بطرس الحلاقصفحات مميزة

عذراً شبيبة الحراك المدني السوري عن خياناتنا/ بطرس حلاق

نزلتم إلى الساحات بالكف العريان واليد الممدودة للجميع؛ وأشرعتم صدركم لكل من يسعى إلى كرامة المواطن والوطن، أياً كان انتماؤه الثانوي دينياً ومذهبياً وعقائدياً وإثنياً، وأياً كان موقعه الاجتماعي والمهني والجغرافي على أرض الوطن. وصحتم بأعلى حناجركم: «سورية، واحد واحد» و«الدين لله والوطن للجميع».

لم تسعوا إلى سلطة ولا حتى إلى ثأر من سلطة مستبدة، لم تطالبوها حينئذ إلا بإصلاح وعدَت به الشعب ثم راوغته. نبذتم العنف واتخذتم من الكلمة سلاحاً لتحقيق رفعة الوطن.

ثم كان أن غيّبكم القمع وشهوة الاستئثار بالسلطة إلى ما لا نهاية.

لا عتب على المستبد في استبداده، فتلك شيمته مذ كان الطغيان، مع أنه تجاوز كل مدى. وأما أن نخونكم، نحن المتشدقين صباح مساء بالتضحية بكل نفيس في سبيل الشعب، فتلك هي الطامة الكبرى. صحيح أنّا بكيناكم، ولكن سرعان ما نسيناكم وتركنا أهلكم وأحباءكم المقرّبين يكتوون بألمهم.

لم تأخذ خيانتنا لكم وجهاً واحداً. فمنّا من اصطف إلى جانب المستبد عن جبن أو مصلحة، وربما بسبب إدمانه الخنوع للحاكم أياً كان. هؤلاء خيانتهم صريحة، يواصلون تقليدا عريقا في ثقافة الشعوب الخانعة. ومنا من استمر في معارضته التقليدية ضمن هيئات متعددة، لم تستطع يوماً أن تتجاوز خلافاتها الداخلية – وأكثرها شخصية – للتوافق على برنامج عمل مشترك يجابه به المستبد. ولهؤلاء أيضا تقليدهم الموروث من التاريخ القبلي ومن عقيدة الزعيم الفرد الذي لا يرتضي أية مساومة على أسلوبه في العمل.

وهناك آخرون تنطعوا للدفاع عن قضيتكم ونصّبوا أنفسهم لقيادة المسيرة بدلا منكم، فجيّروها عمليا لمصلحة موتورين كانوا ينتهزون فرصة للثأر – وهيهات للموتور أن يبني وطناً! هذه الجماعة المتنطعة من المثقفين هي التي تتحمل مع المستبد مسؤولية الإجهاز على الحراك المدني وإفراغ «الثورة المدنية» من مضمونها، لتصبح اليوم طقساً رهيباً من طقوس الموت المجاني، يؤديه المتطرفون الطارئون بأغلبيتهم على البلاد. والأنكى أن تصرفهم ترافد مع خطة المستبد ليبرر قمعه بحجة الدفاع عن الوطن والعلمانية في وجه التطرف الطارئ وفكره الغيبي. فمرحى لنا نحن المثقفين المتشدقين بالديموقراطية حين صرنا صنوا للمستبد، فحولنا الوطن موبأة لا يكاد يُسمع فيه إلا النحيب، وأصبح أهلوه عالة على العالم أجمع، ينتظرون منه الغذاء واللباس والسكن والدواء، ونظرة حنان يسيرة.

فإن قلنا لكم: «لم يترك لنا الظالم وسيلة للمقاومة إلا السلاح»؛ فلا تصدقونا. سبقَنا أهل مصر وتونس فعزلوا المستبد ولم يرفعوا سلاحا. وإن حاججنا: «لكن الجيش في هذين البلدين بقي محافظا نسبيا على شرفه العسكري، ولم يضع نفسه في خدمة المستبد»؛ فإياكم أن تقبلوا حجتنا. فها أهل اليمن، وهم مدججون بالسلاح، لم يلجأوا إليه، ومع ذلك أقالوا الظالم. صحيح أن مستبدهم أزهق أرواحا كثيرين، لكن شتان ما بين ضحاياهم المعدودين بالمئات وضحايانا المعدودين بمئات الألوف، غير الجرحى والمشوهين واللاجئين والمفقودين والمشردين والمغتصبات.

أما إذا تذرّعنا بأن للديموقراطية ثمناً لا بد من دفعه، فإياكم أن تلينوا.

فأية ديموقراطية تلك التي يمثلها متشنجون موتورون انضوينا تحت رايتهم، في إمرة أنظمة لا تعني الديموقراطية لديها أكثر من كلمة جوفاء. ثم شاركنا في هيئة مفتعلة نصّبتها القوى الغربية ممثلا شرعيا وحيدا عن الوطن، لغايات في نفسها. لقد أغضينا، نحن المثقفين «التقدميين»، عن ذلك كله وسترنا عليه. ولا تسألوا عن السبب. فإن كان بعضنا بريئا ساذجا، فأكثرنا يتوزع ما بين موتور ومتطلع إلى السلطة ومولع بالمال. تقاسمنا الكراسي قبل أن يجف دمكم.

وإن قلنا: «السياسة حيلة، كنا نداورهم لنطوع إمكاناتهم لخدمة قضيتنا»؛ فلا تصدقونا. هم الذين طوعونا لمآربهم. أوعزوا إلينا بما نقوله، وتركوا لنا أن نتقاتل على كراسي وهمية محض افتراضية، إلا من ثاب منا إلى رشده فاعتزَل وانزوى. لقد استعملونا للاندفاع في عسكرة الحراك، وفي إجهاض كل محاولة للخروج من منطق العنف الأعمى، فأعطوا الظالم حجة للاستمرار بالقمع والإيغال فيه. وتمادوا فأجهضوا محاولات شتى كانت تسعى لتوحيد الصوت الوطني وخلق مناخ جامع قبل أن يستشري التطرف.

وإن قلنا: «غُلبنا على أمرنا». فصمّوا آذانكم. لقد استمرينا على منطقنا نرفض التعاون مع الهيئات الوطنية الأخرى، فيما رحنا نغري عددا من المناضلين المعروفين بقوة شكيمتهم في مقاومة الظلم بالانتقال إلى صفوفنا، فاستنفذناهم الواحد تلو الآخر.

كنتم، يا شبيبتنا، تحلمون بابتكار ثقافة جديدة ومجتمع جديد تحت سقف المواطنة، حين انتفضتم خارج إطارنا نحن المثقفين التقليديين. لكنا انتزعنا منكم شعلة الحرية لنجعل منها راية ملوثة بالدم والبغضاء والعصبية. الحقيقة الصارخة التي أبرزها سلوكُنا هو أننا بحاجة إلى جيل يحررنا من أوهامنا الكثيرة التي كانت تدغدغ ذاتياتنا المتضخمة، فيما كنا نعتقد أننا نزرع في مجتمعنا تقليد الحداثة، الذي بدا لنا أننا نستمده من عصر «التنوير».

والواقع أننا ابتسرنا تقليد التنوير والديموقراطية إلى البُعد الذي يناسبنا:

الاعتقاد الراسخ بأن الديموقراطية الغربية جادت بها عبقرية المثقف، الذي نسعى أن نكونه. بينما الديموقراطية مسار شاق قام على مصالح اقتصادية مشتركة بين فئات الشعب، واستمر بفعل ثورات نهض بها الشعب أولاً، وإن شارك فيها بعض المثقفين بترشيد المسار واستشراف سبل الاستمرار والنجاح.

وكما ابتسرنا مفهوم التنوير، ابتسرنا مفهوم الثقافة، حين قصرناها على شهادة علمية في حقل من حقول المعرفة. بينما الكفاءة العلمية معرفة يستعملها المستبد، كما يستقوي بها الشعب الثائر في تنظيم قدراته. أما مفهوم «المثقف» فيشير إلى كل صاحب كفاءة يعمل باستقلال مادي ومعنوي عن السلطات السياسية والاقتصادية كافة، ويضع وعيه الإنساني ومعرفته في خدمة الشعب للدفاع عن قضاياه، من دون أن يسعى بالضرورة إلى تقلّد مركز قيادي. فبهذا المعنى، ليس كل صاحب كفاءة مثقفاً، كما أنه ليس من الضروري أن يكون المثقف من أصحاب الكفاءات العليا. إن أميل زولا – وهو أول من أُطلق عليه هذا اللقب – لم يكن أكثر من صحافي وكاتب روائي، لا فيلسوفاً ولا عالماً.

والأخطر من ذلك أننا ابتسرنا الثقافة عامة إلى مفهومها العقلاني المجرد الذي صاغه عصر التنوير ثم أخذت به منذ القرن التاسع عشر الإيديولوجيات القومية والماركسية والدينية. توقفنا عند نتاج معرفي جاهز. بينما سبل المعرفة تشعبت شعاباً خلال قرن ونصف، فكسرت طوق العقلانية المجردة بالانفتاح على حقول علمية أخرى، من علم اجتماع وعلم نفساني وانتروبولوجيا… بقينا على عقلانية مجردة جافة تتيح لنا أن نتلاعب بها كما نشاء، وفقا لمآربنا الواعية وغير الواعية. من هنا قدرتنا، نحن “المثقفين”، على اجتزاء الواقع وتشويهه لإكراهه على الاندراج في مشروعنا الخاص: هكذا فعل العسكري والإيديولوجي فينا منذ عقود. ومن هنا قدرتنا على تبديل مواقعنا جذرياً من الطرف إلى الطرف النقيض، فيما نحن نبرر لأنفسنا وللشعب سلامة منطقنا. هكذا انتقلنا من فكر إلى نقيضه، وفي كل الاتجاهات. ومن هنا أيضاً تعلُّقنا بالمواقف التكتيكية و«الشطارة» السياسية على حساب الهدف الذي ننادي به، وأصبحنا على شاكلة أي زعيم تقليدي لا تفيده المعرفة والوعي بقدر ما تفيده غريزة الاحتفاظ بالسلطة.

فيا شبيبة الحراك لا تلومونا. ذاك مدانا وشأونا. اتركونا وشأننا. لا تزيدوا من عذاب ضمائرنا… ألم نصبح في حِلّ من دَينكم بعد أن كرّمناكم بلقب شهيد؟ لكن، لا. دمكم لن يذهب هدراً. لقد وضعتم في ضمير شعب هذا الوطن، من المواطنين البسطاء الخالين من كل شهوة سلطة، بذرة ستنمو وتثمر ثقافة وحس مواطنة لم تلوثهما ذاتيتنا الضيقة. ستنتصرون علينا، فيما تنتصرون على المستبد وعلى الاستبداد. أنتم بناة الوطن. وجلّ من ينتظره الواعون بيننا هو المساهمة بلبنة متواضعة في بناء صرح لا يُقيمه إلا المواطن متكاتفاً مع المواطن، وبعيداً عن تعالينا الأحمق وعن عقلانيتنا المجردة الضيقة المبتذلة. فعليكم رحمة الوطن الآتي. ولا تأخذونا بخياناتنا الواعية وغير الواعية.

مرحى لنا نحن المثقفين المتشدقين بالديموقراطية، حين

صرنا صنواً للمستبد، فحولنا الوطن موبأة لا يكاد

يسمع فيه إلا النحيب، وأصبح أهلوه عالة على

العالم أجمع ينتظرون منه الغذاء والمسكن والدواء

ونظرة حنان يسيرة

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى