صفحات المستقبل

عرسال.. عرس بلا قرص


عمر حرقوص

يسير الشابان فوق دراجة نارية في وديان المنطقة الحدودية الفاصلة بين لبنان وسوريا، يلبسان ثياباً سميكة اتقاء للصقيع، ويغطيان وجهيهما بكوفيات ملونة اتقاء للهواء الشتائي، عملهما هو كشف الطريق أمام مهربي المازوت من سوريا إلى لبنان، يستكشفان الحواجز الأمنية والحدودية من بعيد لتمرير شاحنة المازوت الصغيرة.. هذا ما كان يقوم به الشابان في السنوات الماضية حيث يربحان بعض المال من عملهما الخطر، ولكنهما الآن صارا في هذا الموسم بلا عمل لأن عمليات تهريب المازوت توقفت عبر الحدود من هناك. بسبب انقطاع هذه المادة في سوريا وتحولها إلى سعر اعلى بكثير مما كانت عليه في العام الماضي.

شبان يعيشون في البقاع الشمالي مرارة فصل الشتاء وبرده، بظروف اقتصادية خانقة، يحاولون تأمين الحد الأدنى من مستلزمات حياتهم، وكذلك مساعدة أهاليهم، يركضون وراء اللقمة وهي تطير أمامهم، كما كانوا يطيرون في السابق امام “سيترن” المازوت على “الموتوسيكل.. وعالموتوسيكلي وعالموتوسيكلي وما احلى الخطيفة عالموتوسيكلي”، يحلمون بالزواج من باب الخطيفة والسكن بالايجار الرخيص جداً، في بيت يدلف أو السكن مع العائلة في بيتها الذي لا يسع الأب والأم والأخوة العشرة.

هموم فوق هموم، لكن الهم الابرز في الشتاء هو غلاء اسعار المحروقات، لاسيما سعر مادة المازوت، وهي الوسيلة الأساسية المعتمدة في غالبية المنازل للتدفئة. فاستهلاك الفرد يتراوح ما بين 5 الى 9 براميل طيلة فصل الشتاء الذي يمتد على ستة اشهر تقريباً. برد قارس والخطيفة لم تتم ولا أحد يمكنه أن يدفئ الجسد في الليالي الطوال إلا “صوبا” تعمل على المازوت او الحطب.

وفوق هذه الهموم هم جديد، ألغام “مرشوشة” عند الحدود توقف عمليات التهريب على أنواعها، مع انهم متهمون دائماً على عمل لا يستطيعون القيام به.

يجلس الشابان على طاولة صغيرة في أحد محال ميكانيك السيارات، ينظران إلى خط الحدود الجبلية الفاصلة، ويشربان الشاي الساخن عند صديقهم، يرويان الحكايا عن التهريب وايام العز حيث كانا في الليلة الواحدة يجمعان أكثر من مئة دولار يصرفانها على المشاوير والكزدورات وعلى “عزايم الصبايا عند الغرينز” المقهى الصغير في شتورة حيث يبتعدون لساعات عن قريتهم وحكي النساء وكل أنواع “اللت والعجن”.

حضرا فيلماً سينمائياً في بيروت، حرب مع الكثير من “الأكشن” على طريقة “رامبو” و”جان كلود فان دام”، وصلا إلى السينما وجلسا في المقعد الأمامي ليكونا قريبين إلى الشاشة فيشهدان المعارك قبل غيرهما من الحضور، انتهى الفيلم يومها بإشكال مع عدد كبير من الشبان، وبدل النوم في البيت ناما في أحد مخافر العاصمة، حيث تعرفا إلى حقيقة تاريخية أن السجن لا يربي الرجل بل يربي في كل زنزانة عدد كبير من الصراصير الزاحفة طوال الوقت إضافة إلى عدد من الجرذان والفئران المتسابقة لالتقاط قطعة خبز وقعت من سجين ما.

بحر بيروت أزرق كما قيل لهما ولكنه يومها كان رمادياً، والنساء في العاصمة لا يفهمن “التلطيشات” البقاعية، ولكن الدفء الموجود في سينما بيروت لا يمكن أن يخترقه برد البقاع مع أن فيلم “الأكشن” كان أبطاله يمثلونه في سيبيريا.

يأتي اتصال أن الرصاص الذي أطلقه “الشبيحة” السوريون اصاب شاباً، وأن شاباً آخر نقل من الجانب الآخر للحدود ووضعه صعب، يركبان سيارة “ستايشن” مع “الميكنسيان” ويمضيان إلى أقرب نقطة للدم، يريان دبابة من بعيد تراقب اي حركة وترميها بالنار.. يموت الشاب السوري المهرّب عبر الحدود بسبب النزيف، ويكاد يموت الشاب اللبناني لولا وصوله سريعاً إلى المستشفى.

ينتظران أخبار الشبان في سوريا، وقصص التظاهرات من القصير إلى تلكلخ الحدوديتين، يستمعان إلى الإذاعات القريبة من المنطقة تنقل أغاني علي الديك وفيروز عند الصباح.

في مكان آخر مقابل الحدود يكتب اياد عماشة قصة جده الذي عاش تحت الاحتلال في الجولان المحتل منذ العام 1967، يروي كيف أن الرجل “ظل طوال سنواته اللاحقة لاحتلال الجولان يستيقظ صباحاً وكل يوم ليفتح الراديو على إذاعة دمشق، ثم ينصرف بعدها لأعماله الأخرى بعد أن يكون قد استقى حاجته اليومية منها. لم يكن جدّي معجبا بما كانت تقدمه إذاعه دمشق، بل كانت إذاعة دمشق يومها صلة الوصل الوحيدة المتبقية له مع وطنه الضائع. كانت صور القنيطرة هي آخر ما اختزنته ذاكرته قبل الرحيل، وكانت إذاعة دمشق تعيد تلميع تلك الصور، بنفضها الغبار عن ذاكرة شيخ طاعن في السن، فكانت تكسبه لذة من نوع خاص. هو الوطن البعيد، ذلك الجرح النازف. توفي جدّي في عام ، بعيداً عن وطنه، وتوقف وطنه في الطريق من القنيطرة الى الجولان، وبقيت إذاعة دمشق تصدح.. وبقي وطن جدّي ضائعاً”.

يأتي المراقبون العرب إلى سوريا ولكن القتل لا يتوقف، تطلع قناة “الدنيا” السورية بأخبار عن قرى لبنانية ويصير المقتول متهما كما حصل مع الشبان الثلاثة في وادي خالد، لا ينتبه الناس ان خبر “الدنيا” هو محاولة لاقناع الناس بأن رجلاً اخرس قال لرجل اطرش أن رجلاً اعمى قد شاهد رجلاً مشلولاً يركض خلف رجل مقطوع اليدين كان يشد شعر رجل اصلع.

يهطل الثلج، ويستمر أهالي عرسال على يومياتهم، يزرعون ويدفعون الكثير ثمناً لصفيحة مازوت تقيهم شرّ البرد، ولكنها بالتأكيد لا تقيهم شرّ الرصاص المتطاير من خلف الحدود، ينتظرون حماية ولو تحت أي ستر مغطى من قبل دولتهم اللبنانية فلا يجدون إلا شتامين يرمون الكلام على عواهنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى