صفحات الرأي

عذاب سورية وسعادتها


د. مكرم خُوري – مَخُّول

يفترض البعض ان تسلسل الاحداث في سوريا وبالتحديد منذ آذار 2011 هو بمثابة حدث «غريب». صحيح ان لسورية خصوصيتها الثقافية والجيو-سياسية منذ قديم الزمان، الا ان ما يحدث في سورية منذ عام هو تكرار لحالات حصلت مرارا في تاريخ البشرية المنتشرة في بقاع الارض والتي درست من جوانب علمية متعددة وقدمت بشآنها اوراق سياسية من قبل اكاديميين يعملون كمستشارين للحكومات المختلفة. ذلك ان المقارنة بين الحالات المختلفة وبالتحديد بين الظروف الاقتصادية والعسكريه والسياسية المحلية والقطرية والعالمية وتآثيرها على الازمات الداخلية والصراعات الدولية وانعكاسها على تجارب المجتمعات المختلفة، هي مسآلة في غاية الاهمية لإستخلاص العبر (علمياً). ففي كل ازمة سياسية فئات يتم زجها في الصراع وتدفع الثمن وبالرغم من ذلك فهناك من يدعي انه لا يمكن المقارنة بين التجارب المختلفة للعذاب والمعاناة. فمعايير تعريف العذاب واسبابه وسبل ازالته تختلف بين مجتمع واخر رغم ان مدارس فكرية شتى تحاول عولمة المفهوم عندما تروج للمبدآ الكوني القائل ان «عذاب كل انسان هو عذاب مستقل ومميز، وبالتالي فهو مقدس». ويردف اعضاء هذه المدارس الفكرية اختزالا وتبسيطا، انه بينما يصاب بعضنا برصاصة في انفه وبالرغم من ذلك يمتلك قوة التحمل على الوصول سيرا الى المستشفى والدم ينزف منه، شوكة تجرح خنصرا آخرا، فيفقد وعيه وتتجمع حوله الحارة بالضمادات والثلج.

بين الحالتين تستل بسمو وبعض او الكثير من التواضع احيانا مهنة الطب لتخفف الالم الجسدي ولربما العذاب النفسي وفقا للحالة. اما الفجوة ما بين تخفيف الالم والاستعداد للاقلاع ومن ثم التحليق الى درجات السعادة المرجوة، فتتراوح وفقا للظروف. وهذا ايضا ليس بالاكتشاف الجديد. فلقد ارسى الفيلسوف اليوناني افلاطون (تلميذ سقراط واستاذ ارسطو في كتابه «الجمهورية» وذلك ثلاثة قرون قبل الميلاد الحجر الرئيس لفكرة وممارسة جلب السعادة للمواطنين عبر الاداء الوظيفي لنظام الحكم المفضل لديه وهو حكم «الفلاسفة او الحكماء». فرغم مدارسهم المختلفة ولمدة عشرين قرنا منذ «جمهورية» افلاطون، لم ينس الفلاسفة التذكير وباستمرار ان الهدف المنشود من التبحر الفلسفي هو تحقيق العيش بسعادة، ابتداء بالفلسفة البوذية نحو خمسة قرون قبل الميلاد ومرورا بالمدرسة المنفعية (او النفعية) التى شملت احد مؤسسي جامعة لندن الفيلسوف الانجليزي جيريمي بنثهام ( 1748-1832) والذي ما زالت جثته المحنطة موجودة ومعروضة في كلية «يونيفرسيتي كوليج لندن». الا ان النقلة الفكرية النقدية ظهرت الى العلن فقط بعد سقوط الملايين من الجنود والابرياء خلال الحرب العالمية الثانية عندما برزت «فلسفة السياسة « بشكل متفرع من «فلسفة الاخلاق»، حيث كان ذلك عبر نتاج اعمال الفيلسوف النمساوي-البريطاني الاصول، كارل بوبير  (1902-1994) وبالتحديد في كتابه » المجتمع المفتوح واعداؤه»، والذي نشر في عام 1952. جاءت اعمال بوبير لكي تنبه المهتمين بالفلسفة والممارسة السياسية ان تحقيق السعادة ليس بالمسعى السهل وانه علينا لربما ان نكتفي بتخفيف معاناة المواطنين، وبضمن ذلك، العذاب الذي قد تسببه لهم السلطة السياسية في حياتهم اليومية نتيجة سوء الادراة والفساد وقلة التسامح وعدم قبول الآخر والتخويف واستعمال القوة والابتزاز على جميع انواعه والخ.

ويركز هذا الجانب من فلسفة بوبير، والذي اطلق عليه اسم «سلبية النفعية»، انه من حيث المبدأ، يجب ان يعمل الافراد الذين يتمتعون بالاخلاق والخصال الحميدة على الحد من المعاناة والعذاب بدلا من التركيز على الهدف السامي والمنشود والبعيد في ظنه وهو زيادة منسوب السعادة والمتعة، وذلك في رد كما يبدو على غالبية الفلاسفة ولربما بالتحديد على الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير (1694 1778) الذي قال ان «المتعة هي الغاية، والواجب وهدف كل المخلوقات العقلانية» رغم اختلاف رقعة التعريف ما بين السعادة والمتعة. فآين سورية من كل ذلك؟

 بناء على المواد المتوفرة للجمهور وليس استنادا لأي تقرير خاص، سوف اجازف بالإدعاء ان بعض المجموعات التي عملت ولربما ما زالت تعمل في الجهاز السياسي السوري سببت العذاب ( بمفهومه الموسع ) لبعض المواطنين في سورية ، وذلك قبل بداية الاحتجاجات في مارس 2011 .

ولإكمال عملية المحاكاة سأفترض ان بعض المناوئين او الغاضبين او جرحى او ذوي ضحايا العام المنصرم، سيسخطون خالطين الامور وقائلين : الا يكفي ما تشاهده على التلفزيون؟ عندها سألفت نظرهم الى مقالتي تحت عنوان »سورية والرآي العام العربي» والتي نشرتها في 4 شباط 2012 في «القدس العربي» ولذلك ارى انه من واجبي الاخلاقي (وكل من يتفق مع هذا المنطق) ان نتساءل ( بعد ان افترضنا ان الحكومة السورية تسببت بالعذاب والاذى لبعض المواطنين ) فيما اذا ما كان العمل على توسيع رقعة العذاب والالم، والذي اصبح يشمل عددا اكبر من المواطنين السوريين في العام الاخير نتيجة اعمال العنف التي تمارس من قبل المناوئين للسلطة السورية او نتيجة التدخل الخارجي بواسطتهم، ضد مواطنين اخرين، هو الحل الاخلاقي الأمثل في نظرهم . يقول المثل الانجليزي : » خطأ على خطأ لا يساوي صوابا »، والذي يذكرنا بمثلين عربيين اضافيين : «زاد الطين بلة» ، او، «اجا ليكحلها عماها». ولكن من جهة اخرى قد يدعي من يؤيد نمط الممارسات السياسية او الامنية ( السابقة او الحالية ) للحكومة السورية ( وليس بالضرورة نوعية نظام الحكم ) ان ما تقوم به سلطات الدولة السورية هو عين الحق، وبذلك قد يتفق مع السياسي والفيلسوف » النفعي » جون ستيوارت – ميل ( 1806- 1873) الذي برر الاستناد على » مبدأ الأذى » ، بان الممارسات الحالية للسلطات السورية، خاصة العنيفة منها، قد تكون مبررة لأنها تهدف الى الدفاع عن غالبية المواطنين وحمايتهم او منع اصابتهم بالاذى، في وجه اقلية ارهابية مدسوسة خارجة عن القانون، وبذلك تكون هذه السلطات قد قامت بواجبها والحفاظ على سلامة المواطنين وسيادة الدولة .

 اي ان استعمال القوة مبرر عندما يمارس لمنع اذى الآخرين . اي ان ادعاء الحكومة السورية ان عليها مساعدة الغالبية العظمى من المواطنين العزل وانقاذهم من ارهاب العصابات المسلحة المدعومة من انظمة عربية او غربية، فهي تقوم بواجبها كسلطة مسؤولة في دولة سيادية للحد من عذاب غالبية السكان . هذا الموقف لا ينفي كون المجموعات المناوءة للحكومة السورية، حتى ولو كانت هي الاقلية (المدعومة او غير المدعومة عربيا او اوروبيا)، والتي تستعمل العنف على مختلف انواعه ضد السلطة، تتعرض هي بذاتها اثناء استعمالها العنف الى الالم ولربما الموت (وهنا لا يمكن شمل الضحايا الابرياء) عند اختيارها القيام باعمال العنف الذي يصنف عادة كاعمال عدوانية او اخلال بالامن العام في اية دولة ( انظر ما حصل مؤخرا في بريطانيا حيث تعالت الاصوات بانزال الجيش الى الشارع بعد يومين من اعمال الشغب والاحتجاج ) . بعض الناس سيقومون بالقاء اللوم على هؤلاء المناوئين لأنهم اختاروا هذا الطريق ( بحرية واستقلال او مخدوعين رغما عنهم ) حيث جلبوا تلك المعاناة على انفسهم وجنوا على آخرين من الابرياء . وبذلك فبدلا من الانتقاص من العذاب، تسببوا بالمزيد منه. وامتدادا من المنطلق ذاته فبالامكان الادعاء ان اية مطالبة بتدخل عسكري خارجي او القول ان » تسليح المعارضة السورية هي فكرة ممتازة» … قد يؤدي الى تصعيد على الارض والتسبب في المزيد من العذاب والمعاناة . لا بل اكثر من ذلك، فان ايهام المناوئين او من يؤيدهم بشكل مستقل او لأنه واقع في فخهم، عبر الحملات الاعلامية الخارجية التي تحاول خلق جو مشحون يهدف الى الحشد الجماهيري ضد الدولة السورية وبالتالي الى اطالة المعاناة نتيجة الاقتتال الداخلي، هي اعمال غير اخلاقية لأنها اعمال انانية لا تضع نصب اعينها سعادة الموطن السوري ولا التخفيف عنه لا بل استعمال مشاهد المصابين والجثث كوقود لخدمة اهذافها في اسواق الطاقة العالمية . وان تقديم الدعم المادي والعسكري لتوسيع رقعة الحــــرب الاهلية بين الشعب الواحد لا يمكن ان تكون اخلاقية ابداً . ولربما التمعن بما كتبه زعيم الثورة الصينية ماو تسي تونغ ( 1893ـ 1976) في الجزء الاول من مذكراته المترجمة الى الانجليزية (ص 200) عن تاريخ الحروب الاهلية قد يذكر البعض بخصائص الحرب الاهلية حيث كتب:

 «لا يوجد سوى شكلان اثنان اساسيان للقتال : الهجوم والدفاع . ان كان ذلك في الحرب الاهلية الصينية او في أية حرب ماضية كانت أم حديثة، في الصين أو في مكان آخر. فالسمة المميزة للحرب الأهلية في الصين تكمن في اختلاف مدة وفترات حملات التطويق والإبادة والحملات المضادة ». رغم ما يحصل في حمص، فحتى الآن، لم يعلن ( وعادة لا يعلن في هذا المجال ) عن الاستراتيجية العسكرية للحكومة السورية ولا تلك الممارسات المسلحة من قبل المناوئين له .

 ولكن ما من شك ان هناك عائقا عسكرياً يمنع القوات المسلحة العربية السورية وقوى الامن او الشرطة من فرض سيطرتها على بعض الاحياء او الحارات في بعض المدن نتيجة العنف الممارس من قبل المناوئين لسلطة الدولة المركزية وهذا ما يسبب تبني الجيش التكتيك الذي يتبناه ( كما يبدو الحصار اولا وبعدها الاختراق؟ ). فتكتيك الحكومة السورية ناجم عن اعمال المناوئين وهم بذلك لا يقللون من العذاب الذي يسببونه للمواطنين ( لاحظ ان العالم تحرك لتدخل الصليب والهلال الاحمر فقط بعد مقتل الصحفيين الاجانب ). اما اذا كان بعض المواطنين في حمص على علم ودراية بالحاصل ( وعادة من الصعب فهم التحركات الجارية من قبل المواطنين العاديين المحاصرين ) ، فهم يتصرفون كمن يريد الحفاظ على قرار موته بيده، وقد يعتقد البعض ان ذلك من حقهم. فيستشف من التقارير التي تنشر في المجلات المتخصصة بالشؤون العسكرية لغاية الآن انه ورغم الخسائر بالارواح والمعدات في اوساط الجيش السوري الا ان الجيش كبير ومدرب ولا يزال صامدا ولم يستعمل من قوته الا القليل رغم حرب الاستنزاف القائمة ضده والتي يخوضها او يواجهها رغم انه لم يتدرب على اشكالها ( المحلية – الاهلية…..حرب شوارع وعصابات والخ ) من ذي قبل . وساستشهد باقوال الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الذي قال » ان التدخل في سورية سيكون «صعبا للغاية .

مضيفا في حديث لمحطة (سي.ان.ان) الاخبارية الأمريكية انه «سيكون خطأ كبيرا اذا اعتقدنا ان هذه ليبيا اخرى»… وان الجيش السوري «مؤهل جيدا» ولديه نظام دفاع جوي متطور ومتكامل بالاضافة إلى اسلحة كيماوية وبيولوجية » . . «.

هذه التصريحات تكشف عدة امور بما في ذلك تكاثر ذوي المصالح الذين، اما انهم تجار سلاح يحصدون الارواح في طريقهم الى البنك بينما تقوم وسائل اعلامهم بضخ الرسائل التي تلهب المشاعر ، او انهم ليسوا من قوم الخبراء في ادارة الحملات العسكرية او انهم على جاهزية نفسية عالية للاقدام على الانتحار او انهم يريدون تقسيم سورية لكي يتسنى لهم اقامة مشاريع الغاز الاقليمية لدر الارباح . لكن ما يجعل من تصرفاتهم غير اخلاقية وبشكل متزايد هو استعمال السكان، الذين لا يريدون المرور في رحلة العذاب، كرهائن رغما عنهم، بينما يدفع السكان العاديون الثمن نتيجة قيام الطرف الاخر ( اي الحكومة السورية ) بفرض سيطرته .

المناوؤن للحكومة السورية وبالتحديد من السوريين الذين اخذوا يستعملون العنف ( خلافا للمرتزقة الخارجية ) قرروا الخروج عن » القاعدة المنفعية » والتي وفقا لها كانوا يطيعون قواعد وقوانين الحكومة السورية وقفزوا بسرعة من الاحتجاج السلمي الى القتال المسلح . لكن بالامكان وفقا للمدرسة المنفعية ان ندعي ان اعمال هؤلاء خلال العام الماضي سببت » عدم النفعية » للسوريين ككل ولم تنتقص من عذابهم . بالمقابل، اعمال الحكومة السورية تشير الى انها اختارت الشق الآخر للنفعية والمسمى بـ » العمل النفعي » من وجهة نظرها، للتصدي لعدم النفعية من قبل المناوئين . ما بين » العمل المنفعي » للحكومة ( والمبرر بتفضيل مصلحة الغالبية على الاقلية ) وعمل المناوئين الذين اختاروا » عدم النفعية » عبر استعمال العنف، على الاقل في هذه المرحلة، والذي سيزيد من معاناة وعذاب المحاصرين والمواطنين الابرياء، انما تضع ممارساتهم محط ضعف اخلاقي اكبر، قد يخرج منه ضرر اخطر وهو صبغ اعمال اطراف المعارضة المختلفة، وبالتحديد تلك التي لا تستعمل العنف وضد التدخل العسكري ، وخاصة اذا ما ذكرنا ما قاله رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة : «اتحدى اي شخص يحدد لي بوضوح حركة المعارضة في سورية في هذه المرحلة » ، بلون الدم وبرفع منسوب العذاب لتصبح المتعة، وكم بالحري السعادة، منالا بعيدا من كل السوريين .

❊ اكاديمي فلسطيني مقيم في انجلترا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى