رستم محمودصفحات سورية

“عرب الثورة السورية” ومعطيات الإقليم/ رستم محمود

 

 

يبدو جلياً، أن تُركيا من خلال انخراطها المُباشر في الحرب السورية انطلاقاً من بلدة جرابلس، لا تسعى إلى تحطيم تنظيم «داعش» فحسب. فصبيحة بدء تلك العملية، طالب نائب الرئيس الأميركي جو بايدن من أنقرة، المُقاتلين الأكراد بالانسحاب السريع إلى شرق نهر الفرات. وفي اليوم التالي لبدء تلك العملية، أعلن الرئيس التُركي أن جيشه سيستهدف داعش والمُقاتلين الأكراد في قوات سورية الديموقراطية على حدٍّ سواء. لكن المُفارقة التي أوضحت كُل شيء كانت في أن القوات التُركية والمقاتلين المُتحالفين معها لم يخوضوا أي قِتالٍ يُذكر في مواجهة داعش. فعملية السيطرة على المدينة كانت أشبه بعملية تسليم واستلامٍ «ودية». لكن في الأيام التالية، بدأت هذه القوات بمهاجمة قوات سورية الديموقراطية، وقصفٍ مدفعي لقرى ومناطق من إقليم عفرين الكُردي البعيد من تلك الجغرافيا، ومن ثم رفضت تُركيا في شكلٍ علني أية هدنة يُمكن أن تُنجز مع تلك القوات الكُردية.

ثمة الكثير من الحجج والخطابات والاستراتيجيات التي يُمكن تُركيا أن تلعبها في محاولة إخفاء مراميها الحقيقية، لكنه يبدو واضحاً أن سحب أي إمكان لتأسيس منطقة سيطرة وحُكمٍ ذات طابع كُردي، أو حتى ذات طابعٍ يكون الكُرد شُركاء حقيقيين فيه، هو جوهر الاستراتيجية التُركية. فهي تبدو كأنها مُستعدة للتنازل للجميع، لإسرائيل وروسيا وإيران، وحتى للنِظام السوري، في سبيل تحطيم ذلك الإمكان.

عملياً، تبدو هذه الاندفاعة التُركية بالغة المواءمة لطرفين شديدي التباين في الساحة السورية. من جهةٍ، يعتبرُ النِظام السوري أن هذا الامتداد التُركي، في ما لو نجح، سيقضي على الطرف السوري الوحيد الذي بات يخلق مساحة سيطرة واضحة ضمن سورية، أي المشروع الكُردي، ويلقى قبولاً دولياً لسيطرته هذه. أما في حال الفشل، فذاك يعني ببساطة تحطيم المُناهضة التُركية للنظام السوري.

وعلى دفة مُباينة تماماً، فإن غالبية واضحة من التيارات الأصولية والأيديولوجية القومية العربية السورية المُعارضة، تبدو مُتناغمة تماماً مع هذا الزخم التركي. إذ ثمة مُركب بالغ التعقيد يدفعها الى المواءمة مع الهدف التُركي، مُركب مؤلف من الموالين للوعي القومي العربي غير القابل للاعتراف بالتنوع المُجتمعي والجغرافي للكيان السوري، ممن يعتبرون أن المسألة الكُردية تعكر صفاء مزاجهم وخيارهم الأيديولوجي. يطابقهم الكثير من المُنتمين إلى الجماعات التركمانية المُسلحة، الذين يشعرون بالانتماء والولاء التام لتُركيا. وإلى الطرفين، ثمة الإسلاميون الذين يستشعرون خطراً من المشروع القومي الكُردي، الذي يُعتبر خزاناً موضوعياً لـ «العلمانية»، كأي مشروع قومي تقليدي، وكذلك العشرات من التنظيمات السياسية السورية المعارضة، التي تستشعر تحالفاً سياسياً بين النظام وحزب الاتحاد الديموقراطي الكُردي، وبالتالي بين النظام و «الأكراد»، إذ الاتحاد أقوى وأكثر التيارات الكُردية هيمنة على المشهد العام.

مقابل جميع هؤلاء الأيديولوجيين الذين يتطابقون مع المشروع التركي في شكلٍ عضوي، ثمة تيار أوسع مع «العرب السوريين» الذين يُعتبرون ذوي «المشروع الديموقراطي» لسورية. فلهؤلاء مصلحة حقيقية في تحقيق أعلى درجات التوازن والتنوع في المُجتمع والكيان السوريين، لأنها الضمانة والاحتياط الحقيقي والموضوعي لتأسيس هذا «المشروع الديموقراطي» وديمومته، وحيث أن تحطيم أي فاعل مُجتمعي أو أهلي يُعتبر جزءاً من الآلية المُضادة لهذا المشروع. ضمن هذا الإطار، يأتي الحفاظ على الحضور الكُردي، واعتبار مسألة الحقوق الديموقراطية الكُردية من أهم روافع الدينامية الراهنة والمُستقبلية لحفظ المشروع الديموقراطي السوري. أما الدينامية الأخرى التي تمر عبر تحطيم الحضور السياسي والاجتماعي الكُردي، فهي العامل المُضاد في شكلٍ موضوعي لتلك الديموقراطية المأمولة، والتي كانت جوهر الثورة السورية.

ليس من خارج السياق التذكير بأن طبقة واسعة من المثقفين والسياسيين الأكراد فعلت شيئاً من ذلك سابقاً، فقد رفضت مُنذ البداية خلق توافق مع النِظام على حِساب «العرب» السوريين المُنخرطين في الثورة، ومن ثُم رفضت في شكلٍ كامل سياسة حزب الاتحاد الديموقراطي وسلوكياته، سواء منها تلك التي كانت تُسيء للعلاقة الكُردية العربية، أو التي تسعى الى خلق مساحة من الهيمنة الكُردية على حِساب الشركاء العرب، أو التي كانت تسعى الى خلق تفاهمات غير مُعلنة مع النِظام وتماهي سياساته. نتيجة تلك المناهضة الكردية لتلك السياسات والخيارات للطرف الكُردي الأقوى، دفع هؤلاء الأكراد الكثير من الأثمان، أقلها التعرض للابتزاز والتخوين والتحطيم المعنوي، وليس أكثرها التهجير والتحطيم والإلغاء السياسي. لكن هذه الكُردية كانت على الدوام مُصرة ومُستعدة لمناهضة «الإخوة» الأهليين لمصلحة ما كانت تؤمن به من مشروع ورؤية لمصلحة «سورية المُستقبل». والأمر نفسه مأمول من الشُركاء العرب السوريين، علماً أن الوقت لا يبدو متاحاً لذلك.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى