ابرهيم الزيديصفحات الثقافة

عزف منفرد للفراغ النائم في ظلنا/ إبرهيم الزيدي

 

 

أن تكتب لامرأة عليك أن تعرف برجها. هذا ما كنت أقوله للأصدقاء. ذلك أن انتماء النساء يكون عادة إلى الأبراج ذات الصفات النارية والترابية والهوائية والمائية. لم أكن قد عرفتكِ آنذاك. كانت اعتقاداتي مبنية على أوهام ميتافيزيقية، فاكتشفتُ اثني عشر برجاً، ولم أجدكِ! تثاءبت أبواب العمر، وتنهدت نوافذ الروح، ورحت أبحث لي عن مكان بين الضحايا، قبل أن تعقد المآسي أواصرها، فالوقت الذي تغادر فيه الطائرات سماء المدينة، وجيزٌ للغاية، لا أستطيع خلاله أن أمحو وجبة القصف من على شاشة الذاكرة. تابوت طويل من الأسماء، فكيف لي أن أغض البصر عن الموت الذي يمشي عارياً أمامي. لم أستطع أن أنتظركِ كما ينبغي، وأنا أتسلى بإحصاء الشهداء، فكتبتكِ في يقيني، وغادرتُ كظلٍّ تخلّى عن صاحبه حين حلّ الظلام، وأقسمتُ أن لا أعود حتى يتوقف الأطفال عن الموت، وتتوقف زوارق القبر الأبيض المتوسط عن حمل الأحلام السورية إلى حتفها.

لقد تحولنا إلى مجرد أرقام، أهداف يتقن الجميع إصابتها. لا يزال الشعراء يرسمون غيومهم على دفاتر الشتاء، وقوس قزح ترسمها ابتسامات أطفالنا المفقودة. البلاد لا تزال بين فريقين، أحدهما يفكر في الآخرة بطريقة الحزام الناسف، والآخر يفكر في الدنيا بطريقة البراميل المتفجرة! أما دمنا، فهو إحدى الحقائق الزائفة، في وعي الفريقين على السواء.

يا لهذا الزمن الظالم في كل أنواع القسمة. حتى حصتنا من الحزن لم نعد نستطيع الحصول عليها.

لقد نجوتُ من الحرب كأيّ جبان، وتركتُ بيتي لأهلي يموتون فيه، وها أنا ضائع في غابة من علامات الاستفهام، أكتم خبر بكائي عن وكالات الأنباء، خشية أن يتحول إلى خبطة صحافية. أجلس في ظلّي كخريف مريض، بعدما تساقطت أوراق الأمل من حولي. يفترشني برد غيابكِ على أرصفة الغربة، وأتساءل: من سيربت قلبي حين يوجعني الوطن؟ مضت خمس سنوات إلى الجحيم، ولحقت الرقة بأختها البصرة، التي سبقتها إلى الخراب، ولا تزال بلاد ما بين النارين، تمشي حافية القلب، وترتدي أقوالها المأثورة. خمس سنوات ولم ينتعل رجال السياسة حذاء الحل.

لماذا لا يكون للموت في بلادي شهر كما للصوم، وموسم كما للحصاد، نبدأه بإطلاق الرصاص، والزغاريد المخنوقة بالعبرات، ونذهب في نهايته برفقة الكثير من الورود إلى المقابر. موسم نعود بعده إلى الحياة، إلى الحبّ، قبل أن تبرد القبلات. هذا الشكل الموقت للحياة لا يمكن تجاوزه بغير الحب، من حيث أن الحب هو الحالة الإنسانية الوحيدة التي تنقينا من التباسات المواقف.

متى يتوقف مسدس الفتاوى عن إطلاق المبالغات الفقهية، ويعود الله إلى الجوامع، وتعود الجوامع إلى الله؟ متى تعود الحرب من تعبها، ونسقط في إثم النسيان؟ من ذا الذي عليَّ أن أرفع إليه هذا النداء؟

ها أنا يوسف السوريّ الذي رماه أخوته في غياهب الحرب، ولم يجد في مصر عزيزاً تقتله زليخاه رمياً بالقبل. أنتظر الليل لعلّ إحدى السندريلات تترك لي حذاءها، لأتقمص دور الأمير. لقد أرهقت روحي صفة لاجئ.

لست في صدد كتابة رسالة لامرأة أحبها، ففي الحب تتوارى الرغبات خلف المشاعر. سأكتب لوطن امتلأت به أحلامي، لوطن أصبح كعين البندقية لا ترى سوى القذائف، لوطن تحوّل إلى كفن يبحث عن جنازات، لوطن جفّف حبر خيالنا، ولم يعد لصوته حبال نتمسك بها. ليتني قذيفة فاسدة، لعلي أنفجر في نفسي وأموت، ولا يتشقق قلبي كحيطان الطين حزناً عليه. كم يلزمه هذا المستنقع من أحجار، ليحرك ساكن الموت فيه؟ هل الموت هو الثقافة الوحيدة التي بموجبها ندخل التاريخ كعادتنا؟

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى