضمير الشعبي كما لو أنها نوع من المسؤولية التاريخية. إلى وقت قريب كان مرض الوطنية المصرية يمنع غالبية المصريين من التصريح أمام الآخر غير المصري بتفاهة الحاكم. وحين يظهر الآخر أساه إلى ما آلت إليه مصر من ضعف وضعة وصغر وابتذال وفساد وظلم ومهانة وفقر، وهو ما انعكس سلباً على العالم العربي كله، فغالباً ما يشعر المصري بأن ذلك الكلام انما موجه إليه من أجل اهانته والنيل من كرامته الشخصية. كان هناك حرص دفين على أن تظل المعادلة مثلما هي. حاكم خفي لا يعترف أحد بخفائه، وشعب تائه لا يعترف بتيهه. وكان جزء أساسي من تلك المعادلة يقوم على فكرة الرهان على الوقت: “ستتحسن الأمور مع الزمن”. جملة غامضة توقف عدد قليل من المثقفين المصريين عن قولها منذ عقدين فقط. لقد تبيّن لهم أن الامور ستكون أسوأ، وكانت كذلك. الشعوب العربية الأخرى لم تكن معافاة من هذا الوباء. كان القائد الملهم يطعمها أحجاراً فيما كان يضع جواهره في أفواه الوحوش الغريبة. كان الوقت رهان الطرف الخاسر. أما الطرف الرابح فلا يسعه الالتفات إلى الوراء. كان مندفعاً يهذي بانتصاراته، بطلاً للعبور، بطلاً للصمود والتصدي، بطلاً للبوابة الشرقية، بطلاً للنهر الأخضر وإلى آخره من سلسلة الأبطال القابعين في خزانات الوسطاء. بسبب أولئك الوسطاء المرحين، فإن الحاكم العربي، كل حاكم، لن يصدّق أن المجتمع الدولي قد انقلب عليه. لديه المفاتيح كلها ولن يتمكن أحد من فتح الكنز. إن ذهب فستختفي معه تلك المفاتيح. فكرة بلهاء سيكون الشعب هو الخاسر الوحيد بسببها. لقد استولت البنوك والشركات على أموال العراق من غير أن يكون هناك أحد مؤهلاً للبحث عن تلك الأموال المغتصبة. لن تكون مليارات القذافي وأبنائه أفضل حالاً. ومَن قال إن مليارات بن علي ومبارك ستجد الطريق سالكة للعودة إلى تونس ومصر؟

محاكمة التاريخ ليست لنا. من وجهة نظر الغرب نحن لن نستحق وقفات عادلة تخرجنا من المتاهة التي صارت جزءاً من ثقافتنا. لقد تخلص الشباب الثائر من القذافي ليدفنوا معه ثروة شعب. قبل سنوات رقص رعاع على جثة صدام حسين، معلنين للعالم أن الرقص على جثث الأموات هو تقليد عربي أصيل.

الشهر الأخير في السنة

لن يلتفت الحاكم العربي إلى الوراء. صفته حاكماً لا تسمح له بالقيام بذلك. ستبدو فكرتي مضحكة إذا قلت إن ذلك الحاكم يمنّي نفسه مثلما يمنّينا، يكذب على نفسه مثلما يكذب علينا، حين يزعم أن الخروج من المتاهة بات وشيكاً. لا تصدّقوا ما يقال. مثلما أرشدتكم إلى المدخل فإنني امتلك الوصفة السحرية التي ستجعل من العثور على المخرج أمراً ميسّراً. “نحن في العشرة الأخيرة من رمضان”، الجملة التي قالها الرئيس العراقي الراحل ذات يوم كانت عنواناً لزمن غامض. ولقد تبيّن للعراقيين في ما بعد أن ذلك الرمضان كان شهراً طويلاً، بل إنه الشهر الذي التهم أزمنتهم كلها. لقد صاموا وصاموا وصاموا ولم يفطروا إلا حين رأوا دبّابات الغزو وهي تمشي على جسور مدينتهم وتنتهك شوارعها. حتى اللحظة لم ير العراقيون هلال العيد. فهل ترى الشعوب العربية ذلك الهلال؟

شهر الحاكم طويل وشهور الشعوب لا تزال مؤجلة. ربما ستنهي الثورات العربية لعبة الزمن هذه وتهتدي تلك الشعوب إلى زمنها الحقيقي، الذي يهب وجودها معنى الاطلالة على عصر، فتحت شعوب العالم كلها نوافذها عليه.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى