صفحات سورية

عرف عالمي وسوفتوير عربي (software)


    أكرم شلغين

    في التليفزيون الألماني، وفي التسعينات، رأيت مرة خبراً مفاده أن مجموعة أطباء عرب أساؤوا استخدام النظام الصحي الألماني وخسرت شركات التأمين مبالغ قيمتها كذا وكذا …، وقد أُعلن عن بعض الأسماء وقتها ومن بين أولئك تردد اسم طبيب عربي يقيم في برلين أساء إلى مؤسسات التأمين الصحية الألمانية وحصل على ما قيمته حينها مائة وعشرون ألف مارك منها وذلك بأكثر من شكل من أشكال الإساءة والغش كان أولها الزعم بتطبيب المريض لأكثر من مرض وتكرر زيارات المريض لعيادته وفي كل زيارة احتلف المرض واختلف العلاج وزادت الفاتورة على التأمين الصحي…، كان لي معرفة بذلك الطبيب تحديداً وفي كل مرة التقيته تمازحنا ولهذا لم يكن ذلك الخبر ليمر عادياً على أذني دون أن أتوقف عنده، وعندما رأيت ذلك الطبيب بعدها لم يمنعني الخجل من سؤاله عن تعليق لما رأيته في التليفزيون الألماني مركزاً على أن المجموعة التي أساءت لنظام التأمين بجميع من فيها هم من أصول عربية وليس بينهم طبيباً واحداً ألمانياً ! فكان جوابه مترافقاً مع ابتسامة تخلو من الخجل :” المشكلة هي مشكلة السوفتوير العربي”…(ليس زائداً أن أضيف هنا أن فعلة تلك المجموعة هي التي أدت لتغيير طريقة تعاطي شركات التأمين الصحي في ألمانيا مع الأطباء ووضعت قيوداً على جميع الأطباء تحد من امكانية كثيراً من إمكانية تلاعبهموتجعلهم يقبضون مرة في كل ربع من أرباع السنة عن نفس المريض حتى ولو زار الطبيب عدة مرات في الربع…!)

    أخال أن جواب الطبيب إياه و تعليله لما حصل لا يبتعد عن الحقيقة بهذا الخصوص إذا ما اعتبرنا الطباع والعادات والتقاليد والميل لاقتراف هذا الفعل أوذاك عندما لايوجد رقيب على المرء هي بمجملها مكتسبة من البيئة التي نشأ فيها المرء فقد انزرعت به بطريقة شبيهة بحد ذاتها بالسوفتوير (software) الذي يزرع في الهارد وير (hardware) والذي يتمثل في الجسد المادي، ويكون الاكتساب عن طريق ما ذُكر للتو والذي يمكن أن نسميه التنئشة (enculturation)… أي أن أداء الجسد، وبمختصر العبارة، يعتمد على ما بداخله من برامج ونصوص (programmes & scripts) تحدد مساره وتعاطيه عموماً أينما حل وكيفما كانت ظروفه…

    تذكرت السوفتوير العربي وأنا أقرأ هذا الصباح ما كتبه أحد الأصدقاء على صفحته على الفيس بوك عن رؤيته لما يجب فعله في المجتمعات العربية القادمة و التي يؤسس لها الربيع العربي، فكتب الصديق بكل تفاؤل عما سيكون ولا يكون في القادم العربي وسوريا تحديداً…وأنا أقرأ التفكير الرغبي (wishful thinking) للصديق إياه قلت في نفسي، وبحسرة، لن يكونوا أمناء لما ترعرعوا وكبروا عليه إن فكروا بمجتمعاتهم قبل أن يفكروا بمصالحهم الضيقة وألغوا “المحاصصة” كما يرغب الصديق الذي حرضني تفكيره على الكتابة والتعليق… فالمسألة ببساطة ـ ووفقاً لما نراه ـ أن أحداً لا يفكر بسورية المستقبل لا لتكون مثالا يحتذى به ولا لتتماشى مع روح العصر وقيمه ولا ليناسب شعب سورية بكامله، بل إن من يقاتل الآن وبنسبة شبه غالبة يفهم أن المطلوب في سورية هو إزاحة نظام آل الأسد ورموزه والحلول أو الجلوس مكانهم والتمتع بنفس ما تمتعوا به على مدى السنوات الأربعين الماضية…فما نراه لا يطمئن أن سورية المستقبل القريب (والمنظور!) ستكون إلا إقصائية بسياسة حكامها القادمون، هواجس لم تظهر من فراغ بل أتت من مجمل ممارسات تظهر بنهج حملة السلاح والذين يقارعون نظام الأسد (ومن يحمل السلاح سيفرض إرادته وبقوة نفس السلاح)، وهؤلاء لم يأتوا من مؤسسات ضليعة في الديمقراطية ولها باع طويل بها وتعي حقوق الإنسان وما له ـ وما عليه… بل أتوا بقضهم وقضيضهم من تجميع لأناس هم، بنهاية الأمر، كل شيء إلا الديمقراطية وحقوق الإنسان وفي المحصلة النهائية قادتهم العسكريين حقاً هم نتاج نفس المؤسسة العسكرية التي هندسها نظام الأسد…وهم يثورون ضدها ولا يثورون لإرساء ما يغايرها مستقبلاً، ويزيد في المخاوف تصريحات تأتي من أكاديميين سابقين أصبحوا لفترة ما رموزاً في المعارضة وقادوا هذا الفصيل أو ذاك بها، كحكاية الأكاديمي الذي يعيش في أوربا منذ عشرات السنين ـ ولم تنجح أوربا في تغيير سوفتويره عندما صرح لصحيفة أمريكية بكل وضوح أنه لن يسمح في المستقبل بأن يكون فصيلا من السوريين يعمل في هذا القطاع أو ذاك… ويزيدها أيضاً ما نقرأه ونراه عن ضرورة قمع و إخماد أي صوت مختلف عن صوتهم أو رأي لا يحابي آرائهم…. هنا تكمن المشكلة وهي أن القادم لن يكون مرضياً لعموم السوريين لأن من يقاتل من أجل التغيير لايوجد في مقدمة رأسه حتى تصوراً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والأعراف العالمية المتناسبة مع زماننا وإنما يوجد كيف سيزيح هؤلاء ليدلس مكانهم (وما يحصل في البيوت الحلبية التي يطرد سكانها ويجبرون على التوقيع على بيعها مثالاً) وليفكر بمصالح ضيقة جداً، وكما يقال، الرسالة تقرأ من عنوانها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى