صفحات الرأي

عزمي بشارة يرى المجتمع المدني مُخفِقاً من دون شعارات المواطنة والديموقراطية والحرية والسيادة


الثورات العربية تثير المخاوف من غَلَبَة صراع الهويات على المشترك القومي

    جوزف باسيل

كانت سعادتي غامرة حين اكتشفت مصادفة في أمين البوعزيزي وغيره من الشباب المثقف الذين اشعلوا الانتفاضة في سيدي بوزيد، قرأوا كتباً مثل “المجتمع المدني” و”المسألة العربية” وتحاوروا فيها وحاوروني أيضاً، ، وكان ميدان التحرير في مصر يعج بالكتّاب والمثقفين… هذا ما كتبه عزمي بشارة في مقدمة كتابه “المجتمع المدني” الذي لا يرى تشكّله خارج مفاعيل شعارات: الديموقراطية والحرية والمواطنة والسيادة الوطنية.

يحاول بشارة في مقدمة الكتاب (400 صفحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) التموقع تاريخياً وجغرافياً، منطلقاً من أسئلة عن القضية الفلسطينية، وينهي بأسئلة عن الواقع العربي، ويتناول في أربعة فصول التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني كعملية تأريخ للتطور السياسي الغربي الحديث. والتشوهات التي لحقت بالمفهوم في تطبيقاته العربية.

والكتاب ثمرة جهد بحثاً ونقاشاً في إطار مؤسسة مواطن “المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية” حول موضوع الديموقراطية في الوطن العربي وفلسطين.

الكتاب نظري هدفه “تفكيك” حال الاستهلاك الرائج لمفهوم “المجتمع المدني”، بعدما فشا التعامل الصنمي الــ”فيتشي” مع هذا المفهوم. ويبيّن تطور المصطلح الفلسفي في الفكر السياسي، واختلاف معياره بعد انهيار الدول الاشتراكية، بحيث “استخدم بصورة مشوّهة للدلالة على كل ما هو ليس دولة”، كما يبيّن وظائف المفهوم المؤدية الى الديموقراطية، إذ تاريخه مرتبط بالسياسة والاقتصاد وبتطور نشوء فكرة المجتمع والدولة.

يفترض بشارة أن المفهوم يتستر على عملية إجهاض سياسية بمعاداة السياسة باسم الديموقراطية، ثم توارى الديموقراطية تحت شعار ان المعركة سياسية ليس خوضها هو الواجب، وإنما بناء المجتمع المدني.

ويبدو غير متصالح مع وجهة هذا المفهوم، مبرراً ان الديموقراطية العربية المتعثّرة هي في أمسّ الحاجة الى مفهوم المجتمع السياسي الديموقراطي “وليس الى الانتقال الى مفهوم غامض يسترخي خارج السياسة”، يمكن تطويعه في خدمة أنواع عدة من السياسات.

ويناقش إشكالية أن يصل مفهوم المجتمع المدني الى الدول العربية “متطابقاً مع ما هو ليس سياسياً”، فينقلب الى “عامل ما قبل حداثي بابعاد المثقفين من السياسة عبر أنماط من العمل المجتمعي غير السياسي المعتمد على التمويل الأجنبي، أو بالمراهنة على البنى الأهلية بوصفها “ليس دولة” مع أن وظيفتها ضد مدنية أيضاً، وليس لا دولتية فقط”.

“فرعون” محل “فرعون”

ويشير بشارة الى ظهور احباط المثقفين الحقيقيين من الاحتجاجات العربية “فمنهم من شكك بوجود دور للأيدي الخارجية محولاً الثورة الى مؤامرة، ومنهم من خاف وخوّف من التيار الاسلامي، لكن الحراك الثوري العربي الحالي كان له مثقفوه، خلافاً للادعاء السائد الذي يروّج في الغرب وكأنه لم تكن للثورة رموزها الثقافية”. والدليل ان الثورة الشعبية في مصر عاودت حركتها بعدما حلّ “فرعون” محل “فرعون”، لأن الناس صارت تتقبل أكثر من السابق أفكاراً ترتكز على الديموقراطية والمواطنة والحرية والسيادة والدولة وغيرها، وهذه العناوين صارت جذّابة تستطيع النخب ان تواجه بها الأفكار السلفية التي تجاوزها الزمن، وان تستقطب التوجهات المستقبلية.

ويرى ان الثورات العربية على الأنظمة أعادت الى الواجهة المجتمع السياسي الذي طواه البعض، عمداً أو سهواً، في مفهوم المجتمع المدني، “إذ تشهد المجتمعات العربية عملية اعادة تشكّل تعمل فيها الهوية العربية كخلفية ثقافية وجدانية مشتركة تبرز الهموم المشتركة موصلة الى الاحتجاج”. وبالتالي بعد الثورات العربية ينبغي ان لا يحجب المجتمع المدني الاحزاب السياسية، لأنها إذا تشكلت بطابع وطني عام توجّه قوى التغيير الديموقراطي في الدول العربية.

ان سير الاحتجاجات العربية بشعارات المواطنة والديموقراطية والحرية في الحراك السياسي في المجتمع المدني، يشكل رافعة أساسية لمجتمع سياسي حديث.

وميّز في التحليل بين الامة والقومية، مؤكداً أن مفهوم المواطنة الديموقراطية هو المجسّد للعلاقة بين السيادة السياسية وبين المجتمع المدني، وان المجتمع المدني هو صيرورة فكرية وتاريخية نحو المواطنة والديموقراطية عبر مجموعة من التمفصلات والتمايزات في العلاقة بين الفرد والجماعة أو بين المجتمع والدولة. وان تاريخ المفهوم مرتبط بالسياسة والاقتصاد وبتطور نشوء فكرة المجتمع والدولة.

قد يكون مفهوم المجتمع المدني حلّ محل المجتمع السياسي، الذي كان رائجاً في الأدبيات الماركسية – نظرياً طبعاً – وحين عَدَلت الأنظمة العربية بالحراك السياسي الديموقراطي الواجب، عن وجهته في التفاعل الشعبي الحقيقي، الى اغراق الناس في هموم القضايا القومية الكبرى أو الاهتمامات المعيشية الصغرى، عدلت بالتالي عن الحراك السياسي في المجتمع المدني الى المجتمع المحكوم بالقبضة البوليسية، الذي يرتجي مدنيته، فلما افتقدها طوال سنوات، مع استغلال الخارج للانفعالات الشعبية، صار المدني مسلحاً.

لا سياسي ولا مدني ب

حث المواطن العربي عن المجتمع المدني فلم يجده، وطلب حرية الرأي والتعبير فقمع، وطلب الأمان فديس بالأمن، وطلب الحياة الكريمة فأذل، وارتجى الحرية السياسية فخوّن، وصار المثقف والطليعي والنخبوي يتمسك بأهداب المجتمع المدني تعويضاً عن النكوص السياسي الذي وجد نفسه فيه، بعد وهن الحالة القومية واليسارية منذ تسعينيات القرن الماضي، والذي يتحول عجزاً. لكن يبدو أنه خسر المجتمع السياسي وافتقد المجتمع المدني.

إن شعار اسقاط النظام من دون ربط التغيير في المجتمع المدني بالديموقراطية لن يؤدي الى التغيير، وهذا ما حدث في مصر واليمن. كما أن المجتمع المدني كمجتمع مواطنين لا يتبلور بمعزل عن مسألة الدولة، بل من خلال عملية تفاعل معها. ويرى أن الثورات العربية تؤكد وجود الهوية العربية، لبناء أمم مواطنية غير متطابقة مع القومية، لأن الأمة المواطنية ليست قائمة على القومية ولا على الدين في الدولة الديموقراطية، وبالتالي لا تحسب غير العرب أو غير المسلمين أقليات، إلا ايجاباً، اي في مجالات الحقوق الثقافية الجماعية التي يطالبون بها.

تثير الاحتجاجات المخاوف، رغم الفرح المتجلي لدى المنتفضين ومؤيديهم، التخوف من ان التحدي الكبير الذي يواجهه المشرق العربي هو تحول الصراع ضد النظام الى صراع هويات لا يفتت المشترك القومي فحسب، بل يمنع تشكل أمة مواطنية أيضاً. إزاء هذا الخطر من واجب القوى الديموقراطية تأكيد البعد المدني للمواطنين جميعاً، والبعد الديموقراطي الذي لا يتعامل مع الأقلية الطائفية كأنها أقلية سياسية، ومع الأكثرية السياسية كأنها أكثرية سياسية، فهذا ليس تعبيراً عن نظام مدني على الاطلاق.

يخوض المجتمع المدني حالياً صيرورة على جبهات ثلاث:

1 – جبهة الديموقراطية والكرامة والحرية: ضد نظام الاستبداد وهو التحديث الثوري.

 2- جبهة السيادة: ضد التدخل الاجنبي لكون السيادة الوطنية وجهه الآخر.

3 – جبهة المواطنة: ضد مطابقة الانتماءات السياسية بالهويات الطائفية والمذهبية والقبلية أي ضد تشظية المجتمع المدني والكيان السياسي.

إن المعركة من أجل الديموقراطية هي معركة سياسية، معركة على السلطة، والمواطنة هي موضوعة المجتمع المدني الأساسية. والعرى لا تنفصل بين تشكيل الأمة وتشكيل المجتمع الذي يعني انتماء قائماً على المواطنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى